مرت الأيام تجر بعضها بعضا و الشهور تسحب ببطء من تحت أقدامها البساط
لتكشف لها عن مضي سنوات مضت و تولت بدون رجعة إنقضت من عمرها ..
يد قوية تلوح لها ثارة و تمتد ثارة أخرى و لا تدري أهي يد الواقع تفاجؤها ..
أم تلك يد الحياة و البيئة تصدمها بحقيقة دخولها في سن يستوجب عليها أن تجد و تجتهد
لتبحث عن عمل تكسب منه قوت يومها ..عمل يفي مرتبه بطلباتها و يقضي حاجياتها المتزايدة
و يشاء رب الأقدار أن يجمعها ذات يوم بأختها
التي رحلت عنهم بعد أن تزوجت مبتعدة عن ديارهم إلى مدينة أخرى ..
سنتين أو ثلاث مضت لا فارق عندها فقد كادت أن تنسى نبرات صوتها
رغم أن شقيقتها التي تكبرها بسنوات كثيرا ما إتصلت بهم هاتفيا ..
و لكن أحدا لم يستطع أن يرد على مكالماتها
لا داعي للبحث عن مبررات تبرئ ساحتها فتوريط والدتها التي كانت تتجاهل بإصرارإبنتها الكبرى
بل و تتمنى من الجميع فعل ذلك كان كاف لاستخدامه كسلاح دفاع في كل وجه إن استلزمت الحاجة و دعت الضرورة
لم تنس تلك الصورة الأخيرة لوجه أختها
و قد جمع تناقضات تدافع بعضها ليحل محل بعض.. صورة رسمت في الذاكرة و إحتفض بها مخزنها و ثبتها
كان ذاك يوم أن جاءتهم سعيدة تبشرهم بخبرها فإذا بوجوه عابسة حزينة كئيبة تواجهها بقوة ..
و ترد على فرحتها بالإستهزاء تارة و بكلمات السخط والدجر ثارة أخرى ...
نظرت إليها بتمعن ثم قالت في نفسها (إنها هي أختي فلانة )
فملامحها العامة لم تتغيرو لن تخفى علي و لن تغيب عني رغم أنها إجتهدت لتخفي الكثير منها بذلك اللباس ..
أحست بانجذاب لم تستطع مقاومة جبروته كان بكل قوة يدفعها نحوها ..
أصلة رحم مدت جسورها من جديد رغم أنها لم تعرف لتلك الصلة حبال وصال ؟!
أم هو الدم يجذبها رغم إزدحام المكان بالمارة لتحتضنها بقوة ؟!
أم هي مجرد أشواق مفتعلة بعد طول غياب ؟!
جعلت من العناق يبدو حارا و من الوصال يبدو مشهده أقرب لساحة الحقيقة من التمثيل
تساؤلات لم تكن تهمها حقيقتها فألقت بها ظهريا و لكن ما وضع لمساته المؤثرة و لمس الأعماق
هو سر ذلك الشعور الذي انتابها و ذاك الدفء الذي أحست بتغلغله في الحنايا مع حرارة ذلك العناق
الذي ما سبق لها و أن شعرت به من قبل
سألت كل منهما عن أخبار الأخرى
فلم تستطع صاحبتنا إخفاء انزعاجها من الحياة
التي تدور بأصحابها في دائرة مغلقة تهمش بعضهم و تقضي على ثلة منهم بطاحونة الروتين و تضع من تبقى
في دوامة البحث عن كل ما هو جديد لعله يحمل في ثناياه المتعة والفرحة التي يلهث وراء خيوطها البشر
و لكن المبشر في كل ما أخبرته بها على عجالة هو أنها أصبحت أكثر نضجا و أكثر تحملا للمسؤولية
و عليها أن تتحمل نفقاتها و حاجياتها الخاصة بل و تشارك إجبارا في ميزانية الأسرة
أما الأخت الكبرى فقد بدت أكثر ثقة في ردودها التي طبعها طابع الإتزان
كانت ترد مع إبتسامة تزين صفحة وجهها فيزادد إشراقا إبتسامة تنبعث من نفس مطمئنة راضية
كأن مشاكل الدنيا قد فارقتها و مصاعب الحياة قد سلكت طريقا غير طريقها
قالت في نفسها لاشك و أن سر ذلك يكمن في سعادتها في حياتها مع زوجها
لم يمر عليهما زمن طويل حتى أخذت صاحبتنا تنظر لساعة في يدها و كأنها إستدركت شيئا قد فاتها أو يكاد
فبادرتها هي الأخرى بأنها مستعجلة أيضا و أخرجت قلما و كتبت لها رقم هاتفها النقال طالبة منها بلطف و رجاء
أن تجدد الوصال و تسعى لتكون معها على إتصال
لم تجد أمامها إلا إبتسامة أبدت بها رغبتها في أن يطول اللقاء و لكنها أعقبت ذلك بالإعتذار
فقد كان في إنتظارها موعد هام لا تستطيع تعطيله و ضعت الورقة الصغيرة في جيب حقيبتها و قبل أن تغلقها
إمتدت لها يد أختها الكبرى في حنو و ناولتها بعض المنشورات و طلبت منها أن تحتفظ بهم كهدية متواضعة
لعلها تنتفع بهم يوما
أخفت إستغرابها من نوع الهدية و لكن ذلك لم يمنعها من تقديم الشكر لها بعد أن وضعت الهدية في الحقيبة و أغلقتها
ودعت كل منهما الأخرى و شقتا طريقهما كل واحدة تسرع الخطى و تقرب المسافة للموعد المنتظر
هدية كهذه ليست لها معنى و لكن الفضول جعلها تفتح حقيبتها من جديد
و تلقي على عناوين تلك المنشورات نظرة سريعة ثم تعيدها لمكانها في انزعاج
بعد أن تمتمت و هي تهز رأسها يمنة و يسرة قائلة :
(لا يوجد ما يهم )