الخلايا التي يصنعها النحل وتظهر الهندسة السداسية الرائعة. كما أنك واجد ـ إذا كنت من الغواصين المحترفين ـ في أقصي أعماق البحار والمحيطات، حيث لا ضوء ينفذ، ولا بشر يعتاد المشاهدة..آيات من الإبهار الجمالي والإعجاز اللوني في الشعاب المرجانية، والأسماك والكائنات البحرية. صفاء ماء، وروعة ألوان، وإنسيابة حركة.. ماأروع هذا الجَمال؟! جزء من زعنفة سمكة بها خطوطا طولية وبقعاً برتقالية، متناسقة متناسبة متداخلة الألوان. نجمة البحر، حيث التناسق البديع وجاذبية الألوان. لقد تجاوز العلم نظرته لدور ريش الطيور في عملية الطيران وتنظيم حرارة الجسم، فالآن له دور آخر جمالي/ زخرفي، مميز للطائر، بل "معبر عن ذاته". إن الضرورة قد تفسر لماذ يكون صوت العصفور جميلاً في سمع عصفور آخر، لكنها لا تفسر لماذا يكون جميلاً في سمع الإنسان؟. إن الحياة تتجه نحو الأجمل، فالأجمل، وليس نحو "البقاء للأقوي" كما زعم "دارون". فلماذا يخرج من عائلة ذات الحافر الواحد الحصان وهو ليس في قوة وإحتمال وجلد الحمار؟، ومن عائلة ذاوت الظلفين هناك الغزال الأرهف والأضعف, والاقل جلداً وتحملاً من الوعل.؟. ونجد الحمام والطواويس والعاصافير الملونة أكثر رقة ورهافة من الصقور والنسور. كما إن الفراشات الملونة، بأجنحتها المنقوشة الرقيقة هي أقل ملائمة وتحملاً من الزنبور الطنان القوي الشكل. يقول تعالى:"وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ"فاطر:28. بعد بحوثها المتنوعة والمكثفة تبنت النظرة الجديدة للعلم أن: الإدراك والتفكير وعمليات "العقل" الرائعة ليست من صنع المادة، بل إنها تؤثر تأثيراً مباشراً في العلميات الفسيولوجية/ المادية ذاتها عبر ما سمي بالتأثيرات النفسجسمية Psychosomatic effects. كما رفض رواد نفسيون بـتفسير السلوك البشري بلغة الغرائز "الحيوانية" والدوافع "البهيمية"، وآمنوا ـ بدلاً من ذلك ـ بالقيم الأخلاقية والجمالية، والجوانب الروحية والفكرية والنفسية. إن " دارون، ومن سار سيره" لا يستطيع تفسير كل ما سبق فضلاً عما أتى به الإنسان من مواهب معنوية عدة لا تعود بنفع مادي على عاداته اليومية، أو بسبب من "تكيف" مباشر لمواجهة ظروف بيئية. ليس الأمر متوقفاً عند تلبية الضرورات/ المادية. إن كل نظرية تفسر نشوء الحياة والأنواع كمادة، ولغرض مادي/ ضروري بحت، دونما تفسير للقيم الجمالية/ الغائية من ورائها هي نظريات ناقصة ومبتسرة بل وخاسرة. ولاشك أن انهيار حلقة واحدة من البناء، يقود لانهياره كله، وهكذا النظريات سواء بسواء. لقد أكد القرآن الكريم أن الأمر: ليس متوقفاً عند تلبية الضرورات/ المادية من طعام وشراب وتناسل وركوب، بل يُتجاوز ذلك بإبداع الخلق، وتلبية حاسة تذوق الجَمال، والحاجة إلى الزينة: "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"النحل:5-8، ويقول تعالى: "وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ"النحل:13. إن في الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ والجمال، والبقر والغنم والماعز والقطط والطيور والأسماك والفراشات.. جَمال. ويبرز سؤال: هل تتذوق هذه الكائنات الجَمال، وتشعر به؟. إن خلقها ـ كما الكون ـ على هذا النحو من الجَمال دال أبلغ دلالة على إتقان صنعة مبدعها وخالقها: "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ" النمل: 88. ويقول صلي الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطرُ الحق وغمطُ الناس) رواه مسلم. ليس ثمة ضرورة نفعية/ حياتية تفرض وجود مظاهر الجمالم الإبداع في النبات والحيوان، ومن قبلهما الجماد. فجمال الكون وإبداعه ناشئ عن علة لا تحكمها الضرورة أو الصدفة أو تفسيرات دارون وغيره. إن نكران الإبداع الإلهي المُوجد للحياة والإحياء على هذه الصور المتعددة الجميلة ليصطدم بالمنطق العلمي/ العقلي قبل إصدامه بالدين، يقول تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" فصلت: 53. هي أولاً وآخراً إرادته تعالى.. القادرة المدبرة الحكيمة البديعة، في خلقه، وبديع صنعته، وحسن إتقانها: "هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ لقمان: 11. ويقول تعالى: "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" الأنعام:101. وبـَدع الشيء بَدعاً: اخترعه، وصنعه، وأنشأه علي غير سابق مثال، فهو بديع، وأبدع: أتي بالبديع، والإبداع: إيجاد الشيء من عدم، والـبِِـدع بكسر الباء: الأمر الذي يُفعل أولا، ويقال ما كان فلان في ذلك بٍدعاً، وفي القرآن الكريم:" قل ما كنت بـِدعاً من الرسل"، والبٍدع: الغاية من كل شئ، والبديع: المُبدع، وفي القرآن الكريم: َبدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"[14]. طين تشكل بهذه الأشكال الهندسية بعد طوفان.. لاشك لوحة رائعة تشهد على إعجاز وإبداع. صفوة القول: يبقي الترحال عبر الكون، هو امتثال وطاعة لأمر الله تعالى:" قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"العنكبوت: 20. ثم هو يثري ـ ليس فقط ـ الوعي والذائقة الجمالية, التي هي أيضاً هبة من الله تعالى، بل أيضاً يـُزيد الإيمان بما يثمره ـ ذلك الترحال ـ من معرفة بتجليات اسمه تعالى "البديع". ومن ثم نعلم تمام العلم أن أصل الكون وبنيته الجميلة تؤكد أن مبدعه، والقيوم عليه هو الله تعالى. وأنه صاحب النعم كلها، المتفضل بها على الإنسان، ليعيش بها أحسن وأجمل وأبهى مايكون:" وما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ"النحل:53. وفي الضر جمال ..يجعلك تعيد الصلة بالله تعالى وتجأر له وحده بالدعاء والإستغاثة. ومن ثم نعبده ـ تعالى شأنه ـ بكل أسمائه الحسنى، وصفاته العُليا، يقول تعالى: "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه،ِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"الأعراف:180. إن الجمال عنصرٌ أصيلٌ عند النظر للحياة والكون, فالجمال قيمة معنوية مبثوثة في الكون, جماداته.. وأحيائه، من الذرة إلي المجرة. ففي الوجود الجامد الميت جمال كما الحال في الوجود الحي, ولا ينبغي أن يُرى هذا الجمال المتغلغل فى الكون دون تذوقه, ورؤية مبدعه, ومن ثم حبه, إذ لا يُتصور محبة حقيقية إلا بعد معرفة وإدراك.