عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 25-08-2023, 11:55 AM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي مختصرة فى مسائل التوحيد،فى سؤال وجواب الشيخ عبد الرزاق عفيفي


تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
الكتاب: مذكرة التوحيد
المؤلف: عبد الرزاق عفيفي (المتوفى: 1415هـ)
الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية
الطبعة: الأولى، 1420هـ
عدد الصفحات: 152
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
[مقدمة في تعريف التوحيد وبيان الحكم وأقسامه]
مذكرة التوحيد
(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. وبعد:
فهذه كلمة مختصرة في جملة من مسائل التوحيد، كتبتها وفق المنهج المقرر على طلاب السنة الثالثة من كلية اللغة العربية، وأسأل الله أن ينفع بها، وتشتمل على مقدمة، ومسائل، وخاتمة.
مقدمة في تعريف التوحيد
وبيان الحكم وأقسامه 1 - تعريف علم التوحيد التّوحيد لغة: جعل المتعدّد واحدًا، ويُطلق على اعتقاد أن الشيء واحد متفرد، ويطلق شرعًا على تفرّد الله بالربوبية والألهية، وكال الأسماء والصفات.
وعلم التوحيد يبحث عما يجب لله من صفات الجلال والكمال، وما يستحيل عليه من كل ما لا يليق به، وما يجوز من الأفعال، وعما يجب للرسل والأنبياء، وما يستحيل عليهم، وما
(1/3)
يجوز في حقهم، وما يتصل بذلك من الإيمان بالكتب المنزلة، والملائكة الأطهار، ويوم البعث والجزاء، والقدر والقضاء، وفائدته تصحيح العقيدة، والسلامة في العواقب، ونيل السعادة في الدارين، واسمه: " علم التوحيد، وعلم أصول الدين ".
2 - بيان الحكم وأقسامه الحكم إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه. مثاله: محمد رسول الله، ومسيلمة ليس برسول.
وينقسم إلى ثلاثة أقسام: عقلي، وشرعي، وعادي.
فالعقلي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على تفكير دون توقف على شرع، ولا تجربة أو تكرار. مثاله: الله موجود، لا إله إلا الله.
والشرعي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على وحي من الله، مثل: الصلوات الخمس فريضة على المكلفين، ولا يجوز شرب الخمر.
والعادي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على تجربة أو تكرار مثل: الأمطار تكثر بالشواطئ.
وينقسم الحكم الشرعي إلى تكليفي: كوجوب الزكاة، وتحريم القمار، واستنان ركعتي الفجر، وكراهية الأكل باليسار،
(1/4)
وإباحة الطيبات من الطعام، والشراب، واللباس ونحوها.
ووضعي: كسببية دخول الوقت لوجوب الصلاة، وشرطية الطهارة لصحتها، وكمنع الجنون من وجوبها، والحدث من صحتها، ومن ذلك: الصحة، والفساد، والرخصة، والعزيمة.
وينقسم العادي إلى أربعة أقسام:
ربط وجود بوجود، كربط الشبع بالأكل، وربط عدم بعدم: كربط عدم المطر بعدم السّحاب، وربط وجود بعدم: كربط البرد بعد اللباس والغطاء، وربط عدم بوجود: كربط عدم الصحة بوجود ميكروب المرض.
وينقسم الحكم العقلي إلى ثلاثة أقسام: الوجوب، والاستحالة، والجواز.
فالواجب: هو الثّابت الذي لا يقبل الانتفاء لذاته: كثبوت العلم، والقدرة، والمحبَّة، والرِّضا، والوجه، واليدين، ونحوها من الكمالات للهّ، فإنها صفات ثابتة له- تعالى- لا تقبل الانتفاء.
والمستحيل: هو المنفي الذي لا يقبل الثبوت: كشريك الباري، والجمع بين النقيضين، ورفعهما، والجمع بين الضّدّين.
(1/5)
والجائز: ويقال له: "الممكن" هو ما يقبل الوجود والعدم: كالمخلوقات التي نشاهدها، فإنها كانت معدومة فقبلت الوجود، ثم بعد وجودها فهي قابلة للعدم. "وقد يطلق الواجب على الأمر الثابت من حيث تعلق علم الله بثبوته، وإن كان ممكنًا في ذاته ". ويسمى الواجب لغيره، كوجود إنسان على كيفية معينة في عصر معين، فإن وقوعه على تلك الصفة في ذلك العصر واجب، باعتبار تعلّق علم الله به كذلك، وإن كان ممكنا في ذاته.
وقد يُطلق المستحيل على أمر معدوم يجوز أن يوجد لكنه امتنع وجوده لتعلق علم الله ببقائه على العدم، ويقال له: المستحيل لغيره.
والذي يُحتاج إليه من أقسام الحكم في مباحث التوحيد، وعليه تدور مسائله، الحكم العقلي.
أما الشرعي: فيُبحث عنه في علم الفقه، وأصوله، وفي الأخلاق، وآداب السلوك.
وأما العادي: فله اتصال وثيق بالكونيات، وسنن الله فيها، وما يُجريه البشر عليها من التجارب، وما يُستفاد منها بالتَكرار.
ومعنى كون الوجوب والاستحالة والجواز حكما عقليا أنها لازمة لما حكم له بها، لا تقبل التخلف عنه ولا الانفكاك،
(1/6)
فقولنا: الله عليم وحكيم، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والضدان لا يجتمعان، قضايا لا تختلف أحكامها كما تختلف الأحكام العادية إكرامًا من الله لأوليائه، أو إثباتًا لرسالة رسله، وكما تختلف الأحكام الشرعية الفرعية بنسخ أو استثناء، وليس المراد أنها تثبت بالعقل دون نصوص الشرع، فإن نصوص الشرع قد جاءت بأصول الدين، وكشفت للعقل عما خفي عليه، وقصر عن إدراكه من تفاصيل عقائد التوحيد، وسلكت به طريق الحق، وهدته إلى سواء السبيل.
