وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الأخت الفاضله الغروب
اسال الله سبحانه وتعالى أن يحفظه من كل سوء
آمين
أنه سميع مجيب الدعاء
بارك الله فيكم أخيتي الفاضلة ، ولقد تعرضت لهذه المسألة في كتابي الموسوم ( منهج الشرع في علاج المس والصرع تحت عنوان :
( اختطاف وقتل الجن للإنس )
قد يتساءل البعض عن إمكانية أو قدرة الجن والشياطين على القتل أو الاختطاف لأماكن مقفرة أو بعيدة ، ومن خلال تتبع النصوص القرآنية والحديثية يخلص المرء إلى إمكانية حصول ذلك فعلا ، وقد وقـع من ذلك شيء في عصر رسول الله
كما ثبت من حديث فتى غزوة الخندق الذي كان حديث عهد بعرس فقتلته الجن ، وكذلك ما روي في سيرة سعد بن عبادة عندما بال في نفق فقتلته الجن 0
وفي حديث الإمام مسلم شاهد قوي على ذلك ، فقد ورد في صحيحه أنه قال :
( حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى عن داوود عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود – رضي الله عنه – شهد مع رسول الله
ليلة الجن قال فقال علقمة أنا سألت ابن مسعود فقلت هل شهد أحد منكم مع رسول الله
ليلة الجن قال : لا ولكنا كنا مع رسول الله ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير ( قال صاحب لسان العرب : واستطير الشيء أي طير ) أو اغتيل قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء قال : فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علفت لدوابكم ، فقال رسول الله
: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم ) ( أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة ( 150 ) - برقم 450 ) 0
قال النووي : ( قوله " استطير أو اغتيل " معنى استطير طارت به الجن ، ومعنى اغتيل قتل سرا ، والغيلة بكسر الغين هي القتل في خفية ) ( صحيح مسلم بشرح النووي - 4 ، 5 ، 6 / 127 ) 0
( فائدة )
سئل فضيلة الشيخ عبدالله بن عبد الرحمن الجبرين – حفظه الله – عن دواب الجن وهل هي حقيقة أم لا ؟ فأجاب – حفظه الله - : ( نعم ، هذا الحديث يدل على أن للجن دواب كما أن للإنس دواب ، وقد تكون مركوبة كالإبل والخيل أو محلوبة كالغنم والبقر وقد تتمثل بصور دواب الإنس أو الوحش كالظباء والوعول والمركوبات ونحوها ، وكثيراً ما تختفي عن أبصار الإنس حيث أنها من جنس الجن الذين هم أجسام خفيفة نراهم ولا يروننا ودل الحديث أنهم كالإنس يأكلون ويشربون وكذا دوابهم ، تأكل وتشرب وتتغذى ، فمن غذائها بعر دواب الإنس وروثها تكون علفاً لدواب الجن لذلك نهينا عن الاستنجاء بها ، والله أعلم ) ( منهج الشرع في علاج المس والصرع - مخطوطة بخط الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين – بحوزة الشيخ علي بن حسين أبو لوز – ص 301 ) 0
ذكر موفق الدين المقدسي في كتابه ( المغني ) ، ورتب عليه حكما فقهيا في أحكام المفقود الغائب عن زوجته وأحواله هو :
ما ذكره الأثرم والجوزجاني بإسنادهما عن عبيد بن عمير قال : ( فقد رجل في عهد عمر ، فجاءت امرأته إلى عمر ، فذكرت ذلك له ، فقال : انطلقي ، فتربصي أربع سنين ، ففعلت ثم أتته فقال : انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشرا 0 ففعلت ثم أتته 0 فقال : أين ولي هذا الرجل ؟ فقال : طلقها ففعل 0 فقال لها عمر : انطلقي فتزوجي من شئت 0
فتزوجت ، ثم جاء زوجها الأول ، فقال له عمر : أين كنت ؟ قال يا أمير المؤمنين استهوتني الشياطين ، فوالله ما أدري في أي أرض الله كنت ، عند قوم يستعبدونني ، حتى اغتزاهم منهم قوم مسلمون ، فكنت فيما غنموه ، فقالوا لي : أنت رجل من الإنس وهؤلاء من الجن ، فمالك ولهم ؟ فأخبرتهم خبري 0 فقالوا : بأي أرض الله تحب أن تصبح ؟ قلت المدينة هي أرضي 0
فأصبحت وأنا أنظر إلى الحرة 0 فخيره عمر إن شاء امرأته وإن شاء الصداق ، فأختار الصداق ، وقال : قد حبلت لا حاجة لي فيها )
