عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 24-04-2023, 09:49 PM   #1
معلومات العضو
الماحى3

افتراضي سيرة الصحابي : سيدنا الطفيل بن عمرو الدوسي لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.

الدرس 15\ 50 سيرة الصحابي : سيدنا الطفيل بن عمرو الدوسي لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي.
التاريخ : الاثنين مساءً 18/01/1993
تفريغ : السيد أحمد مالك
التدقيق اللغوي : الأستاذ غازي القدسي
التنقيح النهائي : المهندس غسان السراقبي .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علَّمتنا وزدنا علما ، و أرنا الحق حقًّا و ارزقنا اتِّباعه ، و أرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الأكارم :
مع الدرس الخامس عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين ، و صحابي اليوم سيدنا الطُّفيل بن عمرو الدوسي ، لهذا الصحابي الجليل قصةٌ مثيرة جدًّا يرويها هو بالذات ، فنحن مع قصته بروايته ، و لكن قبل أن نبدأ برواية قصته أقدِّم لكم نبذةً عن هذا الصحابي .
الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة دوس ، و كان زعيم قبيلته ، و بالمناسبة كل إنسان له مكانة فهذا له حساب خاص ، إن أحسن فله أجران و إن أساء يُضاعف له العذاب ضعفين ، لماذا ؟ لأنه قدوة ، الأب غيرُ الابن ، إذا الأب دخَّن يُحاسب مرتين ، إذا الأب كذب يحاسب مرتين ، قال تعالى :

(سورة الأحزاب)

(سورة الأحزاب)
إذًا عليَّة القوم ، مدير مستشفى ، مدير ثانوية ، عميد كلية ، قائد في سرية كلما علاَ منصبُك فلك حساب خاص ، سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا جمع أهله و خاصته قال : إني قد أمرت الناسَ بكذا و نهيتهم عن كذا ، و الناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا وايمُ الله لا أُوتيَنَّ بواحد وقع فيما نهيت الناسَ عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني " فصارت القرابةُ من عمر مصيبة ، إذًا انتبِه ، الأب غير الابن ، و مدير الثانوية غير المدرِّس ، و المدرس غير الطالب ، المتعلِّم غير الجاهل ، الغني غير الفقير ، عميد الأسرة غيرُ أحد أفرادها ، فأيُّ خطأ يرتكبه من كان في القمة فهذا يُعمَّم ، و يقلَّد .
عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ الصُّوفُ فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ فأبطئوا عَنْهُ حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ قَالَ ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ *
(رواه مسلم)
ملخَّص هذا الكلام شخص القدوة له حساب خاص ، إن أحسن فأجره مضاعف ، أجر نفسه و أجر من قلَّده ، و إن أساء فعقابه مضاعف عقابه على خطئه و عقابه على كل من اقتدى به في خطئه ، طبعاً سترون بعد قليل كيف أن هذا الصحابي الجليل ، الطفيل بن عمرو الدوسي ، لأنه زعيم قبيلة ، و لأنه سيد قبيلة لما أسلم أسلمَت كلُّ قبيلته فإذا كان لك شأن فممكن بهذا الشأن العالي أن ترقى إلى أعلى عليِّين ، و يمكن بهذا الشأن العالي أن تهوي إلى أسفل سافلين، أتباعك المعجبون بك ، الذين يرونك في مكان عالٍ ، والذين أنت ملءُ سمعهم وبصرهم ، هؤلاء إن قلَّدوك لإحسانك ارتقيتَ مرتين ، و إن قلَّدوك بإساءتك عوقبت مرتين ، فكل إنسان في موضع القيادة ، و في مركز مرموق ، في مركز وجيه له سمعته و له أسرته ، عميد أسرته ، هذا له حساب مضاعف ، و لا أبالغ بأن محور هذه القصة أنك إن كانت لك مكانة و أسلمت ، فكلُّ من حولك يقلِّدونك ، فكان هذا الصحابي في الجاهلية سيد قبيلة دوس ، و شريفا من أشراف العرب المرموقين وواحدا من أصحاب المروءات المعدودين ، لا تنزل له قِدرٌ عن نار و لا يوصد له باب أمام طارق ،و العرب كنّوا عن الكرم بقولهم : فلان لا يُغلق بابه ، أو فلان لاتطفأ نارُه ، أو فلان كثير الرماد ، و كنُّوا عن البخل كما قال الشاعر :
بيضُ المطابخ لا تشكو إماؤهم طبخَ القدور و لا غسل المناديلِ
فالأمور عند هؤلاء منتظمة جدا ، لأنه لا ضيوف يحلون ، و لا امتلأ البيت يوماً ، بينما الكريم لا يُغلق بابه و لا تُطفأ ناره ، و هو كثير الرماد ، و هذه من الكنايات التي أَلِفها العرب في كلامهم ، كان هذا الصحابي في الجاهلية يطعم الجائع و يؤَمِّن الخائف و يجير المستجير وهو إلى ذلك أديب لبيب أريب ، و بالمناسبة من كان يتحلَّى بمكارم الأخلاق من مروءة أو كرم أو حمية أو نجدة أو إغاثة ملهوف ، أو رحمة فهذه الصفات الأخلاقية لا بد من أن تحمل صاحبها في يوم من الأيام على طاعة الله ، لأن الله يحب مكارم الأخلاق ، و يكره دنيَّها ، و هذا الأخلاقي لا شك أن الله آخذ بيده كلما عثر ، و فوق أنه كان يطعم الجائع ويؤمِّن الخائف و يجير المستجير ، كان أديبا أريبا لبيبا ، ومعنى أريب أي ذكيٌّ فطن ، و ما
من عطاء أعظم من أن تكون فطنا ، كان بصيرا بحلو البيان ، أي كان صاحب بيان ، يقال : فلان صاحب فضل فلان صاحب علم ، فلان صاحب بيان ، البيان طريق اللسان ، العالم يعلم جزئيات أيّ موضوع ، و صاحب الفضل له عمل طيب ، على كلٍّ المؤمنون يتوزَّعون في حقول ثلاثة ، هناك مؤمن يغلب عليه الفكر ، أي كل قضية يفهم أبعادها و دخائلها و خوارجها و ملابساتها ، يطالع كثيرا و يفهم كثيرا ، يفنِّد مزاعم المفترين، يردُّ على النظريات الشيطانية،هذا مؤمن يغلب عليه الفكر، هذا له عند الله وظيفة ، هناك مؤمن آخر يغلب عليه العمل الصالح ، خدمة الأرامل و الأيتام و بناء المساجد ، و خدمة الناس ، و التوفيق بين المتخاصمين ، هذا عمل طيب ، و هناك مؤمن يغلب عليه الحالُ ، يعتني بأحواله و أذكاره وأطواره و قراءاته و تلاوته لكن الأكمل من كل هذا أن تجمع بين هذا و ذاك ، الأكمل أن تكون حادَّ الفكر عامرَ القلب ، مستقيم السلوك ، أن تجمع بين العلم و العمل ،و بين الحال ، قال : يا ربي أيُّ عبادك أحبُّ إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : أحبُّ العباد إليَّ تقيُّ القلب نقيُّ اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني و أحب من أحبني و حبَّبني إلى خلقي ، قال : يا ربي إنك تعلم أني أحبك و أحب من يحبُّك ، فكيف أحبِّبك إلى خلقك ؟ قال : ذكِّرهم بآلائي ونعمائي و بلائي " الآلاء أي الآيات ذكِّرهم بها حتى يمتلئ قلوبُهم تعظيما لي، ذكِّرهم بالنعم حتى تمتلئ قلوبهم حبًّا لي ، ذكِّرهم بالبلاء حتى تمتلئ قلوبهم خوفا مني ، إذًا لا بد أن يكون في قلب المؤمن تعظيمٌ و حبٌّ و خوف ، و إذا أردتَ أن تدعو إلى الله عز وجل يجب أن تجمع بين كل هذه المعاني ، وأن تذكر الناس ببعضَ النعم التي أنعم اللهُ بها على المؤمنين حتى يحبُّوا اللهَ عز وجل ، و أن تتلو عليهم بعضَ النقم المخيفة حتى يخافوا من عقابه ، ويلتزموا أمره وأن تذكِّرهم ببعض الآيات العظيمة حتى يمتلئوا تعظيما له ، قال تعالى :