ولولا ما جاء فيها من البيان لارتَكَسَ العقل في حمأة الضلالة، وقام للناس العذر، وسقطِ عنهم التكليف، قال الله - تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا** [الإسراء: 15] وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا** [النساء: 165] وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى** [طه: 134] بل جاءت الرسل بما تُحار في إدراك حقيقته العقول، وتعجز عن فهم كُنْههِ الأفكار: كسؤال الميت في قبره، ونعيمه، وعذابه، وحياة أهَل النار في
(1/7)
النار، ولكنها لا تحيله، ولا تقوى على ردّه، ولا تجد لديها من الأدلة الصحيحة ما ينقضه، بل وصلت العقول بتيسير الله لها، وهدايته إياها إلى ما يصدق هذا، وأمثاله مما جاءت به الرسل، ووقفت بما أتاح اللهّ لها من الوسائل، وسخر لها من الكون، وهداها إليه من التجارب على حقائق سبق أن أنكرتها، وسخرت ممن تحدث بها، وربما رمته بالسحر، والكهانة، أو الخيال، والجنون.
وليس ذلك لشيء أكثر من أنها لم تقع تحت حسها، ولم تكن من إلفها، ومعهودها، فوجب أن تعترف بقصورها، وأن تقرّ بأن لِإدراكها غاية لا تعدوها، وحدا تقف عنده، وتؤمن بما صح من وحي الله لرسله، وأن تسلم وجهها إلى الله. فإن اتهمت فلتتَّهم نفسها بالقصور والتَقصير، دون أن تتَهم الله ورسله، فإنها بذلك أولى، وهي به أقعد.
قال- تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ** [فصلت: 53 - 54]
فإن حجب الإِنسان بعد ذلك ركوبه لرأسه، لجهالة، أو كبر،
(1/8)
أو هوى في نفسه، وحاول بالباطل ليدحض به الحق، غلب على أمره، ودارت عليه الدوائر. قال- تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ - لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ** [غافر: 56 - 57] وقال- تعالى-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ** [الجاثية: 23]
(1/9)
[مسائل المسألة الأولى إثبات أن العالم ممكن]
مسائل
(1/11)
المسألة الأولى
إثبات أن العالم ممكن إنَ ما شاهدناه في ماضينا من الكائنات، وما نشاهده منها في حاضرنا ممكن: أي جائز الوجود، والعدم؛ وذلك لأنَّا نراه يتحول من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى عدم، وهذا التغير والتحوُّل دليل إمكانه، إذ لو كان واجبًا لما سبق وجوده العدم، ولما لحقه فناء، ولو كان مستحيلا لما قبل الوجود لأن المستحيل لذاته لا يوجد، وحيث إننا قد شاهدناه موجودًا بعد عدم ثبت أنه ممكن.
(1/13)
[المسألة الثانية الممكن محتاج إلى موجد ومؤثر]
المسألة الثانية
الممكن محتاج إلى موجد ومؤثر وحيث ثبت أن العالم ممكن، والممكن ما استوى طرفاه - الوجود والعدم- بالنسبة إلى ذاته، فوجوده ليس من ذاته، وعدمه بعد وجوده ليس من ذاته، إذن لا بد له من سبب يرجح وجوده على العدم، إذ لو وجد بدون سبب خارج عن ذاته وحقيقته للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، وهو باطل؛ ولو أوجد الممكن نفسه للزم من ذلك أن يكون متقدمًا على نفسه باعتباره خالقًا لها، ومتأخرا على نفسه باعتباره مخلوقًا لها، وتقدّم الشيء على نفسه، وتأخره عنها محال بالضرورة لما فيه من التناقض الواضح، فثبت أن الممكن لا بدّ له من مُوجد غير ذاته وحقيقته، يوجده ويدبر شئونه في كل أحواله، هذا المغاير: إما المستحيل، وإما الواجب، لا جائز أن يكون موجده هو المستحيل؛ لأن المستحيل غير موجود فلا يؤثر، ولأن فاقد الشيء لا يُعطيه. فثبت أن مُوجده هو الواجب، وهو الله- تعالى-.
(1/14)
وقد أرشدنا الله- تعالى- إلى ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم.
قال- تعالى-: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ** [الطور: 35]
فقد أنكر- سبحانه- أن يكونوا قد خُلقوا بلا خالق، وأن يكونوا قد خَلقوا أنفسهم، فإذن لا بدّ لهم من خالق موجود مغاير لهم وهو الله- تعالى-.
ومن ذلك يتضح اتفاق الفطرة، والعقل السليم والسمع، على أن العالم محتاج إلى صانع، ومستند إلى موجد أوجده.
(1/15)
[المسألة الثالثة في إثبات وجوب الوجود لله سبحانه وتعالى]
المسألة الثالثة
في إثبات وجوب الوجود لله
-سبحانه وتعالى- إن لفظ الوجود، ومعناه المطلق، يشترك فيهما كل من الممكن والواجب، والحادث والقديم الأزلي. فالله يُوصف بأنه موجود، والحادث يُقال له- أيضًا-: إنه موجود، ولكن للممكن وجود يخصّه، فإنه حادث سبق وجوده عدم، ويلحقه الفناء، وهو في حاجة دائمة ابتداءً، ودوامًا، إلى من يكسبه، ويعطيه الوجود، بل يحفظه عليه. ولله- تعالى- وجود يخصّه، فهو- سبحانه- واجب الوجود لم يسبق وجوده عدم، ولا يلحقه فناء، ووجوده من ذاته لم يكسبه من غيره.
وذلك لأنه- تعالى- الغني عن كل ما سواه، وبذلك جاء السمع، وشهد العقل. أما السمع: فمنه قوله- تعالى-: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ** [الحديد: 3]
وأما العقل: فبيانه أنه- تعالى- لو كان مستحيل الوجود لم يصح أن يستند إليه الممكن في حدوثه بداهة؛ لأن المستحيل ما
(1/16)
لا يتصور في العقل وجوده، وفاقد الشيء لا يُعطيه.
ولو كان ممكنًا لافتقر في حدوثه إلى من يرجّح وجوده على عدمه لما تقدم، فإن استمرت الحاجة، فاستند كل في وجوده إلى نظير له من الممكنات لزم إما الدور القبلي (1) وإما التسلسل في
_________
(1) الدور السبقي، ويقال له القبلي: هو توقف الشيء على ما توقف عليه، وهو قسمان: مصرح، ومضمر.
فالمصرح ما كانت الواسطة فيه واحدة، مثاله كأن يقال مثلا: خالد أوجد بكرًا، وبكر أوجد خالدا، فبكر متوقف في وجوده على خالد ثم خالد توقف في وجوده على بكر والواسطة واحدة وهي بكر.
ويقال له: هذا دور بمرتبة. فإن تعددت المراتب كانت بحسبها، وهذا الدور باطل لما يلزمه من التناقض، إذ يلزمه أن يكون الشيء سابقًا لا سابقًا مؤثرًا لا مؤثرًا إلخ. بل يلزم أن يكون الشيء نقيض نفسه ضرورة المغايرة بين المتقدم والمتأخر، والأثر والمؤثر.
أما الدور المعي مثل توقف الأبوة على البنوة، والبنوة على الأبوة، فجائز. لأنه من باب الإضافات، وهي اعتبارية لا وجود لها، والتسلسل هو ترتب أمور بعضها على بعض بحيث يكون كل متأخر منها يتوقف في وجوده على سابق عليه. يكون علة له في وجوده إلى غير نهاية. ويسمى هذا النوع التسلسل في العلل، وفي المؤثرات، وهو باطل باتفاق العقلاء لما يلزمه من عدم وجود شيء من الحوادث، وهذا باطل بالمشاهدة.
وقد عرف السعد [هو مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، سعد الدين، من أئمة العربية، والبيان، والمنطق، ولد بتفتازان عام 712 هـ، وأقام بسرخس وأبعده تيمورلنك إلى سمرقند وتوفي فيها عام 793 هـ. له مصنفات عديدة] . في "شرح المقاصد" الدور، والتسلسل بعبارة جامعة لهما فقال: هما أن يتوالى عروض العلية والمعلولية لا إلى نهاية، بأن يكون كل ما هو معروض للعلية معروضا للمعلولية، ولا ينتهي إلى حالة تعرض له العلية دون المعلولية، فإن كانت المعروضات متناهية، فهو الدور بمرتبة إن كان اثنين، وبمراتب إن كانت المعروضات فوق اثنين، وإلا فهو التسلسل.
(1/17)
المؤثرات إلى ما لا نهاية، وكلاهما محال. وإذا انتفى عنه الإمكان. والاستحالة ثبت له الوجوب ضرورة. لأن أقسام الحكم العقلي ثلاثة، وقد انتفى اثنان، فتعين الثالث، وهو الوجوب فالله- تعالى- واجب الوجود.
وقد أرشدنا الله إلى ذلك في كثير من الآيات.
منها قوله- تعالى-:
(1/18)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ** [البقرة: 164]
وهذه الآية، وإن سيقت للاستدلال على توحيد الألوهية الذي تقدم قبلها في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ** [البقرة: 163] إلا أنها تدلّ دلالة قاطعة على توحيد الربوبية، فإن استحقاقه- تعالى- للعبادة، واختصاصه بها فرع عن وجوده، وانفراده بالخلق، والتدبير، والتصريف، والتقدير.
ومنها قوله- تعالى-: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ - نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ - عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ - وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ - أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ - أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ - لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ** [الواقعة: 58 - 65] إلخ الآيات من سورة الواقعة.
فهذه الآيات، وإن ذكرت لتنزيه الله- تعالى- وتقديسه عما
(1/19)
ظنه به منكرو البعث، وسيقت لِإثبات قدرته على المعاد. كما يرشد إليه ما قبلها من الآيات، فهي دليل- أيضًا- على وجوب وجوده- تعالى- لاستناد ما ذكر في الآيات من المخلوقات إليه. وحدوثه بقدرته، ولا يعقل ذلك إلا إذا كان واجب الوجود.
فمن نظر إلى ما ترشد إليه هذه الآيات، ونحوها من سنن الله في العالم نظرًا ثاقبًا، وفكر في عجائب خلقها، وحسن تنسيقها، وشدة أسرِها تفكيرًا عميَقَا، وبحث في أحكامها، وبديع صنعها بحثًا بريئَا من الهوى، والحمية الجاهلية، وأنصف مناظره من نفسه، فلم يمنعه من فهم ما عرض عليه من الحق، والإذعان له كبر يرديه، ولا عناد يطغيه، اتضح له طريق الهدى.
واضطره ذلك أن يستيقن النتيجة، ويؤمن من أعماق قلبه، بأن للعالم ربّا خلَاقًا فاعلًا مختارًا حكيمًا في تقديره، وتدبيره أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء قدير.
ومع قيام الدليل، ووضوح السبيل، تعامى فرعون موسى عن الحق، وتجاهل ما استيقنته نفسه، وأنكر بلسانه ما شهدت به الفطرة، ودل عليه العقل من وجود واجب الوجود، فأقام موسى عليه الحجة، بدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع، ووجود العالم، وعظم خلقه على وجود الخالق، وعظيم
(1/20)
قدرته، وسعة علمه، وكمال حكمته، فغلبه بحجته.
وذلك بيّن واضح فيما حكاه اللهّ عنهما من الحوار، والسؤال، والجواب:
قال- تعالى-: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ - قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ - قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ - قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ - قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ - قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ - قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ** [الشعراء: 23 - 29]
فانظر كيف وقف موسى موقف من يصدع بالحق، ويقيم عليه البرهان؟
وكيف وقف فرعون من موسى موقف السفهاء، لا يملك إلا الشتم، والسباب، والسخرية، والاستهزاء، والتهديد بأليم العذاب؟!! .
وقال- تعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا - قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا** [الإسراء: 101 - 102]
(1/21)
وقال- تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ - وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ** [النمل: 13 - 14]
وإن فرعون حينما أخذته الحجة، وانتصر عليه موسى، لم يبق بيده سلاح إلا التمويه على قومه، وإنذار موسى، ومن آمن به أن يذلهم، ويذيقهم العذاب الأليم.
وأنى له ذلك! والله من ورائهم محيط؟! وقد كتب على نفسه أن يجعل العاقبة للمتقين.
وقال- تعالى-: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا** [الإسراء: 103]
وقد ورث ذلك الزيغ، والإلحاد أناس ظهروا في عصور متعاقبة بأسماء مختلفة، واشتهروا بألقاب متنوعة.
فتارة يسمون بالدهريين: وأخرى برجال الحقيقة، ووحدة الوجود. وأحيانًا بالشيوعيين، وأخرى بالوجوديين. (اللقب الجديد) وآونة بالبهائيين.
إلى غير ذلك من العبارات التي اختلفت حروفها ومبانيها،
(1/22)
وائتلفت مقاصدها، واتحدت معانيها، فكلها ترمي إلى غرض واحد، وتدور حول محور واحد، هو أنه ليس للعالم رب يخلق ويدبر، وليس له إله يُعبد ويقصد.
وبما تقدم من دليل حاجة الممكن إلى موجد، ودليل وجوب وجوده- تعالى- يظهر لك فساد مذهبهم، وخروجه عن مقتضى النظر، وموجب العقل، وما يصدَق ذلك، ويؤيده من أدلة السمع.
فإن زعم زاعم منهم بعد ذلك، أن وجود العالم وليد الصدفة والاتفاق.
أو أنه نشأت أطواره عن تفاعل بين عناصر المادة، فتفرقت إلى وحدات بعد اجتماع، أو اجتمعت، وائتلفت بعد تفرق، واختلاف.
وصار لتلك الوحدات، أو المركبات من الخواص ما لم يكن لها قبل هذا التفاعل، وبذلك تجدّدت الظواهر، وحدث ما نشاهده من تغيير وآثار مع جريانها على سنة لا تتبدل، وناموس لا يختلف، ولا يتغير.
قيل له: من الذي أودع تلك المادة طبيعتها، وأكسبها خواصها، فإنها إن كانت لها من ذاتها، ومقتضى حقيقتها لم تقبل
(1/23)
التغير والزوال لأن ما بالذات لا يتخلف ولا يزول، وقد رأيناها تتبدل، فلا بدّ لها من واهب يهبها، وفاعل مختار حكيم عليم يدبّرها، ويضعها في محالّها، وليس ذلك من المادة وحدها، ولا من خواصها، أو طبيعتها القائمة بها، فإنها ليس لها من سعة العلم، وكمال الحكمة، وشمول المشيئة، وعظيم القدرة ما ينتظم معه الكون على ما نشاهد من إحكام تبهر العقول دقَّته وجماله، ومن إبداع يأخذ بمجامع القلوب ما فيه من شدة الأسر، وقوة الربط بين وحداته، وكمال التناسب، والتكافؤ بين أجزائه، وقيام كل من الآخر مقام الخادم من سيده، والراعي من رعيته.
ألا إن الطبيعة صمَّاء لا تسمع، بكماء لا تنطق، عمياء لا تبصر، جاهلة لا تعلم، مسخَّرة لمن أودعها المادة، خاضعة لتصريفه وتقديره، سائرة على ما رُسِمَ لها من سُنن لا تعدوها، ونواميس لا تخرج عنها، فأنى يكون لها خلق وإبداع أو إليها تنظيم وتدبير أو منها وحي وتشريع؟! إنَّما ذلك إلى الله وحده، تعالى الله عمَّا يقول الملحدون: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا** [الإنسان: 28]
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ** [الملك: 1 - 2]
(1/24)
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ - ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ - وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ** [الملك: 3 - 5]
ولا يعيب الحق بعد ذلك أن يتنكب طريقه من مسخت فطرته، واتَّخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه، وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، ولا يضير الدعاة إلى الحق أن عدل عن طريقه المستقيم من انحرف مزاجه، أو غلبته شهوته، فخشي أن تحدّ الشريعة من نزعاته الخبيثة، وتحول دون وصوله إلى نزواته الدنيئة، أو أطغاه كبره وسلطانه، وخاف أن تذهب الشريعة بزعامته الكاذبة، وسلطانه الجائر، فوقف في سبيلها، ولج في خصامها بغيًا وعدوانًا. فإن الله ناصر دينه، ومؤًيد رسله، وأوليائه.