( المغني - 9 / 133 - 134 - قال أحمد : يروى عن عمر من ثلاثة وجوه ، ولم يعرف في الصحابة له مخالف ، وقد أورده ابن أبي الدنيا عن عبدالرحمن بن أبي ليلى ، ورواه الدارقطني في سننه مختصرا عن أبي عثمان - باب المهر - الجزء الثالث - حديث رقم ( 254 ) وقال في التعليق المغني على الدارقطني : الحديث رواه أبو شيبة في مصنفه في كتاب النكاح عن يحيى بن جعدة ، وروى عبدالرزاق في مصنفه عن مجاهد بنحو ذلك الحديـث – وقد أخرجه البيهقي – 7 / 445 – 446 ، بسند صحيح من طريق قتادة عن أبي نضرة ، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى ، أنظر منار السبيل – 2 / 88 ، وصحح اسناد القصة الألباني في " الإرواء " – 6 / 150 – برقم 1709 ) 0
قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : ( والجن تخطف كثيراً من الإنس وتغيبه عن أبصار الناس وتطير به في الهواء ، وقد باشرنا من هذه الأمور ما يطول وصفه ) ( مجموعة الرسائل الكبرى – 2 / 307 ) 0
وقال – رحمه الله - : ( ونحن نعرف كثيراً من هؤلاء في زماننا وغير زماننا ، مثل شخص هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق ، فيجيء من الهواء إلى طاقة البيت الذي فيه الناس ، فيدخل وهم يرونه ، ويجيء بالليل إلى باب الصغير فيعبر منه هو ورفقته وهو من أفجر الناس ، وآخر كان بالشويك في قرية يقال لها الشاهدة يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه وكان شيطان يحمله وكان يقطع الطريق ) ( مجموع الفتاوى – 35 / 112 ) 0
قال الذهبي في شرح سيرة سعد بن عبادة :
( قال الأصمعي : حدثنا سلمة بن بلال ، عن أبي رجاء قال : قتل سعد بن عبادة بالشام ، رمته الجن بحوران 0
قال الذهبي : ( قال الواقدي : حدثنا يحيى بن عبدالعزيز ، من ولد سعد ، عن أبيه قال : توفي سعد بحوران لسنتين ونصف من خلافة عمر 0 فما علم بموته بالمدينة حتى سمع غلمان قائلا من بئر يقول :
( قد ) قتلنا سيد الخــز000رج سعد بن عبــادة
( و ) رمينـاه بسهميـ 000ـن فلم نخط فـــــؤاده
فذعر الغلمان ، فحفظ ذلك اليوم ، فوجدوه اليوم الذي مات فيه 0
وإنما جلس يبول في نفق ، فمات من ساعته ، ووجدوه قد اخضر جلده ) ( سير أعلام النبلاء - 1 / 278 ) 0
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – مضعفاً حادثة قتل سعد بن عبادة : ( وقد رويَ أن الجن قتلته ) ( منهاج السنة النبوية – 8 / 581 ) 0
قال العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – عن إسناد قصة موت سعد بن عبادة – رضي الله عنه - : ( لا يصح ، على أنه مشهور عند المؤرخين ، حتى قال ابن عبدالبر في " الاستيعاب " ( 2 / 599 ) : ولم يختلفوا أنه وجد ميتاً في مغتسله ، وقد اخضرّ جسده 0
ولكني لم أجد له إسناداً صحيحاً على طريقة المحدثين ؛ فقد أخرجه ابن عساكر ( ج 7 / 63 / 2 ) عن ابن سيرين مرسلاً ، ورجاله ثقات ، وعن محمد بن عائذ ثنا عبد الأعلى به ، وهذا مع إعضاله ؛ فعبد الأعلى لم أعرفه ) ( إرواء الغليل – 1 / 94 – 95 – برقم 56 ) 0
ولكن شيخ الإسلام – رحمه الله – أكد على حقيقة قدرة الجن والشياطين وإمكانية قتل الإنسان بقوله : ( وكثير من الناس قتلته الجن ) ( النبوات لشيخ الإسلام – ص 399 ) 0
وقد تكون الحكمة من نهى رسول الله
البول في الجحر أنها مساكن الجن روى النسائي بسنده عن قتادة عن عبدالله بن سرجس - رضي الله عنه - أن النبي
قال :
( لا يبولن أحدكم في جحر ) 0 قالوا لقتادة : وما يكره البول في الجحر ؟ قال : يقال إنها مساكن الجن ) ( أخرجه الإمام أحمد في مسنده - 5 / 82 ، والنسائي في سننه - كتاب الطهارة ( 30 ) - برقم ( 34 ) باب كراهية البول في الجحر ، وأبو داوود في سننه - كتاب الطهارة ( 16 ) – برقـم ( 29 ) ، وقال الألباني حديث ضعيف ، أنظر ضعيف الجامع 6003 ، 6324 ، ضعيف النسائي 1 ، ضعيف أبي داوود 8 - إرواء الغليل 55 – شرح السنة 192 – مشكاة المصابيح 354 – أنظر مختصر الترغيب والترهيب - برقم ( 150 ) – وقال فيه الألباني حديث صحيح – الطبعة الأولى ص 62 ، وقد ذكره أبو اسحاق الحويني في " النافلة في الأحاديث " – برقم 159 ) 0
