عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 07-04-2010, 04:06 PM   #3
معلومات العضو
الطاهرة المقدامة
إدارة عامة

افتراضي

الخطبة الثانية

قال مالك بن دينار رحمه الله : ما ضرب الله عبداً بعقوبة أعظم من قسوة القلب ، وما غضب الله عز وجل على قوم إلا نزع منهم الرحمة .
أيها المؤمنون : إن البكاء من خشية الله -تعالى- مقام عظيم، وهو مقام الأنبياء والصالحين ، إنه مقام الخشوع وإراقة الدموع خوفاً من الله، إنه التعبير عن حزن القلب وانكسار الفؤاد.
عباد الله يقول الله سبحانه وتعالى عن أولئك الذين تدمع عيونهم من خشية الله وترق قلوبهم لذكر الله، يقول سبحانه: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، ويقول عنهم سبحانه أيضًا: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، ويقول كذلك: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا.
إن البكاء من خشية الله تعالى من أعظم الأمور التي يحبها الله تبارك وتعالى فعن أبي أمامة - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله... الحديث) رواه الترمذي وصححه الألباني .
وانظروا إلى الفضل العظيم الذي أعده الله سبحانه لصاحب العين التي تدمع خشية وخوفًا من الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع)) ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) رواهما الترمذي وصححهما الألباني ، وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يبكي من خشية الله من السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله))، ذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) متفق عليه.
ما رق قلب لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات مشمراً في الطاعات.
ما رق قلب لله عز وجل إلا كان حريصاً على طاعة الله ومحبته.
ما رق قلب لله عز وجل إلا وجدت صاحبه مطمئناً بذكر الله .
وما رق قلب لله عز وجل إلا وجدته أبعد ما يكون عن معاصي الله عز وجل
وكذا من الأسباب النظر والتدبر في كتاب الله وآياته، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. فالمؤمن المتدبر لآيات الله هو أرق الناس قلبا وأنقاهم نفسًا، وما قرأ العبد هذه الآيات متفكرًا متدبرًا إلا صارت العين تدمع والقلب يخشع والنفس تخضع، وإذا بأرض هذا القلب تنقلب خصبة غضّة طرية، تنبت في النفس السكينة والخضوع لله رب العالمين، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.
إن هذا القرآن موعظة رب العالمين وكلام إله الأولين والآخرين، فما قرأه عبد يرجو الهداية إلا وتيسرت له أسبابها واتضحت له طرائقها. هذا القرآن الذي حوّل قلوب الصحابة من الظلمة إلى الإشراق ومن الغلظة إلى الرقة، فها هو عمر بن الخطاب يسمع آيات من سورة طه فتملأ قلبه القاسي رقة وخشية، وها هو الطفيل بن عمرو الدوسي يسمع آيات من الذكر الحكيم فيسارع إلى هذا الدين مؤمنًا مستجيبًا لأوامره داعيًا قومه إليه، وهذا أسيد بن الحضير جاء ليمنع مصعب من الدعوة في المدينة فيشير عليه مصعب بسماع بعض الآيات، فما هي إلا آيات تتلى وإذا بها تسري إلى القلب سريان النور في الظلماء، حتى يسلم أسيد ويتحول من محارب للإسلام إلى داع إليه؛ لذلك ما أدمن عبد تلاوة القرآن إلا رق قلبه من خشية الله.
ومن الأسباب المعينة على البكاء من خشية الله تذكّر الآخرة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وجحيمها، أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة وأن المتاع فان فإنه حينئذ يحتقر الدنيا، ويقبل على ربها، عندئذ يرق قلبه وتدمع عينه وتخشع جوارحه.
أيها المؤمنون : إن لرقّة القلب علامات، فمن علامات رقة القلب أن لا يفتر صاحبه عن ذكر ربّه، فإن ذِكرَ الله تطمئن به القلوب، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. وفي القلب فاقه لا يسدّها إلا ذكر الله، فيكون صاحبه غنيًا بلا مال، عزيزًا
لقد ضرب أسلافنا المثل الأعلى في خشوعهم وإنابتهم لربهم عز وجل ،فأورثهمالله نور الإيمان في قلوبهم، فصارت قلوبهم لينة من ذكره تعالى، فما تكاد تخلو بالله إلا فاضت أعينهم من الدمع من كمالخشيته،وكان أولهم حبيبنا ورسولنا صلى الله عليه وسلم فقد كان أخشى الناس لله وأرقهم قلباً عليه الصلاة والسلام ، فقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((اقرأ عليّ القرآن))، فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري))، فقرأ من سورة النساء حتى بلغ قول الله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((حسبك))، فإذا عيناه تذرفان.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى سمِع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، أي: كصوت القدر إذا اشتدّ غليانه. رواه أبو داود وأحمد والنسائي.
أيها المسلمون، هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم في بكائه من خشية الله، أخذها الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم، فقد روى الحاكم والبزار بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: كنا مع أبي بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فاستسقى، فقدم له قدح من عسل مشوب بماء، فلما قربه إلى فيه بكى وبكى، حتى أبكى من حوله، فما استطاعوا أن يسألوه عن سبب بكائه، فسكتوا وما سكت، ثم رفع القدح إلى فيه مرة أخرى، فلما قربه من فيه بكى وبكى، حتى أبكى من حوله، ثم سكتوا فسكت بعد ذلك، وبدأ يمسح الدموع من عينيه ، فقالوا: ما أبكاك يا خليفة رسول الله؟! قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان ليس معنا فيه أحد وهو يقول: ((إليكِ عني، إليك عني))، فقلت: يا رسول الله، من تخاطب وليس ها هنا أحد؟! قال صلى الله عليه وسلم : ((هذه الدنيا تمثّلت لي فقلت لها: إليكِ عني، فقالت: إن نجوتَ مني فلن ينجو مني من بعدك))، فخشيت من هذا.
وبكت فاطمة بنت عبد الملك رحمها الله ذات مرة، فسئلت فقالت: رأيت عمر بن عبد العزيز ذات ليلة قائمًا يصلي، فأتى على هذه الآية: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِوَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ، فبكى ثم قال: وا سَوءَ صباحاه، فسقط على الأرض وجعل يبكيحتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم هدأ فظننت أنه قد قضى، ثم أفاق إفاقة فنادى: يا سَوءَ
صباحاه، ثم قفز فجعل يجول في الدار ويقول: ويلي من يوم يكونالناس فيه كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، فلم يزل كذلك حتىطلع الفجر، ثم سقط كأنه ميت، حتى أتاه الإذن للصلاة، فوالله ما ذكرت ليلتهتلك إلا غلبتني عيناي، فلم أملك رد عبرتي.
وقام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى، ثم اجتمع عليه أهله ليستعلموا عن سبب بكائه، فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم، فلما دخل أبو حازم هدأ محمد بن المنكدر بعض الشيء، فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ، فبكى أبو حازم، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء، فقالوا: أتينا بك لتخفّف عنه فزدته بكاء. ولكنه قول اللهوَبَدَا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ.
وكان الربيع بن خثيم يبكي بكاء شديدا، فلما رأت أمه ما يلقاه ولدها من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بنيّ، لعلك قتلتَ قتيلا؟! فقال: نعم يا والدتي، قتلت قتيلا، فقالت: ومن هذا القتيل يا بني، نتحمل إلى أهله فيُعفوك؟ والله، لو علموا ما تلقى من البكاء والسهر لقد رحموك، فقال الربيع: يا والدتي هي نفسي، يا والدتي هي نفسي.
عباد الله، هذا بكاء السلف، وهذه دموع البكائين تسيل، ولسان حالهم يقول:

نزف البكاء دموع عينـك فاستعر عينـا لغيرك دمعهـا مدرار


من ذا يعيـرك عينه تبكـي بهـا أرأيت عينا للدمـوع تعـار



التعديل الأخير تم بواسطة الطاهرة المقدامة ; 07-04-2010 الساعة 04:08 PM.
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة