لقد وفر الحق جل جلاله لآدم كل مقومات الحياة من غذاء.. يعطيه ما يحتاجه جسده بدون فضلات.. فالله سبحانه وتعالى يغذي الجنين في بطن أمه بالقدر الذي ينميه.. ولا تخرج منه فضلات.. لأن الغذاء على قدر النمو.. وكان غذاء آدم في الجنة على قدر نموه.
ويجب أن ننتبه الى أن الجنة التي عاش فيها آدم.. ليست هي جنة الخلد.. لأن الحياة في جنة الخلد لا تأتي الا بعد الحياة الدنيا.. فهي جزاء لاتباع منهج الله في الدنيا.. وأنها ليست سابقة للحياة الدنيا.. ولكنها لاحقة لها وتأتي بعدها.
إذن فالجنة التي عاش فيها آدم.. وهي مكان فيه كل ما تحتاجه وما تتطلبه.. ولا بد أن نلاحظ.. أن الله سبحانه وتعالى.. قال لادم وحواء:{ولا تقربا هذه الشجرة..** ولم يقل لهما "ولا تأكلا من هذه الشجرة" .. لماذا؟.. لأن الله يريد أن يحمي آدم وذريته من إغراء المعصية.. فلو أن الله جل جلاله قال:لا تأكلا.. لكان أباح لآدم وحواء أن يقتربا من الشجرة.. ويجلسا الى جوارها.. ويتأملا ثمارها.. وحينئذ كان يغريهما شكل الثمار.. أو لونها أو رائحتها فيأكلان منها..
لكن الحق تبارك وتعالى؛ أراد أن يحمي آدم من نفسه.. ومن الاغراء الذي يمكن أن يتعرض له.. وقد لا تقوى نفسه عليه.. هذه الحماية التي أراد الله أن يوفرها لآدم وذريته من بعده.. هي الحماية الحقيقية من الوقوع في المعصية.. لأنك إذا قتربت من شيء حرّمه الله.. تكيل نفسك اليه.. وربما دفعك هذا القرب الى إقترافه.
ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى.. يطلب منا ألا نقترب من قمم المعاصي فيقول:
{ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه، وأحلت لكم الأنعام الا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور**. الحج30.
ولم لم بقل تبارك وتعالى لا تعبدوا الأوثان.. فلو قالها لكان مباحا لنا أن نذهب الى الأماكن التي تعبد فيها الأصنام وأن نجلس فيها.. فإذا فعلنا ذلك.. ربما أوقعنا هذا الجلوس والعياذ بالله في عبادة الأصنام.. وكذلك اقرأ قول الحق جل جلاله:
{إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه** المائدة 90.
أي لا تقربوا أماكنه.. والغريب أنك تجد بعض الناس يحاول أن يجادلك في أن الله سبحانه وتعالى لم يحرم الخمر.. ويقول لك: ائتني بآية من القرآن الكريم يقول فيها تبارك وتعالى حرمت عليكم الخمر.
ونقول لأمثال هؤلاء المشككين: إن الأمر الذي ورد بالاجتناب أقوى من التحريم.. فلو أن الله جل جلاله قال: حرمت عليكم الخمر.. لكان المحرم فقط هو شرب الخمر.. وكنا في هذه الحالة نصنعها ونتاجر فيها.. ونعد الأماكن التي يتم فيها تناولها.. ونخدم شاربيها ونجلس معهم.ز فما دمنا لا نشرب الخمر.. وما دام قد نزل فيها أمر تحريم فقط .. فلنا أن نفعل كل هذا.. ولكن الاجتناب حرم أن نقترب أساسا من الأماكن التي يتناولون فيها الخمر.. أو نصنعها أو نتاجر فيها أو نجالس الذين يشربونها.. فالاجتناب أقوى من التحريم.. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى طلب من آدم وزوجته ألا يقتربا من الشجرة المحرمة.. والا يكونا قد ظلما نفسيهما.
بداية المعصية
ماذا فعل الشيطان؟.. إنه يريد أن يوقع آدم وحواء في المعصية.. فماذا فعل؟.. يقول الحق سبحانه وتعالى:
{فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما** الأعراف 20.
قول الحق سبحانه وتعالى "وسوس" .. تدل على أن الحديث دار همسا بصوت خافت.. والوسوسة هي إغواء الشيطان.. وهي إغراء بارتكاب الشر، والذي يتحدث ويأمر بالخير لا يهمه أن يكون حديثه بصوت عال.. ولكن الحديث في الشر والغواية لا يتم الا همسا بصوت خافت .
والوسوسة باللغة العربية.. هي صوت رنين الذهب والحلي.. وهو صوت يجذب الناس ويغريهم ويلفت نظرهم، والوسوسة لا بد أن يكون فيها إغراء.. لأنك إذا أردت أن تخرج الناس عن منهج الله لا لد أن تغريهم بمتعة دنيوية سيفوزون بها.
إننا لا بد أن نتوقف عند قوله تعالى:** فوسوس لهما الشيطان..** لأن الشائع أن الشيطان أغوى حواء.. وأن حواء هي التي أغوت آدم.. وزينت له المعصية حتى أكل من الشجرة.. وأنه لولا حواء لبقي آدم في الجنة!
نقول: أن اله سبحانه وتعالى برأ حواء من هذه الفرية.. فقوله تعالى:{فوسوس لهم الشيطان** دليل على أن السيطان.. هو الذي زيّن المعصية لآدم كما زينها لحواء.. أي ان الشيطان هو الذي قام باغواء آدم وحواء.. ولم تقم حواء بإغواء آدم على المعصية.. والغواية جاءت من الشيطان للإثنين معا..
ولكن ما الهدف من هذه الوسوسة؟.. هدفه أن يعصي آدم وحواء ربهما.. فيعاقبا كما عوقب الشيطان بالطرد من رحمة الله.. والعقوبة هنا هي أن تظهر سوءات آدم وحواء.. والسوءة هي ما يسوؤك النظر اليه.. أو هي العورة.. لأن الفطرة تجعل الانسان يخجل من أن يظهر عورته على الناس.
وقبل أن يأكل آدم وحواء من الشجرة لم ير أحدهما عورة الآخر.. ولا عورة نفسه... فلا آدم رأى عورته ولا عورة حواء.. وكذلك حواء لم ترى عورتها ولا عورة آدم.. كلاهما ستره الله عن الآخر.
لقد أتعب العلماء أنفسهم في كيف كانتا عورتها آدم وحواء مستورين عنهما؟. قال بعضهم: كان عليهما اللباس.. وقال آخرون: أن أظافر آدم وحواء كانت طويلة.. حتى كانت تصل الى قدميهما.. وكانت هي التي تستر العورة.. ثم زالت هذه الأضافر بالمعصية.
ولكن ذلك لا يجب أن يشغلنا.. فالله سبحانه وتعلى.. كان يستر عورتي آدم وحواء. بما شاء من انواع الستر.. بنور قوي من عنده.. فالنور إذا كان قويا فلا تستطيع أن ترى الأشياء من خلاله.. فإن النور في ضعفه نميز به الأشياء.. وفي قوته يخفيها عنا.. وسواء ستر الله سبحانه وتعالى عورتي آدم وحواء بثوب أو بأظافر.. أو بنور من عنده.. فالمهم أن هذه العورات كانت مستورة من أعينهما.
وظهرت عورة الانسان
والسؤال لماذا نستاء عندما تظهر عوراتنا؟.. إن العوراتهي مكان خروج فضلات الطاعم والشراب.. إننا نحرص على كشف أماكن دخول الطعام والشراب كالفم مثلا.. ونحرص حرصا شديدا في نفس الوقت.. على عدم إظهار أماكن خروج فضلات الطعام والشراب.
يقول بعض العلماء في تعليل لك: إن العورة تذكرنا بمعصية الله.. فعندما حدثت المعصية ظهرت العورة.. ولذلك فنحن نريد أن نسترها.. لأنها رمز للمعصية.. والمعصية عورة يحاول الانسان دائما أن يخفيها ويخجل منها.. يحرص ألا يراه الناس، والرجل مع زوجته يحرص على أن لا يراه أحد.. ويحتاط لذلك أشد الاحتياط.. الانسان عندما يكون معه مال حلال.. يخرجه أمام كل الناس.. ولا يخشى شيئا.. والانسان ومعه مال مسروق يحاول أن يخفيه عن الدنيا كلها.. فالمعصية في كل أحوالها عورة يحرص الناس على إخفائها وسترها.
ولكن كيف تم إغواء الشيطان لآدم وحواء؟.. كيف أوقعهما في المعصية؟
اقرأ قول الحق جل جلاله:
{وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين**.الأعرف 20.
جاء الشيطان لهما من جهة ما تريده النفس البشرية وتتمناه.. وهو حياة خالدة لا تنتهي ولا تزول.. وملك دائم لا ينفد.. ولذلك فإن الشيطان حين أراد أن يغري آدم وحولء بأن لا ياكلا من الشجرة قال لآدم كما يروي لنا القرآن الكريم:
{هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى** طه 120.
والشيطان كاذب فيما يقول.. فلو كانت هذه شجرة الخلد فعلا لأكل منها الشيطان نفسه وأصبح خالدا لا يموت.. ولكنه طلب من الله أن يبقيه الى يوم القيامة.. لأنه يعلم يقينا أن الله هو خالق الحياة.. وأنه وحده الذي يبقيها أو يذهبها..
ولا بد أن ننتبه الى طريقة اغواء الشيطان.. إنه يحاول إغواء الانسان.. بأن منهج الله سبحانه وتعالى يضره ولا ينفعه.. وان النفع الحقيقي هو في المعصية.. لهذا قال لآدم وحواء.. إن الله منعهما من الأكل من هذه الشجرة.. حتى لا يكون لهما الملك والخلود.. والانسان يكره الفقر ويكره الموت.. ويريد أن يبقى خالدا.. ولذلك جاء لهما الشيطان ليقول لهما: إذا أردتما الخلد والملك.. فأمامكما هذه الشجرة.. وحلف لهما كما يروي القرآن الكريم:
{وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين** الأعراف 21.
أي أقسم لهما أنه يريد لهما النصح.. وصدّقا القسم.. صدقا الشيطان في أنه يريد لهما الخير.. ولذلك عاتب الله سبحانه وتعالى.. آدم وحواء بأنهما صدقا قسم إبليس.. مع أنه جل جلاله قد بيّن لهما أن إبليس عدو لهما لا يريد لهما الخير.. وذلك في قوله تعالى:
** وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين** الأعراف 22.
ولكن آدم وحواء هما اللذان أحسا بالندم الشديد.. ما كانا يعاقدان أن خلقا من خلق الله يقسم بالله على باطل.. ولذلك قال قتادة رضي الله عنه: المؤمن بالله يخدع.. أي إذا دخلت على مؤمن بالله سهل لك خداعه.
وكان سيدنا عبدالله بن عمر: عندما يحسن أحد عبيده الصلاة يعتقه.. فكان العبيد إذا رأوه بدأوا يصلون بخشوع.. فقال له الناس: غن العبيد يخدعوك لتعتقهم.. فقال لهم عبدالله بن عمر: من خدعنا بالله انخدعنا له.
الحق سبحانه وتعالى يقول:
** فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة** الأعرف 22.
لفظ "دل" مأخوذ من دلى حبل الدلو في البئر ليبحث عن الماء.. والغرور هو الاغراء الذي يوقع الانسان في المخالفة.
وهنا لنا وقفة.. لا يظن احد أن إبليس أوقع آدم وحواء.. في المعصية على مرحلة واحدة.. بل سبق ذلك مراحل.. فإبليس خدعهما أولا ليقتربا من الشجرة، ثم زيّن لهما ثمارها وحلاوتها ولونها ورائحتها، ثم بعد ذلك أغراهما بالأكل! أي أن المعصية تمت على مراحل ولم تتم دفعة واحدة.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" تعرض الفتن على القلوب عودا عودا كالحصير".. لذلك لا بد لنا أن ننتبه.. أن الاقتراب من المعصية يوقعنا فيها.
ماذا حدث؟.. هل كرر آدم وحواء المعصية.. وأكلا مرات ومرات من الشجرة؟.. الحق تبارك وتعالى يقول:** فلما ذاقا الشجرة..** أي بمجرد التذوق.. ولم يكن هناك إصرار على تكرار المعصية.. إنه بمجرّد التذوق ظهرت لهما عوراتهما فقاما بإخفائها أو مداراتها.. بورق أشجار الجنة.. ومعنى ذلك إنهما احتاجا الى أكثر من ورقة ليداريا العورة..
وهنا نرى عدل الله سبحانه وتعالى في أنه حذرهما أولا من المخالفة.. وأبلغهما بالجزاء أو العقاب.. حتى يكون العقاب عدلا وحقا.. ولذلك فإن التشريع الالهي لا يوجد فيه ما يسمى بالقوانين بأثر رجعي.. فلا تجريم في العدل الالهي إلا بنص.. والنص هو نهي لآدم وحواء.. أن يقربا هذه الشجرة.. وأن الشيطان عدو لهما.. وقول الحق {ألم أنهكما عن تلك الشجرة** الأعراف 22. بصيغة الاستفهام..معناه أنه لا يوجد الا جواب واحد.. نعم يا رب نهيتنا.
لقد كان الهدف من هذه التجربة العملية من الله سبحانه وتعالى.. ليحصن آدم وحواء وذريتهما من الشيطان.. فيعرفا أنه كاذب في كل ما يعد به.. وأنه يريد بهما السوء.. ولو تظاهر بأنه يريد لهما الخير.. وأن مهمة الشيطان أن يستخدم كل الحيل.. لاغراء آدم وذريته على المعصية.. وأن يستخدم كل الحيل لايقاع آدم وذريته فيما نهى الله عنه.
ولكن هل انتهت المعركة؟.. إنها لم تنته.. ولكنها استمرت وستستمر الى أن تقوم الساعة.
الفصل الرابع : خطيئة آدم.. ومعصية إبليس
إنتهينا في الفصل السابق الى أن إبليس قد دخل الى غواية آدم من جهة أن الله عزيز غني مستغن بذاته عن كل خلقه.. إن الله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي:
(يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم مازاد ذلك في ملكي شيئا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا.. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) أخرجه مسلم 6664.
إذن فمن باب عزة الله.. دخل الشيطان الى غواية آدم.. واستطاع إبليس أن يقنع آدم أن الله قد منعه من الأكل من الشجرة لأنه لا يريد له الخير.. وذلك حتى نفطن الى طريق إبليس في الغواية.. فلا خير في خير يؤدي الى النار والمعصية.. ولا شر في شر يؤدي الى الجنة وطاعة الله.
إن الشيطان يحاول أن يصور الشر للانسان بأنه خير.. ولذلك صوّر لآدم أن المعصية خير.. فلما أكل آدم من الشجرة .. وارتكب المعصية هرب إبليس!
والسؤال الذي يدور هنا.. لماذا غفر الله سبحانه وتعالى لآدم خطيئته ولم يغفر لابليس معصيته؟.. لقد عصى آدم، وعصى إبليس.. الأول تاب الله عليه وتقبل توبته.. والثاني لعنه الله وجعله خالدا في النار.. ما هو الفرق بين المعصيتين؟
نقول: إن آدم وحواء حين عصيا الله سبحانه وتعالى.. لم يصرا على المعصية.. ولم يحاولا رد الأمر على الآمر.. إنهما لم يقولا يا رب إن حكمك ليس حقا، كما فعل الشيطان حين قال:** أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين..** لم يفعلا ذلك ولكنهما اعترفا بذنبهما.. وطلبا المغفر والرحمة من الله.. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
** قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين** الأعراف 23.
تلك هي الكلمات التي قالها آدم وحواء بعد المعصية.. قالا: يا رب إن قولك حق وحكمك حق.. ولكننا لم نستطع أن نحمل نفسينا الضعيفتين على إتباع المنهج.. فظلمنا أنفسنا.. أي أننا مشينا بها في طريق الهلاك.. ونحن نطلب منك المغفرة والرحمة.. فإن لم تعطهما لنا نكن من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة.
وهكذا طلب آدم وحواء من الله أن يتوب عليهما.. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة البقرة:
** فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التوّاب الرحيم** البقرة 37.
والتوبة تمت على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: أنه تعالى شرع التوبة لعباده.