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ** [الحج: 40]
{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ** [محمد: 7]
(1/25)
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ** [الشعراء: 227]
(1/26)
[المسألة الرابعة في أنواع التوحيد]
[توحيد الربوبية]
المسألة الرابعة
في أنواع التوحيد أنواع التوحيد: ثلاثة:
1 - توحيد الربوبية.
2 - توحيد الأسماء والصفات. ويقال له أيضًا: توحيد الخبر، وتوحيد المعرفة والإثبات.
3 - توحيد العبادة ويسمى - أيضًا -: توحيد الإلهية، وتوحيد الإرادة والقصد، وتوحيد الطلب.
توحيد الربوبية أما توحيد الربوبية: فهو توحيد الله- تعالى- بأفعاله. والإقرار بأنه خالق كل شيء ومليكه، وإليه يرجع الأمر كله في التصريف والتدبير.
فهو الذي يُحيي ويميت، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو الذي يرسل الرسل، ويشرعّ الشّرائع، ليُحق الحقّ بكلماته، ويُقيم العدل بين عباده شرعًا وقدرًا إلى غير ذلك مما لا
(1/27)
يُحصيه العد، ولا تُحيط به العبارة. وهذا النوع من التوحيد قد أقرت به الفطرة، وقام عليه دليل السمع والعقل، ولم يعرف عن طائفة بعينها القول بوجود خالقين متكافئين في الصفات والأفعال. ومن نقل عنهم من طوائف المشركين نسبة شيء من الآثار والحوادث لغير الله، كقوم هود، حيث قالوا فيما حكاه الله عنهم:
{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ** [هود: 54] فإن ما نسبوه إلى آلهتهم إنما كان لزعمهم أنها وثيقة الصلة باللهّ، وأنها شفيعة لمن عبدها، وتقرب إليها بالقرابين عند الله، في جلب النفع له، ودفع الضرّ عنه.
ومن أجل هذه الشائبة من الشرك في الربوبية نبه الله على بطلانه، وأنكر على من زعمه فقال- تعالى-: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ** [المؤمنون: 91 - 92]
فبين- سبحانه- أنه لو كان معه إله يشركه في استحقاقه العبادة لكان له: خلق، وملك، وقهر، وتدبير. إذ لا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، ليرجى خيره ونفعه، فيطاع أمره،
(1/28)
وينفذ قصده، ويخشى بأسه وبطشه. فلا يعتدى على حدوده، ولا يُنتهك حماه، ولو كان له خلق، وتدبير، وملك، وتقدير لعلا على شريكه، وقهره إن قوي على ذلك ليكون له الأمر وحده، ولذهب بخلقه، وتفرد بملكه دون شريكه. إن لم يكن لديه القوة والجبروت ما يفرض به سلطانه على الجميع. فإن من صفات الرب- تعالى- كمال العلو، والكبرياء، والقهر، والجبروت. وفي معنى هذه الآية قوله- تعالى-:
{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا** [الإسراء: 42]
إذا كان المعنى المراد لاتخذوا سبيَلاَ إلى مغالبته. وقيل: المعنى لاتخذوا سبيلا إلى عبادته، وتأليهه، والقيام بواجب حقه. وابتغوا إلى رضاه سبيلا. كما قال- تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا** [الإسراء: 57]
وقد استخلص بعض العلماء من ذلك دليلا سموه: دليل التمانع، استدلوا به على توحيد الربوبية. قالوا: لو أمكن أن يكون هناك ربان يخلقان، ويدبران أمر العالم لأمكن أن يختلفا
(1/29)
بأن يريد أحدهما وجود شيء، ويريد الآخر عدمه، أو يريد أحدهما حركة شيء، ويريد الآخر سكونه. وعند ذلك إما أن يحصل مراد كل منهما، وهو محال. لما يلزمه من اجتماع النقيضين، وإما أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر فيكون الذي نفذ مراده هو الرب دون الآخر لعجزه، والعاجز لا يصلح أن يكون ربا.

[توحيد الأسماء والصفات]
توحيد الأسماء والصفات وأما توحيد الأسماء والصفات: فهو أن يسمى الله ويوصف، بما سمى ووصف به نفسه، أو سماه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تأويل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
ومن تبصر في العالم، وعرف شئونه وأحواله تبين له كمال تعلقه خلقًا وأمرًا بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وارتباطه بها أتم ارتباط، وظهر له أن الوجود كله آيات بينات، وشواهد واضحات على أسماء الله، وصفاته.
وقد ذكر (ابن القيم) في: " مدارج السالكين " طريقين لِإثبات الصفات:
(1/30)
1 - الوحي الذي جاء من عند الله- تعالى- على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
2 - الحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة قال- رحمه الله تعالى- في بيان الطريق الأول:
فأما الرسالة فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتًا مفصلا على وجه أزال الشبهة، وكشف الغطاء، وحصل العلم اليقين، ورفع الشكّ المريب، فثلجت له الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر به الإيمان في نصابه. ففصلت الرسالة الصفات، والنعوت، والأفعال، أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير. فما أبلغ لفظه وأبعده من الإجمال، والاحتمال، وأمنعه من قبول التأويل، ولذلك كان التأويل لآيات الصفات، وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد، وأخباره. بل أبعد منه. لوجوه كثيرة ذكرتها في كتاب: " الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ". بل تأويل آيات الصفات بما يخرجها عن حقائقها، كتأويل آيات الأمر والنهي سواء، فالباب كله باب واحد، ومصدره واحد، ومقصده واحد، وهو إثبات حقيقتها، والإيمان بها.
وكذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم. وقالوا: فعلنا فيها،
(1/31)
كفعل المتكلمين في آيات الصفات، بل نحن أعذر. فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات، والعلوم، وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير، فإذا ما ساغ لهم تأويلها، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد!
وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر، والنهي، وقالوا: فعلنا فيها، كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها، وتنوعها، وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية. قالوا: وما يظن أنه معارض من العقليات لنصوص الصفات، فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد من جنسه، وأقوى منه.
وقال متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها، وظواهرها، والذي سوغ لنا هذا التأويل القواعد التي اصطلحتموها لنا، وجعلتموها أصلًا نرجع إليه، فلما طردناها كان طردها أن الله ما تكلم بشيء قط، ولا يتكلم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا له صفة تقوم به، ولا يفعل شيئًا.
وطرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والثواب، والعقاب، وقد ذكرنا في كتاب الصواعق أن تأويل آيات الصفات، وأخبارها بما يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا والدين، وزوال الممالك، وتسليط
(1/32)
أعداء الإسلام عليه إنما كان بسبب التأويل. ويعرف هذا من له اطلاع، وخبرة بما جرى في العالم.
ولهذا يُحرِّم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم بصحته؛ لأنه سبب لفساد العالم، وتعطيل للشرائع. ومن تأمًل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة علم قطعًا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها، فإنها وردت على وجه لا يحتمل التأويل بوجه. فانظر إلى قوله- تعالى-:
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ** [الأنعام: 158] هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب- جلّ جلاله- بإتيان ملائكته وآياته؟ وهل يبقى مع هذا السياق شبهة أصلا في أنه إتيانه بنفسه!
وكذلك قوله- تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ** [النساء: 163] إلى أن قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا** [النساء: 164]
ففرق بين الإيحاء العام، والتكليم الخاص، وجعلهما نوعين، ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون. كذلك قوله:
(1/33)
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا** [الشورى: 51]
فنوع تكليمه إلى تكليم بواسطة، وتكليم بغير واسطة، وكذلك قوله لموسى عليه السلام:
{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي** [الأعراف: 144] ففرق بين الرسالة، والكلام. والرسالة إنما هي بكلامه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو ليس بينه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوًا ليس دونها سحاب» (1) ومعلوم أن هذا البيان، والكشف، والاحتراز ينافي إرادة التأويل قطعًا، ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين.
الطريق الثاني: من طرق إثبات الصفات دلالة الصفة عليها، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، وعلى حياته، وعلى قدرته، وعلى علمه، ومشيئته. فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزامًا ضروريا. فما فيه من الإِتقان، والإحكام، ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من
_________
(1) "مختصر صحيح مسلم" (86) و" صحيح الجامع الصغير " (6905) عن أبي هريرة- رضي الله عنه-.
(1/34)
الإحسان، والنفع، ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه، وإحسانه، وجوده، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال.
وخالق الأسماع، والأبصار، والنطق أحق أن يكون سميعًا بصيرا متكلمًا.
وخالق الحياة، والعلوم، والقدر، والإرادات أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه، فما في المخلوقات من أنواع التخصيصات هو من أدل شيء على إرادة الرب- سبحانه- ومشيئته، وحكمته التي اقتضت التخصيص، وحصول الإجابة عقيب سؤال الطالب على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات، وعلى سمعه لسؤال عبيده، وعلى قدرته على قضاء حوائجهم، وعلى رأفته ورحمته بهم، والإحسان إلى المطيعين، والتقرب إليهم، والإكرام لهم، وإعلاء درجاتهم يدل على محبته ورضاه. وعقوبته للعصاة، والظلمة، وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدل على صفة الغضب. والسخط، والإبعاد، والطرد، والإقصاء يدل على المقت، والبغض.
فهذه الدلالات من جنس واحد عند التأمل، ولهذا دعا - سبحانه - عباده إلى الاستدلال بذلك على صفاته. فهو يثبت
(1/35)
العلم بربوبيته، ووحدانيته، وصفات كماله بآثار صنعته المشهودة، والقرآن مملوء بذلك، فيظهر شاهد اسم الخالق من المخلوق نفسه، وشاهد اسم الرازق من وجود الرزق، والمرزوق، وشاهد اسم الرحيم من شهود الرحمة المبثوثة في العالم، واسم المعطي من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة واحدة، واسم الحليم من حلمه على الجناة، والعصاة، وعدم معاجلتهم بالجزاء، واسم الغفور، والتواب من مغفرة الذنوب، وقبول التوبة. ويظهر اسم الحكيم من العلم بما في خلقه، وأمره من الحكم، والمصالح، ووجود المنافع.
وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره. يعرفه من عرفه، ويجهله من جَهِلَه. فالخلق، والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته. وكل سليم العقل، والفطرة يعرف قدر الصانع. وحذقه على غيره، وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة صنعته فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوي والسفلي، وهذه المخلوقات من بعض صنعه، وإذا اعتبرت المخلوقات، والمأمورات وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت، والصفات، وحقائق الأسماء الحسنى، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى، ومكابرة، ويكفي ظهور شاهد
(1/36)
الصنع فيك خاصة، كما قال- تعالى-:
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ** [الذاريات: 21] فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب- جل جلاله- ونعوته، وأسمائه، هي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى، وحقائقها، وتنادي بها وتدل عليها، وتخبر بها بلسان النطق والحال، كما قيل:
تأمل سطور الكائنات فإنها ... في الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملتها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل
فلست ترى شيئًا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها، ونعوت كماله، وحقائق أسمائه. وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها فهي تدل عقلا، وحسا، وفطرة، ونظرًا، واعتبارا. اهـ.