(سورة فاطر)
من دعا إلى الله فعليه أن يجعل في ذهنه هذه الخطوط الثلاثة .
هذا الطفيل بن عامر الدوسي غادر منازل قومه في تهامة ، و تهامة هي السهل الساحلي الموازي للبحر الأحمر ، سهول تهامة ، كما عندنا بين البحر و بين الجبل سهل ، فهناك سهول ساحلية ، في المملكة العربية السعودية ، بين البحر الأحمر و بين الجبال التي تحاذيه سهول اسمها سهول تهامة ، فهذا الطفيل هنا مضارب قبيلته ، فغادر منازل قومه في تهامة متوجِّها إلى مكة المكرمة ، و في مكة المكرمة كان صراع عنيف عنيف يدور بين النبي وأصحابه من جهة ، و بين كفار قريش من جهة ثانية ، حينما دخل مكة شعر أن فيها شيئا غريبا ، وأن فيها معركة ضارية وأن فيها عوامل فتنة ، وأن فيها حركة جذرية ، وأن هناك من يكره النبيَّ كراهية شديدة ، هناك من يمنع الناسَ أن يلتقوا به ، هناك أصحابه الذين يحبونه أي هناك بمكة مشكلة ، قال الطفيل : قدمتُ مكة ، فما إن رآني سادةُ قريش حتى أقبلوا عليَّ فرحَّبوا بي أكرم ترحيب ، و أنزلوني فيهم أعزَّ منزل ، ثم اجتمع إليَّ سادتُهم وكبراؤهم و قالوا : يا طفيل إنك قد قدِمتَ بلادنا ، و هذا الرجل الذي زعم أنه نبيٌّ قد أفسد أمرنا ، و مزَّق شملنا و شتَّت جماعتنا ، و نحن إنما نخشى أن يحلَّ بك و بزعامتك في قومك ما قد حلَّ بنا ، فلا تكلِّم الرجل و لا تسمعنَّ منه شيئا فإن له قولا كالسحر يفرِّق بين الولد وأبيه ، و بين الأخ و أخيه و بين الزوجة و زوجها مُلوّعين ، هكذا يرون ، أن هذا النبي عليه الصلاة و السلام شتَّت جمعهم و فرَّق وحدتهم ، و فرَّق بين الأخ و أخيه ، و الزوجة وزوجها، و الأب و ابنه و جعل مكة حزبين ؛ هؤلاء يدَّعون أنهم على حق ، و وأولئك يهاجمون ، يا طفيل إياك أن تلتقي به ، إياك أن تستمع إليه ، إياك أن تصغي له ، إنك إن فعلت هذا حلَّ بك و بقومك و بزعامتك ما حل بنا و بقومنا ، فانتبه ، واتَّعظ بنا يا طفيل ، دائما أهل الكفر والضلال يحذِّرون من أهل الإيمان ، ودائما أهل المعصية و الفجور يحذِّرون من الدعاة إلى الله عز وجل ، دعواهم مضحكة ، إنه يسلبك ، يجدبك ، و يجنِّنك ، و يحرمك من أهلك ، و يبعدك عن مجتمعك ، و يجعلك منعزلا ، هذا كله كلام فارغ ، إذا كان الإنسان في ماء آسن ، ماء مجارٍ ، فإذا خرج من هذا الماء الآسن و اغتسل و تطيّب و شعر ببهجة النظافة ، أيفرَِّق بين فلان و جماعته ؟ جماعته كلهم في ضلال ، لكنه انسحب منهم ، نجا بنفسه منهم ، هذا ليس تفريقا ، و على كلٍّ الإنسان فالعاقل لا يصغي إلى كلام الفاسق ، قال تعالى :

(سورة الحجرات)
لا تصغِ إلى الفاسق ، قال تعالى :

(سورة الكهف)
هذا الذي ينصحك انظر إليه هل يعصي اللهَ ؟ هل يصلي و هل يخاف الله و هل هو منصف؟ إذا كان لا يصلي و إذا كان مقطوعا عن الله عز وجل و إن لم يكن منصفا فكيف تصغي إليه؟ إنه فاسق ،و الله سبحانه يقول :

(سورة الحجرات)
يا أيها الأخوة ؛ بالمناسبة ، أقول لكم كلاما دقيقا ؛ أهل الدنيا و أهل الضلال ، أهل الكفر والفسوق و العصيان فيهم دافع قويٌّ جدا إلى ماذا ؟ أنا أقول لكم كلاما دقيقا دقيقا ، أهل الكفر و الفسوق و العصيان هؤلاء لا يتوازنون إلا إذا طعنوا في المؤمنين الصادقين ، هم إن لم يطعنوا يُحاصرون ، متى يرتاح هؤلاء ، هؤلاء عندهم عقدة نقص عندهم شعور بالذنب ، عندهم شعور بالدونية ، هؤلاء لا يستعيدون توازنهم إلا إذا طعنوا في أهل الحق ، فمعركة أهل الحق مع أهل الباطل معركة أزلية أبدية ، معركة قديمة جدا ، لذلك الإنسان ليس له حق أبدا بل هو آثم إذا صدَّق كلامَ أهل الفسوق في أهل الحق ، وهذه قاعدة : أهل الفسق و الفجور لا يرتاحون إلا إذا طعنوا في أهل الحق ، فتارة يقول لك : له مقصد ، و تارة يقول لك : له مصلحة ، و تارة يقول لك: هذا يقول شيئا و يفعل شيئا ، هذا كلام مألوف في كل عصر ، لذلك المؤمن لا يصغي إلى أهل الفسق و الفجور إذا حدَّثوه عن أهل الإيمان ، و الآية الكريمة واضحة جدا ، فهؤلاء كفار قريش يقولون هذا محمد الذي يدَّعي أنه نبي أفسد أمرنا و مزَّق شملنا و شتَّت جماعتنا ، ونحن إنما نخشى عليك نخشى أن يحلَّ بك و بزعامتك في قومك ما حلَّ بنا ، فلا تكلِّم الرجل و لا تسمعن منه شيئا ، فإن له قولا كالسحر ، يفرِّق بين الولد و أبيه، و بين الأخ و أخيه ، و بين الزوجة و زوجها ، قال الطفيل : فوالله ما زالوا بي يقصُّون عليَّ من غرائب أخباره و يخوِّفونني على نفسي و قومي بعجائب أفعاله حتى أجمعتُ أمري على أن ألا أقترب منه و ألا أكلمه أو أسمع منه شيئاً ، واسمعوا هذه الآية ، فعنيها دلالة دقيقة قال تعالى :

(سورة العلق)
انتهت الآية ، ما معنى هذه الآية ؟ أين جواب أرأيت ؟

أي انظر إلى أفعاله ، انظر إلى سلوكه و انظر إلى دناءته ، انظر إلى خيانته ، انظر إلى كذبه ،انظر إلى انحرافه ، انظر إلى إخلافه وعده انظر إلى تناقضه ، انظر إلى أنه يقيس بمعيارين ، هذا السلوك المنحرف وهذه الدناءة ألا تكفيك دليلاً على أنه كاذب ، و على أن هذا الإنسان هو أحقر من أن تصغي إليه :
أرأيت إلى أحواله ، أرأيت إلى أقواله ، أرأيت إلى سلوكه ، أرأيت إلى انحرافه ، ألا يكفيك انحرافُه و دناءته و ماديته و خيانته و كذبه فلا تصغِ إليه ، إذًا هذا شيء يقع في كل زمان ، أهل الفسق و الفجور معقَّدون ، عندهم عقدة الذنب ، عندهم شعور بالنقص ، عندهم خلل في توازنهم ، كيف يرتاحون ، يرتاحون إذا طعنوا في أهل الحق ، و إذا جرَّحوهم و إذا فرَّغوا دعوتهم من مضمونها ، و إذا اتَّهموهم في نواياهم ، إذا فنَّدوا أقوالهم إذا استخدموا عقولهم وذكاءهم في الباطل لا في الحق ، لذلك على المؤمن الصادق ألا يصغي إلى كلام أهل الباطل في أهل الحق ، أقول لكم الموقفَ الكامل ، أنك إن سمعتَ كلاما فيه طعنٌ شديد في رجل مؤمن ، فما موقفك ؟ هناك مجموعة مواقف ،إنك إن كذَّبت هذا الكلام تكذيبا سريعا و رأيت
القائل مغرضا و رأيته كذَّابا ، و رأيته أفَّاكا و لم تعبأ بهذا الكلام و لم يهزَّ فيك و لا شعرة واحدة ، لا عليك أن تلقي كلامه عرضَ الطريق و لا تبالِ به ، و عليك أن تقول له : هذا كلام غير صحيح ، و أنا لا أصدقك ، لكن إذا كان كلامه ذكيًّا وأعطاك بعض الأدلة ، وأعطاك بعض البينات و تشوَّشت أنت و شعرت أن هذه المكانة العلية قد هُزَّت و أن هذه القدوة قد تزلزلت ، فإذا بلغت من كلامه هذا المبلغ فماذا عليك أن تفعل ؟ عليك أن تذهب إليه، إلى هذا المؤمن و تقول له فيما بينك و بينه : سمعتُ عنك هذا الكلام فقل لي الحقيقة ، قد يقول لك : هذا الكلام غير صحيح وهذا هو الدليل ، أنا على عكس ذلك ، أو و اللهِ يا أخي كنتُ سابقا في خطأ و الآن تبتُ منه ، على كلٍّ إذا أسأت الظنَّ بأخيك المؤمن فلا بد لك من أن تتحقَّق إذا كان كلام الفاسق لم يحرِّك فيك ساكنا و لم يهزَّ فيك شعرة فألقِه في الحاوية ، أما إذا أثَّر في نفسك و شوَّش عليك نظرتك الراقية إليه ، وإذا فعل كلامُه فيك هذا الفعل فأنت آثمٌ إذا بقيت ساكنا ، يجب أن تذهب إلى الآخر كي تتحقَّق بنفسك فتبيَّنوا ، قال تعالى :

(سورة الحجرات)
اذهب إليه وتبين بنفسك لماذا ؟ لأنك إن أسأت الظنَّ بأخيك فقد أسأت الظن بربك ، إنسان من أربعين سنة يطيع الله عز وجل و يدعو إليه لكنه يأكل مالا حراما ، فمعنى ذلك أن كل هذا الدين باطل ، وليس معقولا ، عندما يأكل الإنسان المتعمِّق في الدين المالَ الحرام أو يكذب ، فمعنى ذلك أن هذا منهج غير صحيح ، هذا المنهج عاجز عن تقويم الأشخاص
لذلك قيل : من أساء الظنَّ بأخيه فكأنما أساء الظن بربِّه .
هذه معركة أزلية أبدية ، هذه القصة و التي بعدها و التي بعدها و في كل زمان ، و في كل مكان تندرج في سلسلة الصراع الطبيعي بين الحق و الباطل ، في الحياة حق و باطل ، خير و شر ، إحسان و إساءة ، وأنت لا بد أن تنضمَّ إلى أحد الفريقين ، فإن كنت مع أهل الباطل فلا بد من أن تتهجَّم على أهل الحق ، و إن كنت مع أهل الحق فلا بد من أن تدافع عنهم ، فهذا الطفيل قال : فو الله مازالوا بي يقصُّون عليَّ من غرائب أخباره و يخوِّفونني على نفسي و قومي بعجائب أفعاله حتى أجمعت أمري على ألا أقترب منه و ألا أكلمه أو أن أسمع منه شيئا ، و لما غدوتُ إلى المسجد للطواف بالكعبة و التبرُّك بأصنامها ، هو مشرك يدعها ، والتبرك بأصنامها التي كنا إليها نحجُّ و إياها نعظِّم ، حشوتُ في أذني قطنا ، أتى بالقطن ووضعه احتياطا لِما خوًَّفوه ، أحذر أن يسحرك ، إياك أن يسلبك ، إياك أن يؤخذ بينك وبين
أسرتك ، قال : حشوت في أذني قطنا خوفا من أن يلامس سمعي شيء من قول محمد ، لكني ما إن دخلتُ المسجد حتى وجدتُه قائما يصلي عند الكعبة اللهم صلِّ عليه ، صلاةً غير صلاتنا، و يتعبَّد عبادة غير عبادتنا ، لا خير في دين لا صلاة فيه ، و الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين و من هدمها فقد هدم الدين ، الصلاة سيدة القربات و غرَّة الطاعات ، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض و السماوات ، قال تعالى :

(سورة طه)
"عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قَالَ رَجُلٌ قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا بِلالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا *
(رواه أبو داود)
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشعري قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا *
(رواه مسلم)
"الصلاة حبور" الصلاة طهور " لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل " ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها " الصلاة ميزان فمن وفى استوفى " قال تعالى :

(سورة النساء)
الصلاةُ إذًا وعيٌ ، الصلاة ذكر ، و الصلاة دعاء ، و الصلاة تقرُّب ، قال تعالى :

(سورة العلق)
الصلاة مناجاة ، الصلاة عُروج ، و الصلاة إقبال ، و الصلاة طهور، و الصلاة حبور " أرحنا بها ، الصلاة سعادة ، الصلاة نور ، هذه الصلاة لا خير في دين لا صلاة فيه " أنا أحيانا مغرم بضغط المعلومات ، ممكن هذا الدين العظيم الواسع أن تضغطه في كلمتين ؟ فربنا عز وجل قال على لسان سيدنا عيسى :

(سورة مريم)
الدين اتِّصال بالخالق و إحسان للمخلوق ، حركة نحو السماء و حركة نحو الأرض ، نحو السماء إقبال على الله ، نحو الأرض خدمة الخلق لذلك يا رب لا يطيب الليل إلا بمناجاتك ، و لا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك ، إن لله عملا في الليل لا يقبله في النهار و إن لله عملا في النهار لا يقبله في الليل ، هذا الدين ، اتِّصال بالله و إحسان إلى المخلوق ، كان يصلي اللهم صلِّ عليه ، و إذا استقام الإنسان أيها الأخوة استقامة تامة ، فإنه يصل إلى الورع ، صلى و تجلَّى اللهُ على قلبه يعرف حقيقة الصلاة ، يعرف و يتذوَّق قول النبي عليه الصلاة والسلام :
عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قَالَ رَجُلٌ قَالَ مِسْعَرٌ أُرَاهُ مِنْ خُزَاعَةَ لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ فَكَأَنَّهُمْ عَابُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا بِلالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا *
(رواه أبو داود)
لسان حال معظم المسلمين أرحنا منها ، صلى و أوى ، هذه معناها : أرحنا منها ، أما النبي كان إذا حضر وقت الصلاة قال :فكأنه لا يعرفنا و لا نعرفه." الواحد إذا كان موظَّفا و رنَّ التلفون : نعم سيدي ، طلبه الوزير ، يركز كرافته و قميصه ، يذهب إلى وزيره ، هذا إنسان مثلك و مثله ، و قد تكون أفضل منه أنت عند الله ، فكيف إذا وقفت بين يدي الله عز وجل ؟
لذلك عندما يقول المصلي : سمع الله لمن حمده ، فهل تفهم ما تقول ؟ أي أن اللهُ سبحانه وتعالى الآن يصغي إليك و يسمع حمدك و ثناءك ، سمع الله لمن حمده ، قال الطفيل : فكان يصلي هذه الصلاة و يتعبَّد عبادة غير عبادتنا ،فأسرَّني منظرُه ، و اللهِ شيء جميل ، في وجهه نور ،وفيه سمت حسن و هزَّتني عبادته ووجدتُ نفسي أدنو منه ، رغم كل التحذيرات لم تفلح معهم ، سبحان الله فالمؤمن عنده قوةُ جذب ، لأن فيه نورا ، ونورانيته و عقلانيته وأخلاقه العالية ، إيناسه و تواضعه و اتِّصاله بالله عز وجل شيء يكهرِب ، قال : ووجدت نفسي أدنو منه شيئا فشيئا على غير قصد مني حتى أصبحت قريبا منه ، سحب القطن من أذنيه ، قال : و أبى الله إلا أن يصل إلى سمعي بعضٌ مما يقول ، فسمعت كلاما حسنا .
واللهِ يا أيها الأخوة إن استمعتَ إلى القرآن و أنت صافٍ تشعر أن الله يخاطبك ، و تشعر أن هذا الكلام كلام الله ، تشعر أن هذا الكلام :

(سورة النجم)
و قلتُ في نفسي - انظروا إلى الحوار - ثكلتك أمُّك يا طفيل ، ثكلتك أمك يا طفيل إنك لرجل لبيب شاعر ، أنت ذكي و فهيم و فطن و شاعر ، و ما يخفى عليك الحسنُ من القبيح فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول ، أين عقلك أنت ؟ أين ميزانك ؟ أنت الفهيم اللبيب الأريب الذكي الحذِر ، اسمع و زِنْ كلامه ، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلتُه ، و إن كان قبيحا تركته، لديك ميزان ، قال تعالى :

(سورة الصافات)
قال تعالى :

(سورة يونس)

(سورة النمل)
ربنا أحيانا يعاتبنا ، أين عقولنا ؟ قال : ثم مكثتُ حتى انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فتبعتُه حتى إذا دخل داره دخلتُ عليه ، و بالمناسبة هناك حديث شريف رائع جدا يفسِّر لكم بعض الظواهر ، قال : ما أخلص العبد لله عز وجل إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة و الرحمة " هذه قوة الجذب أساسها إخلاص المؤمن ، إخلاصه يجعل لكلامه
قوة جذب ، فتبعته حتى إذا دخل داره دخلت عليه ، كان الصحابي سيدنا ربيعة يخدم رسول الله ، فلما ينتهي وقت الخدمة ، يقال له : انصرف يا ربيعة ، فماذا يفعل ربيعة ؟ لا ينصرف، يبقى على عتبة باب النبي من شدَّة تعلُّقه به ، من شدة حبه له ، و من شدة انجذابه إليه ، أي أنت كمؤمن يجب أن يكون عندك قوة جذب ، نورك الذي في قلبك ، استقامتك وورعك واتِّصالك بالله ، حبك لله ، هذه كلها قوة جذب ، فقلت : يا محمد - دخل عنده ، وقد نزع القطن - قلت : يا محمد إن قومك قد قالوا لي عنك كذا و كذا ، فو الله ما برحوا يخوِّفونني من أمرك حتى سددتُ أذنيَّ بقطن لئلا أسمع قولك ، ثم أبى اللهُ إلا أن يسمعني شيئا منه فوجدتُه حسنا ، فاعرض عليَّ أمرك ، ما هي القصة ؟ ما دعوتك ، و من أنت ؟ من الذي أرسلك ، ولماذا أرسلك ؟ ما دليلك ؟ حوار ، والنبي ما ربَّى أصحابه على الخنوع ، فقد صلى الظهر ركعتين يوماً ، و اللهِ أحيانا هناك بعض الشيوخ لو غلطوا لا يستطيع إنسان أن يصحِّح لهم ، لكن النبي صلى ركعتين فقال له بعضُ أصحابه : يا رسول الله أقصُرتْ أم نسيت ؟ فقال عليه الصلاة و السلام : كل هذا لم يكن ، قال : بعضه قد كان فالنبي سأل أصحابه فوجد أنه صلى
ركعتين فقال قولة رائعة ، قال عليه الصلاة و السلام :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ قَالُوا بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ *
(رواه البخاري)

(سورة الأعلى)
ما ربَّى أصحابا خانعين ، ربى أصحابا يقظين ، عندهم جرأة أدبية ،سيدنا خالد اضطر إلى القتال بعد فتح مكة ، و سيدنا سالم مولى أبي حذيفة راجعه ، و النبي لما بلغه ذلك قال :
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَجَعَلُوا يَقُولُونَ صَبَأْنَا صَبَأْنَا فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَاهُ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ *
(رواه البخاري)
ثم قال لأصحابه : هل راجعه أحد ؟ هل عارضه أحد ؟ قالوا : نعم سالم مولى أبي حذيفة ، قال : الحمد لله " على ماذا حمد اللهَ النبيُّ الكريم ؟ على أنه ربَّى أصحابا لا يسكتون على الخطأ ، ربى أصحابا لا يقيمون على ضيم ، ربى أصحابا علماء حكماء ، ربى أصحابا يحاسبون ، ومرة سيدنا عمر - والقصة تعرفونها - واحد أراد أن يتقرَّب منه ، فقال : و اللهِ
ما رأينا خيرا منك بعد رسول الله ، ما هذه العظمة ؟ نظر إليهم ، فذاك ظن أنه سيُسرُّ بكلامه، فحدَّ إليهم النظر حتى كاد يأكلهم بنظراته ، فقال : أحدهم : لا و اللهِ رأينا من هو خير منك ، قال : من هو ؟ قال : أبو بكر ، فقال عمر رضي الله عنه : و اللهِ كان أبو بكر أطيبَ من ريح المسك ، و كنت أنا أضلَّ من بعيري ، لقد كذبتم جميعا و صدق "عدَّ سكوتهم كذبا ، قال له : فاعرضْ علي أمرك ، فعرض عليه أمرَه و قرأ لي سورة الإخلاص و الفلق ، فو الله ما سمعتُ قولاً أحسنَ من قوله ، و لا رأيت أمرا أعدل من أمره ، عند ذلك بسطتُ يدي له وشهدتُ أنه لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ، و دخلت في الإسلام ، و رمى القطن كان قد وضعه في أذنيه ، قال تعالى :

(سورة الأنفال)
قال الطفيلُ : ثم أقمت في مكة زمنا تعلمتُ فيه أمورَ الإسلام ، و حفظت فيه ما تيسِّر لي من القرآن ، و لما عزمت على العودة إلى قومي قلتُ : يا رسول الله إنني امرؤٌ مُطاع في عشيرتي ، أنا زعيم قبيلة ، أنا من سراتها ، من علية القوم ، أنا قيادي ، و أنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام ، فادعُ اللهَ أن يجعل لي آيةً تكون لي عونا فيما أدعوهم إليه فقال : اللهم
اجعل له آيةً ، دعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب ، قال : اللهم اجعل له آية فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت في موضع مشرف على منازلهم وقع نورٌ فيما بين عيني مثلُ المصباح ، فقلت : اللهم اجعله في غير وجهي ، فإني أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم ، القصة قديمة ، فإذا كان الشخص مقيما على دينٍ ضالٍّ و خرج منه ، هؤلاء المضلَّلون يتوعَّدونه بمصيبة كبيرة ، قال : فتحوَّل النورُ فوقع في رأسِ سوطي ، فجعل الناسُ يتراءون ذلك النورَ في سوطي كالقنديل المعلَّق ،و أنا أهبط إليهم من الثنية ، فلما نزلتُ أتاني أبي و كان شيخا كبيرا ، فقلت : إليك عني يا أبت ، فلستُ منك و لستَ مني ، قال : و لِم يا بني خير ، ماذا فعلنا لك ؟ قلت : قد أسلمتُ و تابعت دين محمد صلى الله عليه و سلم،قال : أي بني ديني دينك ، أنا على دينك ، لأنه كبير معروف و شهم و صاحب مروءة ، كريم راقٍ من علية القوم ، قال له : يا بني ديني دينك ، انتهى الأمر و لا تغضب ، فقال له : اذهب و اغتسل و طهِّر ثيابَك ثم تعالَ حتى أعلمك ما عُلِّمت ، فذهب فاغتسل و طهَّر ثيابه ، ثم جاء فعرضتُ عليه الإسلام فأسلم ، ثم جاءت زوجتي فقلت لها : إليكِ عني ، لستُ منكِ ولستِ مني، قالت : و لِم بأبي أنت و أمي ما لي غيرك ، خير إن شاء الله ، فقلت : فرَّق بيني و بينك الإسلام ، طبعا رسم خطَّة ذكية ، هو لا يتخلى عنها ، و لكن يقول ذلك حتى يدفعها إليه فقد فرَّق بيني و بينك الإسلام ، لأني أسلمت و تابعتُ محمدا صلى الله عليه و سلم، قالت : فديني دينك .
أضرب لكم مثلاً : شخص له معمل صغير ، صاحب متجر وعنده صانعان أو ثلاثة وبعض الموظفين ، فإذا كان هناك إحسان منه و إكرام و فهم فهذا الموظَّف يتابعك ، ويأتي معك إلى الجامع ، أنت هديته و أنت لا تدري ، مكانتك العلية و استقامتك و ترفُّعك و كرمك جعلك ملءَ سمعه و بصره ، فإذا نطقت بالحق تابعك ، فكل صاحب عملٍ من الممكن أن كل من حوله في العمل يتابعونه ، و يهتدون بهديه ، يقلِّدونه و لو تقليدا ، فالإنسان لايستهين بعمله، ربما كان عملُك ييسّر لك طريقاً إلى الله ، ربما كان عملك طريقا للدعوة إلى الله .
قال لها : إذاً فاذهبي و تطهَّري من ماء ذي الشرى ، و ذو الشرى صنم لدوس حوله ماءٌ ، فقالت : بأبي أنت و أمي أتخشى على الصبية شيئا من ذي الشرى ؟ فقلتُ تبًّا لكِ و لذي الشرى ، قلتُ لك : اذهبي و اغتسلي هناك بعيدا و أنا ضامن لكِ ألا يفعل هذا الحجرُ الأصمُّ شيئاً و مرةً استيقظت قبيلة صباحاً فرأت صنمها قد بال الثعلبُ على رأسه فقال الشاعرُ
أربٌّ يبول الثعلبانُ برأسه لقد ضلَّ من بالت عليه الثعالبُ
ما هذا الإله ؟ و هناك قبيلة ثانية صنعت صنما من تمر ، فلما جاعت أكلته، فقيل : أكلت ودٌّ ربَّها ، كم هناك من تفكير ضعيف ، و الله إنك لتجد في شرق آسيا كما حكى لي إخوان زاروا اليابان و غير اليابان من تلك الدول في شرق آسيا ، فهم يعبدون أصناما من دون الله ، و تجد أمام الصنم فواكه من أرقى أنواع الفواكه ، فسألوا واحدا : لماذا هذه الفواكه ، قالوا : ليأكلها الصنمُ في الليل ، ثم بدا أن الرهبانُ يأكلونها في الليل ، و ليس الصنم فهو من حجر ، دكاترة و مثقَّفون ، أصحاب إجازات علمية و مدراء معامل يدخل إلى معبد يجد صنم بوذا و أمامه الفواكه الشهية يعبده من دون الله وتفسير ذلك أن التَّديّن فطريٌّ في الإنسان ، فالسعيد من عرف الإله الحقيقي ، و الشقي من التبس عليه الأمرُ وظنَّ أن هذا الصنم إلها وهو ليس كذلك، لكن كل إنسان بحاجة فطرية إلى التديّن ، إلى أن يعبد عظيما لذلك إما أن تكون عبدا لله ، وإما أن تكون عبداً لعبد لئيم ، أو أن تكون عبدا لفكرة سخيفة ، أو عبدا لصنم أجوف ، أو عبداً لشيء لا يقدم و لا يؤخِّر ، قال : ثم دعوتُ دوسا ، دعا قومه فأبطئوا عليه ، وما استجابوا كانوا غارقين في الزنا و الربا ، الربا عدوان على أموال الناس و الزنا عدوان على أعراض الناس ، كانت هذه القبيلة غارقةً في الزنا و في الربا ، أبطئوا عليه ، قال : ثم دعوت دوسا فأبطئوا عليَّ إلا أبا هريرة كان أولَّ ثمرة من ثمار سيدنا الطفيل ، فقد كان أسرع الناس إسلاما ، قال الطفيل : فجئتُ رسولَ الله صلى الله عليه و سلم بمكة و معي أبو هريرة فقط ذهب بواحد يصحبه ، ما أحدث رجلٌ أخًا في الله إلا أحدث اللهُ له درجة في الجنة ، أنت كم واحد ؟ وحدي ، خير إن شاء الله ، ما تمكَّنت في هذه السنوات العشر أن تقنع واحدا بالدين ؟ تحمل إنسانا على التوبة أما عندك أقارب أما عندك أخوات ؟ أما عندك أولاد أخوة وأخوات ؟ أما عندك جيران ؟ أما لك أصحاب ؟ أليس لك زملاء ، ما استطعتَ أن تقنع واحدا ، و اللهِ هذه مشكلة ، لكن هناك أخ يقول لك : أنا أقنعت خمسة عشر آخر يقول :عشرون ، وثالث خمسون ، قال تعالى :

(سورة النحل)
لا بدَّ أن تنتقل من طور التلقي للإلقاء ، من طور السماع للتكلم ، و من طور الأخذ للعطاء ، قال عليه الصلاة و السلام :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ *
(رواه الترمذي)
و قال عليه الصلاة و السلام :
عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ *
(رواه البخاري)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ الْعَقِيقِ فَيَأْخُذَ نَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ بِغَيْرِ إِثْمٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ قَالُوا كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَإِنْ ثَلَاثٌ فَثَلَاثٌ مِثْلُ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ *
(رواه أبو داود)
يسمع دروس العلم ، و يسمع تفسير آيات و تفسير أحاديث ، شيء من السيرة ، لا بد أن يسجل و يراجع الأمر و يحفظه ، و إذا جلس في مجلس يلقي هذا الشيء فلا تعرف كم إنسان يستفيد منك ، انظروا إلى هذه الآية ما أجملها ، قال تعالى :

(سورة المائدة)
أحيانا يتفضل الله عز وجل عليك بهداية إنسان ، و هذا الإنسان تجد إخوانه و أخواته و أولاد أخوته و أخواته و جيرانه و شركائه ، كلهم اهتدوا بهدايته ، و تزوج امرأة مسلمة و أنجب أولادا صالحين ، يمكن بعد عشرين ثلاثين سنة ، تجدهم وقد صاروا مئتي إنسان ، كلهم في صحيفتك ، لذلك أعظم تجارة أن تتاجر مع الله و أعظم عمل أن تدعو إلى الله ، إنها صنعة الأنبياء ، قال تعالى :

(سورة طه)
و اللهِ هناك إخوان كثيرون ، نعم كثيرون ، و اللهِ همُّهم الأول نشرُ الحق همهم الأول الدعوة إلى الله ، همهم الأول مداراة الناس لهدايتهم ، فلعلهم يأخذون بأيديهم إلى الله عز وجل .
جئتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة و معي أبو هريرة ، فقال لي النبي عليه الصلاة و السلام : ما وراءك يا طفيل ؟ ما الذي حدث معك ؟ تكلم لعلها مداعبة ، ما وراءك يا طفيل ؟ فقلت : قلوب عليها أكنة ، و كفر شديد ،ولقد غلب على دوس الفسوق و العصيان ، فلا أمل فيهم فقام عليه الصلاة و السلام ، اسمعوا ، فتوضأ و صلى و رفع يديه إلى السماء ،
قال أبو هريرة : فلما رأيته كذلك خِفتُ أن يدعو على قومي فيهلكوا ، : قال : ليس فيهم خير، جفاة غلاظ ، قلوبهم في أكنة ، فسق و فجور و زنا و ربا ، لا أمل ، فالنبي قام فتوضأ و رفع يديه ، ماذا سيقول ؟ سيدنا أبو هريرة قال : فخفت أن يدعو على قومي فيهلكوا فقلت : واقوماه ، الجماعة هلكوا ، جاء أجلهم ، لكن النبي عليه الصلاة و السلام جعل يدعو لهم :
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا فَقِيلَ هَلَكَتْ دَوْسٌ قَالَ اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ *
(رواه البخاري)
ثم التفت إلى الطفيل و قال : ارجع إلى قومك وارفق بهم ، و ادعهم إلى الإسلام ، كن عندك حكمة ، استوعبهم و احتوِهم ، اخدمهم ، قال الطفيل :
فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و مضت بدرٌ و أحد و الخندق ، فقدمت على النبي و معي ثمانون بيتا من دوس ، ليس ثمانون رجلا ، ثمانون بيتا ، و كل بيت فيه خمسة أو ستة شباب ، قال : حتى أسلموا وحسن إسلامهم فسُرَّ بنا رسول الله و أسهم لنا مع المسلمين في غنائم خيبر ، فقلنا : يا رسول الله
اجعلنا ميمنتك في كل غزوة تغزوها ، و اجعل شعارنا " مبرور " فقال الطفيل : ثم لم أزل مع رسول الله حتى فتح الله عليه مكة ، فقلت : يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفَّين ، ما ذو الكفين ؟ ذو الكفين صنمُ عمرو بن حمحم ، حتى أحرقه ، أي أرسلني إلى صنم ذي الكفين حتى أحرقه ، فأذن له النبيُّ صلى الله عليه و سلم فسار إلى الصنم في سرية من قومه فلما بلغه وهمَّ بإحراقه اجتمع حوله النساء و الرجال و الأطفالُ يتربَّصون به الشرَّ ، و ينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال ذا الكفين بضرٍّ ، لكن الطفيل مؤمن يعيش مع الحقائق و هناك أشخاص كثيرون يعيشون في الأوهام ، يضع لك حذوة فرس ، ما تصنع يا أخي ؟ هذه أعقلها للعين ، أو يعلن حذاءً صغيراً للصبيان ، أو يرسم عينا في وسطها قلب و سهم ويكتب: عين الحاسد تُبلى بالعمى ، كلها أوهام ، لا يحميك من الله إلا أن تستقيم على أمره ، لا ملجأ من الله إلا إليه ، قال تعالى :

(سورة الفتح)
يكتبها بعضهم على باب متجره ، وطول النهار كذب وغش ، فهل يفتح الله بالغش و الكذب ؟ فهؤلاء الذين حول الصنم خافوا أن تأتيهم صاعقة فيحترقون ، لكن الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عُبَّاده و جعل يضرم النارَ في فؤاده ، و هو يرتجز ، نظم ثلاثة أبيات من الشعر ، قال له :
يا ذا الكفين لستُ من عُبَّادك ميلادنا أقدمُ من ميلادك
إني حشوتُ النار في فؤادك
وما إن التهمت النارُ الصنمَ حتى التهمت معها ما تبقَّى من الشرك في قبيلة دوس ، أي آخر شيء في هذه القبيلة أنه أحرق لهم صنمهم ، فأسلم القومُ جميعا و حسُن إسلامهم ، اسأل نفسك أنت ماذا فعلت ؟ كلُّ إنسان بإمكانه أن يدعو إلى الله ، و بإمكانه أن يتعلَّم ، و بإمكانه أن يلتقي مع إخوانه ، مع أقربائِهِ و جيرانه ، وبإمكانه أن ينقل لهم تفسير آية و تفسير حديث ، بإمكانه أن يهديهم .
قال : ظل الطفيلُ بن عمرو الدوسي بعد ذلك ملازما لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قُبض النبيُّ إلى جوار ربه ، و لما آلت الخلافةُ من بعده إلى الصدِّيق وضع الطفيلُ نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله .
الإسلام عظيم عظمته أن المسلمين ينبغي أن يلتفوا حول رجل ، المنافسات و المطاحنات والمناقشات و الخصومات و الصراعات ، هذه لا ترضي اللهَ عز وجل ، لا بد من التعاون ، ولا بد من التكاتف ، لا بد من أن نتعاون فيما اتّفقنا ، و يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا ، لا بد من أن ندعم بعضنا بعضا ، أما الطعن في الآخرين و تقاذف التهم و المهاترات ، التكفير واتهام بالشرك ، هذا الذي يضعف المسلمين ، فلما آلت الأمور إلى سيدنا الصديق وضع - انظروا - وضع نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله ، و لما نشبت حروب الردة نفر الطفيلُ في طليعة جيش المسلمين لحرب مسيلمة الكذاب ، و معه ابنه عمرو ، و فيما هو في طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا فقال لأصحابه : إني رأيت رؤيا فعبِّروها لي ، قالوا و ما رأيت ؟ قال : رأيت أن رأسي قد حُلِق ، ليس فيه شعر و أن طائرا قد خرج من فمي ، وأن امرأة أدخلتني في بطنها و أن ابني عمرًا جعل يطلبني حثيثا ، لكنه حيل بيني و بينه ، قالوا : خيرا ، قال : أمّا أنا فإني أوَّلتها ، اسمعوا تفسيرها ، وهذا الإمام مالك ، إمام دار الهجرة رأى في المنام ملك الموت رؤيا ، غريبة جدا، قال له : يا ملك الموت كم بقي لي ، طمئني ، ملك الموت لم يتكلم و قال له مشيراً بيده : هكذا ، خمسة ، فلما استيقظ اضطرب اضطراباً شديدا ، يا ترى خمس سنوات أم خمسة أشهر أم خمسة أسابيع أم خمسة أيام أم خمس ساعات أم خمس دقائق ، أم خمس ثواني ، احتار ، فذهب إلى ابن سيرين ، و كان من كبار مفسِّري الأحلام ، قال : يا ابن سيرين رأيتُ ملك الموت و سألته كم بقي لي من عمري ، فأشار بهذه الإشارة ، فما تفسير هذه الرؤيا ؟ قال له :يا إمام دار الهجرة ، قال لك ملك الموت : إن هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا اللهُ ، هذا التفسير ، هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله ، فهذا سيدنا الطفيل قال : أما أنا و اللهِ لقد أوَّلتها ، أما حلق رأسي فذلك أنه يُقطع ويموت شهيدا ، و أما الطائر الذي خرج من فمي فهو روحي ، و أما المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تُحفر لي فأُدفن في جوفها ،و إني لأرجو أن أُقتل شهيدا ، سبحان الله أنا سمعت أكثر من عشر قصص ، المؤمن الصادق إذا اقترب أجلُه فربُّنا عز وجل يعلمه بذلك ، ومنذ أسبوع هناك امرأة صالحة عمرها ثمانية و أربعون عاماً ، مرة حدَّثتكم عنها قبل شهرين أو ثلاثة ، كرابعة العدوية ، قيام ليل و خدمة لزوجها و إنفاق لمالها ، فقالت لزوجها وهي في الثامنة و الأربعين و لا تشكو شيئا ، قالت له : اقترب أجلي ، و اخترت الرفيق الأعلى ، يا امرأة ما هذا الحديث ؟ ليس بكِ بلاء ، يقول لنا زوجها : ودَّعت أولادها وبناتها واحداً واحداً و بعد أيام ثلاثة قبل أن تدخل بيتها جلست على حافة البيت و أسلمت روحها لله عز وجل ، في الليل رأتها بنتُها في المنام قالت لها : يا بنيتي أنا لم أمُت ، لا تقيموا عزاءً ، أقيموا مولدا لي ، فقد أكرمني ربي ، يقول زوجها : فأقمنا مولداً و بقي إلى الساعة الثانية ليلا ، في يوم وفاتها ، فأنا لاحظت أن المؤمن من تكريم الله له أنه يعلمه أن الأجل قد دنا ، و على كلٍّ كلُّ واحد منا لما يضعف يضع نظارات على عينيه و يصبح شعره أبيض ، و يقول لك : صار معي قليل من الآلام ، وحط جسمي ، هذه كلها إشارات لطيفة من الله ، أن يا عبدي اللقاء قد اقترب ، أنت مستعدٌّ للقاء ؟ و أما طلب ابني لي فهو يعني أنه يطلب الشهادة التي سأحظى بها إن شاء الله ، إذا أذن الله ، لكنه يدركها فيما بعد ، يعني يدرك ابنه الشهادة بعد استشهاد الطفيل بحين .
و الحمد لله رب العالمين


الكتاب: سيرة خمسين صحابي
المؤلف: الدكتور محمد راتب النابسلي
المصدر: الشاملة الذهبية

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة