ومن الأدلة أيضا :- أن الساحر لابد له في حال حل السحر أن يتصل بالشياطين ، وهذا الاتصال بهم من قبله لابد وأن يتضمن أمرا ينافي التوحيد ، لابد من ذلك ، لأن الشياطين لا تخدم الساحر من أجل سواد عيونه ، بل تخدمه على حسب كفره وشدة إجرامه في جانب الحق والخلق ، فإن جوزنا الذهاب للساحر بقصد التداوي فإننا نجوز ضمنا هذا الاتصال ، فانظر كيف أفضت الحال بالقول بالجواز إلى القول بإقرار الاتصال الشركي ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ومن أوجه المنع أيضا:- أن القول بتجويز حل السحر بالسحر يفضي إلى تسلط الساحر على الناس في سحرهم ليضطروا له في الحل عنهم ، فيأخذ عليهم الأموال الطائلة ، قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى ( ولهذا ترى كثيرا من السحرة الفجرة في الأزمان التي لا سيف فيها يردعهم يتعمد سحر الناس ممن يحبه أو يبغضه ليضطره بذلك إلى سؤاله حله يتوصل بذلك إلى أموال الناس بالباطل فيستحوذ على أموالهم ودينهم نسأل الله تعالى العافية ) فلابد من سد هذا الباب السد المنيع ، ولا يتأتى هذا إلا بالقول بمنع الذهاب لهم المنع المطلق ، وهو الحق الذي لا يجوز القول بغيره في هذه المسألة .
ومن الأوجه أيضا :- أن النبي صلى الله علبه وسلم قد وصف هذا العمل بأنه من عمل الشيطان وذلك في قوله لما سئل عن النشرة قال " هي من عمل الشيطان " وهذا أبلغ من مجرد النهي عنها فهي من عمل الشيطان ، وما كان من عمل الشيطان فإنه لا يكون إلا ممنوعا ، فكيف تطيب النفس بتجويز شيء من عمل الشيطان ؟ فالله المستعان .
ومن الأوجه أيضا :- أن القول بتجويز حل السحر بالسحر فيه فتح لباب تعلم السحر ، لأن ثمة من سيتعلمه بهذا القصد ، فيفضي هذا إلى كثرة الشر وانتشار الشرك ، وإضلال الناس بحجة الاستشفاء فينفتح باب السحر ، وتظهر قرون الوثنية ، ويفرخ الشيطان في عقول الناس وقلوبهم وتكون له السيطرة ، ويحتل منصب القوة على بني آدم ، فالشريعة قد أغلقت باب السحر ، ومن ذلك إغلاق باب تعلمه ، والقول بتجويز حل السحر بالسحر مما ينفتح به هذا الباب ، فلابد من سد بابه بمنع تعلمه مطلقا ، ولو كان يراد به نفع الناس بحل السحر عنهم .
ومن الأوجه أيضا :- أن المتقرر أن سلامة المقاصد لا تسوغ الوقوع في المخالفات ، فالذهاب لهم وإن لم يقصد به صاحبه إلا نفع نفسه بالعافية ، ولا يريد به إضرار أحد ، والساحر وإن نوى نفع هذا المريض ، إلا أن ذلك كله لا يسوغ الوقوع في المخالفات ، فالسحر حكمه التحريم ، بغض النظر عن مقاصد تعليمه وعمله ، ولا يجوز لأحد أن يترخص في الذهاب إلى السحرة والكهان بحجة أن قصده سليم ، لما قررناه لك .
ومن الأدلة أيضا:- أن المتقرر في قواعد الشرع أن كل من اتخذ سببا لم يدل عليه شرع ولا قدر فقد أشرك الشرك الأصغر ، وإن اعتقده الفاعل بذاته فشرك أكبر ، والمعالجة التي ستتم عند الساحر كثير منها يكون فيه اختراع علاجات لم يثبت الدليل الشرعي ولا الدليل القدري أنها نافعة ، فضلا عن أن كثيرا من هذه الأدوية التي يصنعها هي أصلا في ذاتها لا تجوز شرعا لما اشتملت عليه من الضرر الديني والبدني ، فهي في حقيقتها اختراع أسباب لم يأت بها الشرع ولا تثبتها التجربة ، بل الشرع جاء بإبطالها ، وندب إلى محاربتها لما فيها من الضرر العظيم والمفاسد الكبيرة ، والعوائد الخطيرة على الفرد والمجتمع في أبدانهم وأديانهم ، فهي من اتخاذ الأسباب بلا دليل شرعي ولا قدر مرعي ، فهي من الشرك الأصغر إلا في حق من اعتقد أنها الفاعلة بذاتها فتكون في حقه من الشرك الأكبر ، فالواجب سدها ومحاربتها ، وهذا لا يتأتى مع القول بتجويز الذهاب إلى السحرة والكهان بل لا يتأتى إلا مع القول بتحريم حل السحر بالسحر ، ولو تأملت هذا الوجه من الاستدلال لوجدته قويا في ترجيح التحريم ، فالذهاب إلى السحرة ليس من الأسباب المعتبرة في الشرع في العلاج ، بل هو مما جاءت الشريعة بصد بابه ، والله أعلم .