وقد أورد الشيخ الألباني - رحمه الله - هذا الحديث في ضعيف أبي داوود وضعيف النسائي ، وذكر في صحيح الترغيب والترهيب الطبعة الأولى بأنه حديث صحيح ، وبعد البحث والتقصي تبين أن الشيخ الفاضل رجع عن تصحيحه لهذا الحديث كما ورد في الطبعة الثالثة من صحيح الترغيب والترهيب حيث أسقط الحديث وهذا يعني ثبوت ضعفه لدى الشيخ - حفظه الله - ونفع الله به الأمة الإسلامية 0
قلت : ومع ثبوت ضعف الحديث آنف الذكر إلا أن معناه صحيح ، فقد تكون تلك الجحور مأوى للحيات والعقارب ونحو ذلك ، وقد يتأذى الإنسان من البول في هذه الأماكن لوجود تلك الهوام فيها ، خاصة إذا أخذ بعين الاعتبار أن بعض الحيات قد تكون نوعا من أنواع الجن التي ذكرها رسول الله
في الحديث الصحيح ، والله تعالى أعلم 0
وأما إمكانية الاختطاف فواقعة الحصول أيضا ، كما مر معنا آنفا ، وقد يتخذ الأمر وجهين مختلفين :
الأول : أن يتم ذلك الأمر دون تشكلهم بالإنسان ونحوه ، وقد يحصل أن يحملوا أولياءهم ومحبيهم وأية أمور عينية أخرى ، من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد ، وقد أشار الحق تبارك وتعالى عن ذلك في محكم كتابه قائلا :
( قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ )
( سورة النمل – الآية 39 ) 0
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية : ( العفريت هو القوي النشيط جدا – يقول : والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام ، فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر شهران ذهابا وشهران إيابا، ومع ذلك يقول هذا العفريت : أنا ألتزم بالمجيء به على كبره وثقله وبعده قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه ) ( تيسير الكريم الرحمن - باختصار - 5 / 579 ) 0
قال الشبلي الحنفي – رحمه الله - : ( لا شك أن الله تعالى أقدر الجن على قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير بدليل قوله تعالى : ( قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ) " سورة النمل - الآية 39 " 000 ) ( نقلاً عن كتاب " وقاية الإنسان من السحر والجان والشيطان " – لأبي محمد جمال بن محمد بن الشامي – ص 66 ) 0
فإن كانت للجن والشياطين القدرة الخارقة على فعل ذلك ، فمن باب أولى القدرة على خطف إنسان ونحوه إلى حيث يريدون 0
وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث يقول :
( وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج ، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي ، أو أن يحملوه إلى عرفات ، ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله ، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به ) ( مجموع الفتاوى - 11 / 307 ) 0
ومن هنا تتضح قدرة الجن والشياطين على الطيران بالإنسان على خلقتهم التي خلقوا عليها دون رؤيتهم على حقيقتهم وإنما مشاهدة أثر ذلك 0
الثاني : أن يتم الاختطاف بعد تشكلهم بالإنسان ونحوه 0
وقد حصل من ذلك الكثير ونقل بالتواتر ، فأصبح الأمر مقبولا عقلا ونقلا والله تعالى أعلم 0
سئل فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين عن إمكانية اختطاف الجن للإنس فأجاب - حفظه الله - :
( يمكن ذلك فقد اشتهر أن سعد بن عبادة قتلته الجن لما بال في جحر فيه منزلهم فقالوا : نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهم فلم نخطئ فؤاده ، ووقع في خلافة عمر أن رجلا اختطفته الجن وبقي أربع سنين ثم جاء وأخبر أن جنا من المشركين اختطفوه فبقي عندهم أسيرا فغزاهم جن مسلمون فهزموهم وردوه إلى أهله 0 ذكر ذلك في منار السبيل وغيره ، والله أعلم ) ( الفتاوى الذهبية - ص 203 ) 0
هذا ما تيسر لي ، بارك الله فيكم أخيتي الفاضلة ( الغروب) ، وحياكم الله وبياكم في منتداكم ( منتدى الرقية الشرعية ) ، وزادكم الله من فضله ومنه وكرمه ، مع تمنياتي لكم بالصحة والسلامة والعافية :
شيخنا الفاضل / أبو البراء أسامة بن ياسين المعاني (حفظه الله)
أخوكم شاكر الرويلي