العلم الحديث.. ومظاهر الإعجاز الجَمالي، وتجليات الإبداع الإلهي. ا.د./ ناصر أحمد سنه كاتب وأكاديمي في جامعة القاهرة. الجمال والإبداع صفتان متلازمتان. ومظاهر الجَمال والإبداع المبثوثة في الكون، بجماداته قبل أحيائه.. للعلم فيها نظرتان: نظرة علمية قديمة، وأخرى حديثة. بيد أن الوعي الجمالي يرتبط بالوعي الإيماني والعقدي ومحوره كيف تنظر للكون وللحياة والأحياء؟, وكيف يمكن تفعيل الحواس لتتذوق ـ بعد تيقنها من المسلمة الكبرى أنه لابد للخلق من خالق ـ مظاهر الإعجاز الجَمالي، وتجليات الإبداع الإلهي?. ويبقي أن هناك جوانباً من العلم تكشف وتضيء وتوضح الإرتباط الوثيق بين نظام الخلق، ومظاهر الإعجاز الجَمالي، وتجليات الإبداع الإلهي، يقول تعالي: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" فصلت: 53. فماهي تفاصيل بعض هذه الجوانب؟. لقد تبنت النظرة القديمة ـ ومبناها مادي خالص حيث المادة أساسية، والعقل ثانوي ـ عدم الإعتراف بعنصر الجمال / الإبداع كمبدأ أساس من مبادئ العلوم وفلسفتها. فالجَمال ـ برأيها ـ لا يمكن قياسه أو وزنه أو اختباره, ولذا اعتبرته انعكاساً من الشخص/ المراقب للظاهرة موضوع البحث، وليس صفة من صفات الظاهرة/ الشيء الكامنة فيه. ويجمع رواد هذه المدرسة أمثال: "ديكارت"، و"بيكون"، و"سبينوزا"، و"دارون"، و"فرويد" علي أن: الجمال ليس صفة "حقيقية" في الشيء المدروس, ولا يدل الجميل، ولا المُبهج على أكثر من موقفنا العقلي، أو تأثرنا الغريزي من الحكم على الشيء ذاته [1]. لذلك فنظرتهم المادية للكون مبانها على إنكار "مبدأ الغائية" فيه. فالكون ليس سوى "مادة"، وأن " الإحساس" ليس سوى تغير مادي، لذا فليس في الأشياء الطبيعية ثمة "هدف/ غائي" مقصود، بل هو تصرف بضرورات ميكانيكية داخلية ليس إلا. وبالتالي يلزم التفسيرات العلمية الإقتصار على تلك الأسباب المادية والميكانيكية فحسب. لكن ـ وبعد مباحثها في علوم الفيزياء والدماغ والأعصاب والوراثة وعلم النفس ـ رأت المدرسة الجديدة في العلم وروادها أمثال: "أينشتين"، و"هايزنبيرغ"، و"بور"، و"شرنجتون"، و"أكلس"، و"سبرى" :إن الكون بما يمثله هو وحدة كلية واحدة.. وأن المادة ليست أزلية، والكون في تمدد وتغير مستمرين.. وهنا يبرز الجَمال كوسيلة هادية لاكتشاف الحقيقة العلمية، ومقياس لها [2]. وتخلص النظرة العلمية الجديدة إلى التأكد على أن الكون بمجموعة ـ بما في ذلك المادة والطاقة والزمان والمكان ـ "حدث" قد وقع في وقت واحد، وله بداية محددة، لذلك فلابد له من مُوجد: كما تؤكد أن هناك سماتاً موضوعية وليست من قبيل الصدفة، تكمن وراء هذا الجمال/ الإبداع الكوني المتنوع، وليس "إنعكاساً في عين الناظر/ المراقب له". فما هي تفاصيل ذلك؟. النظرة العلمية الجديدة.. والجمال/الإبداع في مجال الفيزياء. إن كبار علماء الفيزياء قد نشدوا "الجمال/الإبداع " من خلال نظرياتهم العلمية.. في الذرة والمجرة. فذلك "الجمال العلمي في النظريات" يستوجب الإعجاب ـ حسب "اينشتين"، إذا لبى شروطاً ثلاثة: إذا كانت مقدماتها أبسط، و"البساطة تستلزم كمالاً وأقتصاداً"، وإذا كانت الأشياء التي تربط بينها أشد اختلافاً، ثم إذا كانت صلاحيتها للتطبيق هي أوسع نطاقاً [3]. الفيزيائي"لويس دوبرجلي" يقول الفيزيائي"لويس دوبرجلي":كان الإحساس بالجمال في كل عصر من تاريخ العلوم دليلاً يهدي العلماء في أبحاثهم, ويؤكد الفيزيائي "ريتشارد فينمان": إن المرء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها، وبساطتها وروعتها.. ففي الطبيعة بساطة ومن ثم جمال عظيم. لذلك فالنظرة الجديدة في العلم تطرح مبدأ: أن الطبيعة جميلة، فالجمال ـ إذن ـ يُعد معياراً في تناول العلوم وفلسفته ونظرياته، والعالم الذي يعمي عن رؤية هذا الجمال هو قليل الحظ من العلم. وهذا رائد مجال ميكانيكاً الكم Quantum Mechanics "هايزنبيرغ" يقول: النظرية مقنعة بفضل كمالها، وجمالها التجريدي..وأن الفيزياء الذرية المعاصرة قد نأت بالعلم عما كان يتسم به من اتجاه مادي في القرن التاسع عشر [4]. إن "نيوين" قد أدهش العلم والعلم عندما قام بتفسير ظواهر سقوط الأجسام، والمد والجزر، وحركة الكواكب والمذنبات بثلاثة قوانين بسيطة. لكن يبقي السؤال: ماهذا السر الرائع وراء ظاهرة "الجاذبية الأرضية"، وتناسبها وتناسقها مع الكائنات والمخلوقات على ظهرها؟ ومن الذي ثبت الأرض بالجبال فكانت مثل الرواسي للقشرة الأرضية ولولاها لاضطربت هذه القشرة الضعيفة والرقيقة، من الذي سخر الرياح، والمجال المغناطيسي "الرائع" للأرض، وجعل النجوم "علامات مضيئة" نهتدي بها، وهل ثمة تفسير علمي فقط لوجود كل هذا الإعجاز الجمالي وغيره في الطبيعة؟ [5]. إن "أينشتين" يؤكد أنه: لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق وتناغم داخلي في الكون..تناسق الأجزاء مع بعضها البعض ومع الكل الجامع [6]. وبحثاً عن هذا التناسق والتناغم الداخلي في الكون سعى علماء الفيزياء, منذ "اسحق نيوتن" 1642-1727م وحتى سبعينيات القرن الماضي, ليكتشفوا ـ أخيراً ـ جمال التوحد الذي يشمل ظواهر الكون الفيزيائية الأربع: الكهربائية والمغناطيسية والنووية والجاذبية, ومثلوا على ذلك: استقرار الأقمار الصناعية في مداراتها الثابتة حول الأرض إنما هو محصلة تناسق بديع بين قانون الجاذبية الأرضية، وقانون القوة الطاردة المركزية[7]. بينما تتعدد مظاهر الجمال الزاخر والإبداع المبثوث في الكون المادي، فنجد على سبيل المثال: - أحجار الجيودات Geodes حجر النسر/ حجر البهت ذو التجاويف والمبطن ببلورات أو بمادة معدنية، والأحجار الكريمة البلورات بها جمال وتناسق وألوان وإشراق لا سبيل إلى إنكاره. - ندف الثلج Flakes/Snow Crystals، الجميل، وتنوعاتها الهائلة والمدهشة والفريدة، المستندة إلى الشكل السداسي. وقد بذل "دبليو.أ. بنتلي" في تصوير نحو ألفي شكل منها، ضمن معرض الطبيعة الدائم للزخرفة، والزخرفة ليست نتاج الصدفة أو الضرورة في جهد كبير استغرق من حياته نحو خمسين عاماً وقد جمعها في كتاب مدهش ورائع[8]. لقد تم الاعتماد علي هذه الأشكال كثيراً من قبل الفنانين، ومصممي الصناعات المتعددة النسيج، الخزف والسيراميك، والحلي والجواهر، الخ. تنوعات هائلة من الشكل السداسي الرائع لندف الثلج! يقول "هنري ثورو": أكاد أجزم أن صانع هذا العالم تتجلي براعته في كل ندفة ثلج، أو قطرة ندى. نظن أن الأولى تتماسك بصورة ميكانيكية، والأخرى تسيل فتتهاوى بكل بساطة لكنهما في الحقيقة إنعكاس للجمال من يده [9]. تتفجر الأنهار وسط الأحجار، وتتشقق فتخرج منها الماء، وتهبط من خشية الله، ياله من جَمال وروعة تنضح به "جمادات" الكون[10] :".. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" البقرة:74. يقول "هنري ثورو": أكاد أجزم أن صانع هذا العالم تتجلي براعته في كل ندفة ثلج، أو قطرة ندى. نظن أن الأولى تتماسك بصورة ميكانيكية، والأخرى تسيل فتتهاوى بكل بساطة لكنهما في الحقيقة إنعكاس للجمال من يده [9]. تتفجر الأنهار وسط الأحجار، وتتشقق فتخرج منها الماء، وتهبط من خشية الله، ياله من جَمال وروعة تنضح به "جمادات" الكون[10] :".. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" البقرة:74. في تشقق الأرض الجامدة نرى الهندسة الرائعة! خطوط وتداخلات وكأنها لوحة فسيفساء!. ولاشك أنك واجد في زبد البحر، وأمواجه، وما يحمل من جواري منشأت كالأعلام، وأسطح الجليد، والرياح وسيرها، ومرّ الجبال كمرّ السحاب، وجمال غروب الشمس، وتألق ألوان قوس قزح الرائعة مظاهر جمال وإبداع وبهجة, في آن معاً. سطح جليدي شكلته قدرة الخالق فعندما يتجمد الماء في الشتاء البارد يشكل مثل هذه التلال والوديان. إن الجمال في مجال الفيزياء سمة غالبة، فالتجربة قد تخطئ، والجمال قلما يخطئ فهو يثبت الحياة في العلم. والحقيقة أنه ليست هنالك ضرورة إذ يمكنها أن تسير دون ذلك تفرض في المقام الأول أن تشتمل القونين الفيزيائية للطبيعة علي البساطة والتاسق والتناسب والتماثل والتألق والروعة والإبهار. الحق أنه يقف وراء ذلك "إرادة بديع السموات والأرض"[11]، يقول تعالي:"َبدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"البقرة:117، النظرة العلمية الجديدة.. والجمال/ الإبداع في مجال الأحياء في داخل الخلية الحية، وفي الدورة الدموية، والوصلات والإشارات والإنعكاسات العصبية.. جَمال وإبداع. وفي إلتئام الجروح والكسور.. والنفوس جَمال. فلا يخلو كائن حي.. دقيق أو كبير من جَمال وإبداع. يروي جيمس واطسن في كتابة "اللولب المزدوج" :إن الجَمال هدى إلى اكتشاف التركيب الجزيئي لحامض النووي د.ن.أ، حيث أكد كل منا للآخر أنه لابد من وجود تركيب علي هذا الجانب من الجَمال"[12]. ويشير "أدولف بورتمان"، الحُجة في مجال أشكال الكائنات الحية وعلاماتها المميزة ووظائفها :أن هناك سماتاً كثيرة لا تفسرها الضرورة أو الملائمة للبقاء، فالأوراق ضرورية لإنتاج الشجرة غذائها، ولكن هناك الكثير في شكلها، وخطوطها مما ليس تكيفا مع البيئة، بل هو أمر جمالي تصويري محض. إن عملية التمثيل الضوئي قد تفسر وجود وظيفة الأوراق، لكنها لا تفسر بأي حال تمايز وجمال ورقة البلوط عن ورقة القيقب[13]. إن الزهور، وأوراق النباتات وتصنيفاتها وعروقها وتعرجاتها الماكروسكوبية منها الميكروسكوبية، وألوانها، تعطي تصانيف جمالية لا حصر لها هي غاية في الإبداع والدقة والإنسجام والتناسق المبهر. صفات تبعث علي البهجة":"..وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ الحج: 5، ويقول تعالى: "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" ق: 7. ويقول جل شأنه:" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ"الزمر:21. زهرة تتداخل وتتدرج ألوانها الرائعة،حيث الجاذبية الجمالية للألوان. إنها دعوة مستمرة لتأمل "دنيا النبات" واليانع من الثمار:" وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"الأنعام:99. ولا يصيب العلم الحديث مللٌ من التأكد على لفت الإنظار لتأمل بيوت الحشرات "الهندسية الرائعة" كالعنكبوت، وخلايا مستعمرات النحل و"إعجازها الجمالي، وهندستها السداسية البديعة"، وأشربتها مختلفة الألوان"، يقول تعالى:"ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَالنحل: 69. العنكبوت، ونظام هندسي متقن؟