ومن الأدلة أيضا:- ما رواه الحاكم في المستدرك عن الحسن قال : سألت أنس بن مالك عن النشرة فقال : ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنها من عمل الشيطان " وقال :- هذا حديث صحيح و أبو رجاء هو مطر الوراق و لم يخرجاه ، وقال الذهبي في التلخيص : صحيح ، والنشرة على القول الصحيح هي حل السحر بالسحر, فبان لك بذلك القول الصحيح الحق في هذه المسألة وأن حل السحر بالسحر لا يجوز ، وأنه من النشرة الشيطانية ، وأنه دل على منعه الكتاب والسنة وقواعد الشرع ، والمعقول الصريح ، والله أسأل أن يشرح صدورنا للحق الموافق للكتاب والسنة .
( فصــل )
وقد استند من قال بالجواز بأدلة لا تصلح أن تكون دليلا أصلا ، ومن باب الفائدة أذكرها لك مع بيان الجواب عليها ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتأييد :-
مما استدل به القائلون بالجواز ثبوت الخلاف في المسألة ، وهذا من أعجب ما استدلوا به ، قالوا:- المسألة خلافية ، والخلاف رحمة للأمة ، وفيه توسعة عليها، وهذا باطل ، لأن المتقرر أنه يجب علينا رد الأمور المتنازع فيها للكتاب والسنة ، لنعرف وجه الحق فيها على ضوء دراسة الأدلة ، قال تعالى وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ وقال تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً فليس وجود الخلاف في المسألة بمسوغ لأن تأخذ من الأقوال ما يحلو لك ، بل لابد من النظر في الأدلة ، والمقارنة بين الحجاج وقد رأيت أن أدلة الكتاب والسنة والقواعد الشرعية والمعقول الصريح كلها تدل على أنه لا يجوز الذهاب للسحرة والكهان ، وهذه المسألة في الحقيقة وإن لم تكن من مسائل الإجماع إلا أنه لابد وأن ينكر فيها على المخالف لأن الدليل ناصر أحد القولين نصرا ظاهرا ، والمسائل الخلافية إذا كان الدليل فيها ينصر أحد القولين نصرا ظاهرا ، فالواجب هو الأخذ بمقتضى الدليل وترك ما خالفه وهذا متقرر عند أهل الحق ، ولكن تأبى بعض النفوس إلا الانسياق وراء شهواتها وما تريد ، والله المستعان .
ومما قالوه :- إن بعض السلف أجاز حل السحر بالسحر ، فقد روي عن الحسن أنه قال ( لا يحل السحر إلا ساحر ) وفي البخاري عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال ( لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه ) وهو أقوى ما استدلوا به ، وأقول :- إن الطامة الكبرى أن يفسر كلام السلف على غير مرادهم ، فأما قول الحسن فإنه يريد به التحذير من النشرة الشيطانية ، وإنما يريد بيان أن السحر عقد من الشيطان, ولا يقدر على حلها إلا من هو ساحر مثله ، ففيه التحذير من الذهاب إلى السحرة ، وليس فيه إقرار الذهاب ، فالحسن هنا إنما يتكلم عن النشرة التي تتضمن حل السحر بسحر مثله ، ولم يقل :- بما أنه لا يحل السحر إلا ساحر فاذهبوا للسحرة ، هو لم يقل هذا ، وإنما أثبت أن الأمور السحرية أمور خفية شيطانية فلا يكاد يعرف حلها إلا من هو ساحر يعرف هذه الأمور ، وأما قول ابن المسيب فإنه إنما يريد النشرة الجائزة ، وهي حل السحر بالأدوية المباحة والتعويذات الجائزة ، والرقى النافعة المشروعة ، فهو يقرر جواز النشرة المباحة المشروعة ، وبالجملة فهي نشرتان :- نشرة سحرية شيطانية شركية ، وهي التي حذر منها الحسن رحمه الله تعالى ، ونشرة مباحة شرعية ، وهي النشرة التي رغب فيها ابن المسيب ، والمتقرر أن حمل كلام السلف الصالح على ما يتوافق مع دلالة الكتاب والسنة أولى من حمله على ما يتعارض مع دلالتهما ، لاسيما وإن كان من أئمة السلف كالحسن وابن المسيب ، ففي الحقيقة أن كلام الحسن وابن المسيب متفق مع ما قررته الأدلة من منع حل السحر بالسحر ، فلا دليل في كلامهما على ما يريده من قال بجواز حل السحر بالسحر ، وإنما هو شيء توهموه فقط ، قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ( قوله " قال ابن المسيب : لا بأس به" محمول على الحل الذي لا بأس به وهو الحل بالرقية والتعوذات والأشياء المباحة فهذا من باب الإصلاح والإصلاح مأمور به والمنكر منهي عنه ) وقال رحمه الله تعالى ( قوله "وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر" أي لا يحل السحر بالطرق الشيطانية إلا ساحر وأما حله بالطرق الإيمانية والشرعية فهذا يحلّه أهل العلم والبصائر والخبرة والتجارب فيحلونه بأنواع من الأدوية والتعوذات والقراءة فيحل عن المسحور ما به كما حل عن النبي صلى الله عليه السحر بقراءة المعوذتين ) وقال الشيخ صالح آل الشيخ في بيان في شرحه لباب ما جاء في النشرة من كتاب التوحيد ( ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة ، وهي أنه كما أن السحر شرك بالله - جل وعلا - يقدح في أصل التوحيد ، وأن الساحر مشرك الشرك الأكبر بالله ، فالنشرة التي هي حلّ السحر قد تكون من ساحر، وقد تكون من غير ساحر بالأدوية المأذون بها ، أو الأدعية ونحو ذلك فإذا كان من ساحر فإنها مناقضة لأصل التوحيد ، ومنافية لأصله، فالمناسبة ظاهرة في الصلة بين هذا الباب وباب ما جاء في السحر ، وكذا مناسبتها لكتاب التوحيد؛ لأن كثيرين ممن يستعملون النشرة يشركون بالله جل وعلا. والنشرة قسمان: نشرة جائزة، ونشرة ممنوعة. فالنشرة الجائزة: هي ما كانت بالقرآن، أو بالأدعية المعروفة، أو بالأدوية عند الأطباء، ونحو ذلك، فإن السحر يكون عن طريق الجن -كما تقدم- ويحصل منه -حقيقةً- إمراض في البدن، وتغيير في العقل والفهم، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يُعالج بالمضادات التي تزيل ذلك السحر، فمما يزيله القرآن الكريم، والقرآن هو أعظم ما ينفع في إزالة السحر، وكذلك الأدعية، والأوراد، ونحو ذلك مما هو معروف من الرقى الشرعية) وقال حفظه الله تعالى في بيان قول ابن المسيب ( يريد ابن المسيب بذلك ما ينفع من النشرة بالتعوذات ، والأدعية ، والقرآن ، والدواء المباح ، ونحو ذلك ، أما النشرة التي هي بالسحر فابن المسيب أرفع من أن يقول إنها جائزة ، ولم ينه عنها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول « هي من عمل الشيطان » لهذا قال " لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه " يعني : من الأدوية المباحة ، ومن الرقى ، والتعوذات الشرعية ، وقراءة القرآن ، ونحو ذلك ، فهذا لم ينه عنه ، بل أذن فيه ) وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن رحمه الله تعالى (قلت : قول العلامة ابن القيم والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهو جائز يشير رحمه الله إلى مثل هذا وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء ، والحاصل : أن ما كان منه بالسحر فيحرم وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز ) فانظر كيف حمل الشيخ رحمه الله تعالى كلام من أجاز النشرة من العلماء على النشرة الشرعية لا النشرة الشيطانية ، ففي الحقيق إن كلام ابن المسيب وكلام الحسن فيه رد على من قال بجواز الذهاب إلى السحرة والكهان .