المرحلة الثانية: أنهم عندما تابوا قبلها منهم.
والمرحلة الثالثة: من التوبة تكون بعدم عودتهم الى المعصية.
بغعض الناس لا يستوعب قول الحق تبارك وتعالى:
** ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التوّاب الرحيم** التوبة 118.
وبعض الناس يتساءل: إذا كان الله قد تاب عليهم فلماذا وجبت عليهم التوبة؟
نقول: إن تشريع الله سبحانه وتعالى للتوبة لا بد أن يحدث قبل التوبة.. فقوله:** تاب عليهم..** أي شرع لهم التوبة؟
قال لهم إذا فعلتم ذنبا أو معصية فتوبوا.. وما دام الله جل جلاله قد طلب منهم أن يتوبوا فإنهم يتوجهون اليه بالتوبة فيقبلها الله منهم.
وتشريع التوبة ليس رحمة بالعاصي وحده.. ولكن بالمجتمع كله..لأن الله سبحانه وتعالى لو لم يفتح باب التوبة.. لازداد كل من يرتكب معصية في معاصيه.. فما دامت لا توجد توبة.. وما دامت المعصية تؤدي الى الخلود في جهنم.. فكل من ارتكب معصية واحدة.. يملأ حياته بالمعاصي.. فما دام لا أمل له في الجنة.. فليأخذ نصيبه من الدنيا.. وبهذا يشقى المجتمع كله.. لأن كل عاص سيزداد معصية.
وانتشار المعصية لا يعاني منها فرد.. بل يعاني منها المجتمع..ولكن الله تبارك وتعالى ـبتشريعه التوبة ـ قد رحم المجتمع من انتشار المعاصي.. فالمعصية الأولى لا تؤدي الى الخلود في النار إذا تاب الانسان عنها ورجع الى الله.. ولذلك فإن الانسان لا يتمادى في المعصية.. بل يذهب الى جانب الخير.. فيتوب الى الله.. ويكثر من عمل الخير فيغفر له ذنبه.. وبذلك يبقى الأمل في جنة الله.. وتبقى الرغبة في الخير.. فينصلح المجتمع ويملأه الخير.. فالتوبة رحمة للمجتمع.
إبليس تأبى على أوامر الله.. وزاد ذلك بانه سيغوي الانسان على المعصية.. فقال كما يروي لنا القرآن الكريم:
** قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين** الأعراف 16،17.
إن إبليس لم يعترف بمعصيته.. بل أصرّ عليها.. وقال سأفعل كذا وكذا وكذا في إصرار على المعصية.. أما آدم وحواء فقد اعترفا بذنبيهما وهذه نقطة هامة.. لا بدّ أن نلتفت اليها.. لينتبه الناس الذين يقدمون على المعصية.. ألا يبرروها برد الأمر على الله.. كأن يقولوا تغيرت الظروف.. أو الوقت قد تغيّر..
مثلا الذين يتعاملون بالفائدة الثابتة مع البنوك.. وهذه فيها شبهة ربا.. نقول لهم لا تقولوا إن الربا ليس حراما.. وأن الفائدة الثابتة نظام عالمي.. وأن الدنيا كلها تتعامل بها.. وأن الزمن قد تغيّر.. الى آخر ما نسمعه في هذه الأيام.. إنكم بقولكم هذا تخرجون أنفسكم من نطاق رحمة الله.. الى نطاق الطرد من رحمته سبحانه وتعالى.
ولكن قولوا: يا رب، لم نقدر على أنفسنا.. فاغفر لنا وارحمنا، وفي هذه الحالة تكون قد اتهمت نفسك بالضعف والغفلة والظلم.. وأبقيت نفسك في نطاق الايمان، ولكن أن ترد الحكم على الله.. وتقول إن الربا ليس حراما.. تكون قد خرجت من الايمان.. الى الكفر والعياذ بالله.
فإذا ارتكب إنسان معصية فلا يحاول أن يبرر ارتكابها أو يدافع عنها.. ويدعي أنها حلال.. ولا يقول إن الظروف قد تغيرت.. وكان الواجب أن يتغير الحكم.. فإن ذلك فيه رد لأمر الله يخرج الانسان من الايمان الى الكفر.. ومن الرحمة الى اللعنة.. وهذا هو الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس..
إبليس عصى وتكبر.. آدم عصى، ولكنه اعترف بذنبه.. وحينما اعترف آدم وحواء بذنبيهما علمهما طريق التوبة.. ولولا أن الله جل جلاله علمهما.. لما عرفا كيف يتوبان.. فالتوبة تمت بإيحاء من الله سبحانه وتعالى.
وإذا تدبرنا قول الحق جل وعلا.. ترى أن الحق تبارك وتعالى قال:** قالا ربنا ظلمنا أنفسنا** نلاحظ هنا أنهما تحدثا بصيغة الجمع.. إنهما لم يقولا ربنا ظلمنا نفسينا.. لأن الخطاب لا يشمل آدم وحواء بل يشمل ذرية آدم المطمورة في ظهره.. حينئذ قال الحق جل جلاله لهما:
{قال اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع الى حين** الأعراف 24.
إنه يجب أن ننتبه.. الى الآيات التي تروي لنا عملية الهبوط.. فمرة يقول الحق سبحانه وتعالى:
{قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو** طه 123.
ومرة يقول جل جلاله
** قلنا اهبطوا منها جميعا** البقرة 38.
المخاطبون هم آدم حواء إبلس.. والعداوة هنا مسبقة بين الانسان والشيطان.. ولكن قوله تعالى:** قلنا اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو** تبين لنا أن العداوة بين طرفين.. آدم وحواء طرف.. وإبليس طرف آخر، فكأنهما فريقا: آدم وحواء وذريتهما، وإبليس وذريته.. فلا تعارض.
ويجب علينا أن نفهم.. أن استخدام الحق لعبارة بعضكم لبعض عدو.. أنه سيكون هناك صراع وعداء بين ذرية آدم وذرية إبليس.. وأن هذا الصراع مستمر بعمر الدنيا فقط ولا يمتد الى الآخرة.. ولكنه بالنسبة للشيطان والانسان.. صراع مستمر بعمر كل منهما في الدنيا.. وليس بعمر الدنيا كلها.. فإذا مات الشيطان.. أو مات الانسان انتهى الصراع بالنسبة لهما، وعمر الجن أكبر كثيرا من عمر الانسان.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى في حق الجن:
{قالوا ياقومنا إنّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدّقا لما بين يديه يهدي الى الحق والى طريق مستقيم** الأحقاف 30.
فكأن هؤلاء الجن.. عاشوا عصر موسىعليه السلام..وظلوا أحياء حتى نزل القرآن الكريم.. أي ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة.. ولا يوجد من البشر من عاصر موسى.. وعاصر رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
صراع في الدنيا
إن الصراع بين الشيطان والانسان ـكما قلنا ـ فترته محدودة بحياة الاثنين.. ولا يمتد بعد الموت.. ولا يكون في الآخرة..
الحق سبحانه وتعالى.. يتوجه بعد ذلك بالنصح.. الى أولاد آدم ليحصنهم من الشيطان.. فيقول جل جلاله:
** يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا، ولباس التقوى** الأعراف 26.
والخطاب هنا موجه.. الى كل نفس من أولاد آدم لأن كل نفس من أولاد آدم.. لها معركة وعداوة مع ذرية إبليس..
الله سبحانه وتعالى يافتنا الى أنه أنزل لنا من السماء منهجا.. يستر عوراتنا.. ويداريها.. والانزال يقتضي أن يهبط الشيء من علو.. وكل خير في الأرض هبط من السماء.. واللباس يصنع مما تنتجه الأرض.. وما تنتجه الأرض لا يكون الا بالمطر الذي ينزل من السماء..
ويجب أن نعلم أن الله تبارك وتعالى أنزل المنهج ليستر عورات البشر، وعورات المجتمعات، إننا إذا أقمنا المنهج، فلن تظهر فيها عورات ولا سيئات.. ولأصبح المجتمع متجانسا مترابطا.. فكان الذي أنزله الله من السماء من مطر يعطينا من الأرض الثوب الذي يداري عوراتنا الحسية، ولباس من القيم يداري عوراتنا المعنوية.. بل وأكثر من ذلك.. أعطانا الزينة من ريش الطير وغيره كنوع من الرفاهية والمتعة.
فكأن الحق سبحانه وتعالى أعطانا ترف الحياة.. وجعله حلالا لنا.. وأعطانا المنهج ليستر عوراتنا المعنوية.. فإذا كان اللباس المادي.. يداري عورة الجسد في الحياة الدنيا.. فإن لباس التقوى يداري عوراتنا من فضوح الآخرة.. ولباس التقوى.. أي الذي نتقي به غضب الله سبحانه وتعالى.. هو خير من اللباس المادي.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى عنه:
{ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذّكرون** الأعراف 26.
إذن فلباس التقوى _الذي هو خير من لباس الدنيا لأنه يقينا غضب الله جل جلاله _ هو آية من آيات الله.. لنعرف أننا مكونون من مادة وقيم.. وكما للمادة عورات مادية تظهر إذا نزعنا ثيابنا.. فللقيم أيضا عورات تظهر لعدم التقوى.
ثم يأتينا التحذير من الله سبحانه وتعالى:
** يا بني آدم لا يفتننّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما**. الأعراف 27.
الله سبحانه وتعالى.. يحذرنا من فتنة الشيطان.. والفتنة هي الاختبار.. فإذا نجحنا في الاختبار فلن يحدث الفساد، ولكنه يحدث إذا سقطنا في الفتنة.. والفتنة ليست شرا ولا خيرا.. بل هي اختبار يأتي بالخير إن نجحت، أو بالشر إن سقطت فيه.
وهكذا جاء التحذير من الشيطان بتجربة عملية لآدم وحواء قبل أن ينزلا الى الأرض.. وهي تجربة التكليف في افعل ولاتفعل.. وكانت التجربة في التكليف.. فيها أمر وفيها نهي.. الأمر أن آدم له أن يأكب من كل ما في الجنة التي كان يعيش فيها، والنهي أنه لا يقرب شجرة واحدة، في هذه الجنة..
لقد أفهم الله تبارك وتعالى آدم أن الشيطان عدو له، وأنه سيقعه في المعصية.. ولكن رغم هذا التحذير.. أكل آدم وحواء من الشجرة فظهرت عوراتهما.. وذلك حتى نعرف أن أي طاعة للشيطان.. لا يأتي منها الخير أبدا.
الله سبحانه وتعالى يريد منا أن نعلم أن ىدم فيه عنصران.. عنصر البشرية التي تصيب وتخطئ، وتعصي وتتوب، وعنصر النبوة المعصومة من الخطأ. ولذلك يجب أن نفطن الى النص القرآني في قوله تعالى:
{وعصى آدم ربه فغوى** طه 121.
وهذه طبيعة البشر.. وقوله جل جلاله:
{ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى** طه 122.
وهذا الهدى الذي سيأتي به الأنبياء من ذرية آدم.. ولذلك لا يجب أن نقول كيف عصى آدم ربه وهو نبي؟ لن معصية آدم حدثت قبل النبوة..
وبعد المعصية جاءت النبوة وجاء الهدى.. إذن فالبشرية تنقسم الى قسمين: أنبياء يبلغون للناس المنهج عن الله.. وهؤلاء معصومون من الخطأ.. وقسم يبلغهم الله منهجه.. فيطيعون ويعصون ويتوبون. ولا يقول أحد أو يدعى أن آدم نزل الى الأرض بسبب المعصية.. لأن الله خلقه وذريته للحياة في الأرض ونهاهم وحذرهم من فتنة الشيطان في قوله تعالى:** يا بني آدم لا يفتننّكم...** هذا التحذير للبشر وليس للشيطان.. فالله جل جلاله لم يقل للشيطان.. لا تفتن بني آدم.. ولو قال له ذلك لخرج الشيطان عن مهمته في الحياة.. ولأصبحت الحياة ليست دار اختبار كما أرادها الله سبحانه وتعالى.. تؤدي بخلقه المختارين إما الى الجنة.. وإما الى النار والعياذ بالله.