(1/37)
[توحيد الإلهية]
توحيد الإلهية وأما توحيد الإِلهية: فهو إفراد الله بالعبادة: قولا، وقصدا، وفعلًا، فلا يُنذر إلا له، ولا تُقرب القرابين إلا إليه، ولا يُدعى في السَراء والضراء إلا إياه، ولا يُستغاث إلا به، ولا يُتوكل إلا عليه، إلى غير ذلك من أنواع العبادة.
وهذا النوع هو الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وبدأ به كل رسول دعوته، ووقعت فيه الخصومة بينه وبين أمته.
وهو الذي من أجله شرع الجهاد، وقامت الحرب على ساقها بين الموحّدين والمشركين.
والطريق الفطري لِإثبات توحيد الإلهية الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية. فإن قلب الإِنسان يتعلَق أولا بمصدر خلقه، ومنشأ نفعه وضرّه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقربه إليه، وترضيه عنه، وتوثق الصلات بينه وبينه، فتوحيد الربوبية باب لتوحيد الإلهية.
من أجل ذلك احتجّ الله على المشركين، وقرّرهم وأرشد رسوله إلى هذه الطريقة، وأمره أن يدعو بها قومه، قال- تعالى-:
(1/38)
{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ** [المؤمنون: 84 - 89]
فقد استدل بتفرده بالربوبية، وكمال التصرف، وحمايته ما يريد أن يحميه، على استحقاقه وحده للعبادة، ووجوب إفراده بالإلهية قال- تعالى-: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ** [النحل: 1] فأخبر بأن البعث آت لا محالة، ونزّه نفسه عما زعمه المشركون من الشركاء، ثم استدل- سبحانه- على قدرته على البعث، وتفرده باستحقاقه الإلهية بآياته الكونية، فقال- تعالى-: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ - وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ** [النحل: 4 - 5]
إلى قوله- تعالى-: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ - وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ - وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ - أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ** [النحل: 17 - 21]
(1/39)
{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ** [النحل: 22] وقال- تعالى-:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ** [البقرة: 21] إلى أن قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ** [البقرة: 22] فجعل- سبحانه- تفرده بالربوبية خلقًا للحاضرين والسابقين، وتمهيده الأرض، ورفعه السماء بغير عمد يرونها، وإنزاله الأمطار ليحيي بها الأرض بعد موتها، ويخرج بها رزقًا لعباده بابًا إلى توحيد الإِلهية وآية بيّنة على استحقاقه وحده العبادة. وقال- تعالى-:
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ** [يونس: 31] إلى أن قال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ** [يونس: 35]
فقررهم- سبحانه- بما لا يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق، والملك، والتدبير، والإِحياء، والإماتة، والبدء، والإعادة، والإرشاد، والهداية ليقيم به عليهم الحجة في وجوب تقواه دون سواه.
وينكر عليهم حكمهم الخاطئ، وشركهم الفاضح،
(1/40)
وعكوفهم على من لا يملك لهم ضرا ولا نفعًا، ولا حياة ولا نشورًا. قال- تعالى-:
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ - أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ** [النمل: 59 - 60] إلى قوله - تعالى-: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ** [النمل: 64] (1) [سورة النمل، الآيات: 59- 64] .
فأنكر- سبحانه- أن يكون معه من خَلَقَ، ودبر، أو صرف، وقدَّر، أو يُجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السّوء، أو يولي، أو يعزل، وينصر، ويخذل، أو يُنقذ من الحيرة، ويهدي من
_________
(1) وتمامها: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .
(1/41)
الضلالة، أو يبدئ ويعيد، ويبسط الرزق لمن يشاء، ويَقْدِر. إلى غير ذلك مما استأثر الله به.
وهذا مما استقرّ في فطرتهم، ونطقت به ألسنتهم، وبه قامت الحجة عليهم فيما دعتهم إليه الرسل من توحيد العبادة. وما ذكر من الآيات قليل من كثير.
ومن سلك طريق القرآن في الاستدلال، واهتدى بهدي الأنبياء في الحجاج اطمأنت نفسه، وقوي يقينه، وخصم مناظره (أي انتصر عليه) . فإن في ذلك الحجة، والبرهان من جهتين:
الأولى: أنه خبر المعصوم.
والثانية: أنه موجب الفطرة، ومقتضى العقل الصحيح.
(1/42)
[المسألة الخامسة في الفرق بين النبي والرسول وبيان النسبة بينهما]
المسألة الخامسة
في الفرق بين النبي والرسول
وبيان النسبة بينهما النبي: مشتق من النبأ، بمعنى: الخبر، فإن كان المراد أنه يخبر أمته بما أوحى الله إليه، فهو فعيل، بمعنى: فاعل، وإن كان المراد أن الله يخبره بما يوحي إليه، فهو فعيل، بمعنى: مفعول، ويصح أن يكون مأخوذًا من النًبء (بالهمزة وسكون الباء) ، أو النبوة، أو النباوة (بالواو) ، وكلها بمعنى: الارتفاع والظهور، وذلك لرفعة قدر النبي، وظهور شأنه، وعلوَ منزلته.
والفرق بين النبي والرسول: أن الرسول من بعثه الله إلى قوم، وأنزل عليه كتابًا، أو لم ينزل عليه كتابًا لكن أوحى إليه بحكم لم يكن في شريعة من قبله؛ والنبي من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتابًا، أو يوحي إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ، وعلى ذلك، فكل رسول نبي، ولا عكس، وقيل: هما مترادفان، والأول أصح.
(1/43)
[المسألة السادسة في إمكان الوحي والرسالة]
المسألة السادسة
في إمكان الوحي والرسالة الوحي لغة: الإعلام في خفاء بإشارة، أو كتابة، أو إلهام، أو مناجاة، أو نحو ذلك.
وشرعًا: هو إعلام الله نبيه بحكم شرعي، ونحوه، بواسطة، أو بغير واسطة.
ولا يبعد في نظر العقل، ولا يستحيل في تقدير الفكر، أن يختص واهب النعم، ومفيض الخير بعض عباده: بسعة في الفكر، ورحابة في الصدر، وكمال صبر، وحسن قيادة، وسلامة في الأخلاق، ليعدّهم بذلك لتحمّل أعباء الرسالة، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم، ويوحي إليهم بما فيه سعادة الخلق، وصلاح الكون، رحمةً للعالمين، وإعذارًا إلى الكافرين، وإقامة للحجة على الناس أجمعين، فإنه- سبحانه- بيده ملكوت كل شيء، وهو الفاعلِ المختار، لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، ولا رادّ لما قَضى، وهو على كل شيء قدير.
وآية ذلك أنًا نشاهد أن الله- سبحانه- خلق عباده على
(1/44)
طرائق شتى في أفكارهم، ومذاهب متباينة في مداركهم، فمنهم من سما عقله، واتسعت مداركه، واطلع من الكون على كثير من أسراره، حتى وصل به ثاقب فكره، وانتهت به تجاربه إلى أن اخترع للناس ما رفع أولو الألباب من أجله رءوسهم إليه، إعجابًا به، وشهادة له بالمهارة، وأنكره عليه صغار العقول حتى عدوه شعوذة، وكهانةً، أو ضربًا من ضروب السحر، ولا يزالون كذلك حتى يستبين لهم بعد طول العهد، ومرّ الأزمان ما كان قد خفي عليهم، فيذعنوا له، ويوقنوا بما كانوا به يكذّبون، ومنهم من ضعف عقله، وضاقت مداركه، فعميت عليه الحقائق، واشتبه عليه الواضح، فأنكر البدهيات، وردّ الآيات البينات، بل منهم من انتهى به انحراف مزاجه، واضطره تفكيره، إلى أن أنكر ما تدركه الحواس كطوائف السونسطائية (1) .
_________
(1) السونسطائية ثلاث فرق الأولى: العنادية وهي التي تنكر حقائق الأشياء الحسية، والعقلية، وتكذب حواسها، وعقلها فيما تشاهد. أو تدرك وتراه وهمًا وخيالَاَ. الثانية: اللاأدرية: وهي التي تشك في حقائق الأشياء، وتتردد فيها فتقول: لا أدري، ألها وجود أم لا؟ الثالثة: العندية: وهي التي ترى أن ليس للأشياء حقيقة ثابتة في نفسها، بل تتبع إدراك، من أدركها وعقيدة من خطرت بباله، وهذه المذاهب باطلة بضرورة الحس، والعقل. والقائلون بها قد سقطوا عن رتبة البحث والمناظرة.
(1/45)
وكما ثبت ذلك التفاوت بين الناس في العقول بضرورة النظر، وبديهة العقل، ثبت التفاوت بينهم- أيضًا- في قوة الأبدان وضعفها، وسعة الأرزاق وضيقها، ونيل المناصب العالية، والاستيلاء على زمام الأمور، وقيادة الشعب، والحرمان من ذلك، إما للعجز أو القصور، ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا. وإما لحكمة أخرى يعلمها مدبّر الكائنات؛ وربما كشف عن كثير منها الغطاء لمن تدبر القرآن، وعرف سيرة الأنبياء، وتاريخ الأمم، ومما جرى عليها من أحداث.
فمن شاهد ما مضت به سنة الله في عباده من التفاوت بينهم في مداركهم، وقواهم، وإرادتهم، وغير ذلك من أحوالهم، لم يسعه إلا أن يستسلم للأمر الواقع، ويستيقن بأن لله أن ينبئ من يشاء من خلقه، ويصطفي من أراد من عباده.
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا** [النساء: 165]
(1/46)
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ** [القصص: 68] {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ** [الزخرف: 31 - 32]
إن الحوار الذي دار بين الرسل وأممهم يدل على أنهم لم يكونوا ينكرون الرسالة، ولم يكونوا يستبعدون حاجتهم إلى هداية من الله عن طريق روح طيبة يختارها الله لوحيه، أو نفس طاهرة يصطفيها لتبليغ شرعه، لكنهم استبعدوا أن يكون ذلك الرسول من البشر، وظنوا خطأ أنه إنما يكون من الملائكة، زعمًا منهم أن البشرية تنافي الرسالة، فمهما صفت روح الإنسان، وسمت نفسه، واتَسعت مداركه، فهو في نظرهم أقل من أن يكون أهلا لأن يُوحي الله إليه، وأحقر من أن يختاره اللهّ لتحمُل أعباء رسالته.
ومن نظر في الكتب المُنزلة، وتصفَح ما رواه علماء الأخبار، اتضح له ما ذكر من إمكان الوحي، وحاجة الناس إليه.
(1/47)
قال الله- تعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ** [هود: 25 - 27]
وقال- تعالى-: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ - فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ - أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ** [القمر: 23 - 25]
وقال- تعالى-: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ - إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ - قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ** [يس: 13 - 15]
وقال- تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا** [الأنعام: 91]
(1/48)
وقال- تعالى-: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ - قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ** [إبراهيم: 10 - 11]
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة