الدرس الثامن
الشكر
التعريف:
لغة: مأخوذ من مادة (ش ك ر)، وتدل على الثناء على الإحسان والمعروف، وهو الرضا بالقليل، ويقال: شكرتُ الله ولله.
اصطلاحًا: ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيمانًا ومحبةً، وفي لسانه ثناءً واعترافًا، وفي جوارحه انقيادًا وطاعة.
منزلة الشكر:
1- صفة من صفات الله - عز وجل - ومن أسمائه الشكور؛ قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا** [النساء: 147]، وقال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ** [التغابن: 17].
2- خلق من أخلاق الأنبياء؛ يقول سبحانه عن نوح: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا** [الإسراء: 3]، وقال عن إبراهيم - عليه السلام -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ** [النحل: 120]، وقال عن سليمان - عليه السلام - لما رأى عرش بلقيس مستقرًّا عنده: {فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ** [النمل:40]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعائشة: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!))[1]
3- خلق من أخلاق المؤمنين؛ قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ** [البقرة: 172].
4- وهو في الناس قليل؛ {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ** [الأعراف:10]، وقال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ** [سبأ: 13].
5- علّق الله - سبحانه - المزيد بالشكر، والمزيد منه لانهاية له، كما لا نهاية للشكر؛ فقال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ** [إبراهيم: 7].
إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللهِ نِعْمَةً عَلَيَّ وَفِي أَمْثَالِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ
فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلاَّ بِفَضْلِهِ وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ وَاتَّصَلَ الْعُمْرُ
وقريب منه قول بعضهم:
شُكْرُ الْإِلَهِ نِعْمَةٌ مُوجِبَةٌ لِشُكْرِهِ
فَكَيْفَ شُكْرِي بِرَّهُ وَشُكْرُهُ مِنْ بِرِّهِ
مراتب الشكر:
الأولى: شكر القلب:
بحيث يعلم أن الله - تبارك وتعالى - هو المنعم بكلِّ النعم التي يتقلب فيها، ولقد وبَّخ سبحانه الجاحدين لها؛ فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ** [فاطر: 3]، وللوصول لهذه المرتبة يسلك القلب الطرق التالية:
أ- رصد النعم ومحاولة عدِّها وإحصائها؛ قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ** [النحل: 18].
ب- الحذر من فتنة الشيطان، فهو يسعى جاهدًا أن يصرف الإنسان عن شكر المنعم: {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ** [الأعراف: 17].
الثانية: شكر اللسان:
وذلك بأن يلهج اللسان ذكرًا وحمدًا ودعاءً لله - تبارك وتعالى - حيث علَّمنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أدعية شتى واستغفارات عدة:
أ- ابتداءً عندما يأوي المرء إلى الفراش فيقول: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا؛ فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي))[2].
ب- وإذا أفاق قال: ((الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وردَّ عليَّ روحي، وأذن لي بذكره))[3].
ج- وذكر الله بالصباح والمساء، ومنها قوله: ((اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، من قاله حين يصبح فقد أدَّى شكر يومه، ومن قاله حين يمسي فقد أدى شكر ليلته))[4].
د- وعلَّمَنا سيد الاستغفار؛ ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قاله حين يمسي، فمات من ليلته، دخل الجنة، ومن قاله حين يصبح، فمات من يومه، دخل الجنة))[5].
هـ- وعلَّمَا التحميد لله - تعالى - في افتتاح الدعاء، والخطبة، واستفتاح الصلاة، وفي الذكر بعد الصلاة المفروضة، وفي أدعية التهجد، وبعد الفراغ من الأكل والشرب وغير ذلك.
ولو مكث العبد يومه كلَّه يلهج بالحمد لله - تعالى - ما وفَّى شكر نعمة واحدة من النعم الإلهية عليه، فكيف وهي نعم كثيرة لا تحصى؟! ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك))[6].
الثالثة: شكر الجوارح:
وذلك باستعمال النعم فيما يرضي الله - تعالى - وهذا يحتاج إلى فقه في دين الله – تعالى - لأن العمل الصالح الذي يرضاه الله - تعالى - يعرف من طريق الوحي؛ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ** [الأحقاف: 15]، وفي السنة أن كل آدمي يصبح معافى في بدنه، فهو مطالب بثلاثمائة وستين صدقة يتصدق بها في ذلك اليوم بعدد مفاصل جسمه، وتكون هذه الصدقات هي الشكر اليومي الذي يفكُّ به رقبته من النار؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خُلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن ذكر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، وعزل حجرًا عن طريق المسلمين، أو عزل شوكة، أو عزل عظمًا، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، عددَ تلك الستين والثلاثمائة السلامى - أمسى يومه وقد زحزح نفسه عن النار))[7].
قواعد الشكر:
ذكر الفيروزآبادي للشكر قواعد لا يمكن وصول العبد إليه إلا بتحصيلها:
1- خضوع الشاكر للمشكور.
2- حبه له.
3- اعترافه بنعمته.
4- الثناء عليه بها.
5- ألا يستعملها فيما يكره.
بين الشكر والابتلاء:
قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ** [الأنبياء: 35]، يقول ابن القيم: "كل ما يلقى العبد في الدنيا لا يخلو من نوعين؛ موافق لهواه ومخالف له، أما الموافق لهواه فينبغي له أن يصبر فيه من وجوه:
1- عدم الركون إليها.
2- عدم الانهماك فيها.
3- أداء حق الله فيها.
4- عدم صرفها في الحرام".
ولذلك يقول عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: "ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر".
بين شكر الله وشكر الناس:
ليس هناك في قلب المسلم أعظم من خالقه ومولاه، كما أن الواجب أن يعرف المرء لذي الفضل فضله؛ كقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ** [لقمان: 14]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -
(من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء))[8]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من لا يشكر الناس لا يشكر الله))[9].
يُزَهِّدُنِي فِي كُلِّ خَيْرٍ صَنَعْتُهُ إِلَى النَّاسِ مَا جَرَّبْتُ مِنْ قِلَّةِ الشُّكْرِ
من فوائد الشكر:
1- كسب رضا الله ومحبته.
2- الشكور قريب من الناس حبيب إليهم.
3- دليل على سمو النفس ووفور العقل.
4- حصول زيادة النعم وحفظها من الله للشاكر عند أداء شكرها.
5- محفز على اعتراف العبد بالنعم الإلهية.
المراجع:
مدارج السالكين، لابن القيم، (2/2449).
عدة الصابرين، لابن القيم، (64-144).
جامع العلوم والحكم، (26).
فتح الباري (م11).
لسان العرب، (4/2305-2308).
إحياء علوم الدين، (4/124).
الأذكار للنووي، حصن المسلم للقحطاني.
ـــــــــــــــــــــ
[1] أحمد (18384)، والبخاري (1130)، ومسلم (8/141).
[2] مسلم، (8/79)، رقم (6993)، والبخاري في الأدب المفرد، (1206)، وأبو داود (5053)، والترمذي، (3396).
[3] الترمذي، (5/473).
[4] أبو داود، (5/314)، رقم (5073) بإسناد حسن، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، (1079).
[5] البخاري، (6323)، الفتح، (11/134).
[6] أحمد (751)، وأبو داود، (1427)، وابن ماجه، (1179)، والنسائي، (3/248).
[7] مسلم، (3/82، 83)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (837).
[8] الترمذي، (2035).
[9] أحمد، (2/258)، رقم (7495)، والبخاري في الأدب المفرد، (218)، وأبو داود، (4811)، والترمذي، (1954)، وابن حبان، (3407)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (417).
على هذا الرابط :
http://www.alukah.net/articles/1/8063.aspx