ثانياً: حكم تعلم الطب والاشتغال به
كذلك بعد أن أجمع العلماء على مشروعية تعلم الطب والاشتغال به، اختلفوا في حكمه على قولين، هما:
1. تعلم الطب والاشتغال بذلك والتخصص في أقسامه المختلفة من فروض الكفاية.
2. تعلم الطب والاشتغال به مستحب.
من قال بعدم فرضيته على الكفاية، وأدلتهم، وأقوالهم
ممن ذهب إلى أن علم الطب ليس من فروض الكفاية العلامة ابن القيم رحمه الله، حيث قال: (أما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطاً صحيحاً، فإن كل واحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضاً، فيدخل بعض الناس في ذلك علم الطب، وعلم الحساب، وعلم الهندسة والمساحة، وبعضهم يزيد على ذلك علم أصول الصناعة كالفلاحة، والحياكة، والحدادة، والخياطة، ونحوها.. وكل ذلك هوس وخبط، فلا فرض إلا ما فرض الله ورسوله).
ثم علل لذلك بعلة عليلة، حيث سوى بين فرض الكفاية وفرض العين، قائلاً: (فيا سبحان الله هل فرض الله على كل مسلم أن يكون طبيباً، حجاماً، حاسباً، مهندساً، أوحائكاً، أوفلاحاً، أونجاراً، أوخياطاً؟ فإن فرض الكفاية كفرض العين في تعلقه بجميع المكلفين، وإنما يخالفه في سقوطه بفعل البعض.
إلى أن قال: فإن قال: المجموع فرض على المجموع، لم يكن قولك: إن كل واحد منها فرض كفاية صحيحاً، لأن فرض الكفاية يجب على العموم).51
فرض الكفاية فرض على الأمة في مجموعها، وليس على كل فرد فيها، فإذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين، وإذا احتاجت الأمة إليه ولم يقم به أحد من أفرادها أثمت جميعاً، لتباطئها وتقصيرها في أمر به قوام اثنين من الضرورات الخمس التي شرع الله جميع الشرائع للمحافظة عليها، وهما: النفس والعقل.
ولهذا فإن فرض الكفاية له تعلق بالجميع من ناحية، وبالفرد من ناحية أخرى، وبين الأمرين خصوص وعموم.
فعلى الفرد فهو واجب على من هو مهيأ له قادر عليه، وعلى العامة أن يحثوه على ذلك ويحضوه عليه، فإذا قصر المهيأ القادر على الواجب المعين عليه أثم، وإذا قصرت العامة في حمله على ذلك أثمت.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (طلب الكفاية يقول العلماء بالأصول إنه متوجه على الجميع، لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وما قالوه صحيح من جهة كلي الطلب، وأما من جهة جزئيه ففيه تفصيل).52
قال الشيخ محمد عبد الله دراز موجهاً ومبيناً لمراد الشاطبي رحمهما الله: (أي باعتبار مجموعة فروض الكفايات، وإلا فهذا إنما يتوجه على بعض المكلفين المتأهلين للقيام به، ويتفرع على هذا إنه إذا لم يقم به أحد فإن الإثم لا يعم المكلفين بل يخص المتأهلين فقط، هذا مراده.. وهذا غير الخلاف بين الأصوليين في أنه متوجه على الكلي الإفرادي كمـا هو التحقيق، أوالمجموعي كما هو مقابله).53
استدل القائلون بعدم فرضية تعلم الطب البحت التجريبي بأن التداوي ليس واجباً عند الجمهور، وأن عدداً من الصحابة والسلف آثر الصبر على تعاطي الدواء، وأقروا على ذلك، كإقراره صلى الله عليه وسلم للجارية التي كانت تصرع، وهذه كلها حوادث عين لا ينبني عليها حكم عام يشمل جميع أفراد الأمة، بدليل عدم دخول عمر ومن معه في الطاعون عندما نزل بالشام، على الرغم من إصرار أبي عبيدة ومعاذ وغيرهما على البقاء فيه.
القائلون بفرضية تعلم الطب التجريبي البحت بأقسامه المختلفة، بما في ذلك الجراحة وصناعة الدواء على الكفاية، وأدلتهم، وأقوالهم
ذهب العامة من أهل العلم المقتدى بهم قديماً وحديثاً إلى أن تعلم الطب التجريبي البحت بأقسامه المختلفة وتخصصاته المتنوعة، وما يتعلق به من التشخيص وصناعة الأدوية - لأن ما سوى ذلك من أنواع الطب كالطب النبوي والأدعية والرقى لا نزاع فيه – من فروض الكفاية.
منهم على سبيل المثال لا الحصر من يأتي:
الإمام الشافعي رحمه الله.
الإمام ابن الجوزي رحمه الله.
الإمام النووي رحمه الله.
إمام الحرمين ابن الجويني رحمه الله.
الإمام أبو إسحاق الإسفرائيني رحمه الله.
الإمام الغزالي رحمه الله.
الإمام عبد الرحمن أبو الفضل الشهير بطبيب السنة.
الإمام المازري رحمه الله.
الإمام محمد القرشي المعروف بابن الإخوة (648-729هـ) رحمه الله.
الإمام موفق الدين البغدادي المعروف بابن اللبَّاد المتوفى 629هـ رحمه الله.
الإمام السيوطي رحمه الله.
الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي حفظه الله.
السيد صديق بن حسن خان المتوفى 1307هـ رحمه الله.
الإمام الرافعي الشافعي رحمه الله.
ابن قدامة الحنبلي رحمه الله.
ابن الحاج المالكي رحمه الله.
الشيخ أبوبكر الجزائري
تعريف فرض الكفاية
في بداية الأمر لابد من تعريف فرض الكفاية.
قال السيوطي: (قال الرافعي وغيره: فروض الكفاية أمور كلية، تتعلق بها مصالح دينية أودنيوية، لا ينتظم الأمر إلا بحصولها، فطلب الشارع تحصيلها، لا تكليف واحد منها بعينه، بخلاف العين، وإذا قام به من فيه كفاية سقط الحرج عن الباقين، أوأزيد على من يسقط به، فالكل فرض، أوتعطل، ثم كل من قدر عليه إن علم به، وكذا إن لم يعلم، إذا كان قريباً منه، يليق به البحث والمراقبة، ويختلف بكبر البلد، وقد ينتهي خبره إلى سائر البلاد، فيجب عليهم، وللقائم به مزية على القائم بالعين لإسقاط الحرج عن المسلمين بخلافه).54
وقال صديق حسن خان معرفاً فرض الكفاية: (والعلوم التي هي فرض كفاية على المشهور كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع، كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات، ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه، وإزالة الشبهة، ومعرفة الأوقات والفرائض، والأحكام الفرعية، وحفظ الأبدان55، والأخلاق، والسياسة، وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كعلم اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان).56
متى يكون التهاون في فرض الكفاية أخطر من التهاون في فرض العين؟
في بعض الأحيان قد يكون التهاون في فرض الكفاية والتفريط في تركه والتواطؤ على ذلك أخطر وأضر على الأمة بأسرها من الفرض العين، ويظهر ذلك جلياً في تواطؤ المسلمين في هذا العصر على ترك الجهاد وترك الأمر والنهي، والتقاعس عن التقدم الصناعي والعسكري، الذي أضحى سبباً لذل الأمة واستكانتها وخضوعها للكفار، وتداعيهم عليها، لتعدي الضرر على الأمة كلها.
بل لقد ادعى بعض أهل العلم فضل بعض فروض الكفاية على فروض العين وإن لم يكن هناك تواطؤ وتقاعس عنها، منهم إمام الحرمين ووالده، والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم.57
قال إمام الحرمين عبد الملك بن الجويني عن منزلة فروض الكفايات: (ثم الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى في فنون القربات من فرائض الأعيان، فإن ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه ولم يقابل أمر الشارع فيه بارتسام، اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب، ولو فرض تعطيل فرض من فروض الكفايات، لعم المأثم على الكافة على اختلاف الرتب والدرجات، فالقائم به كافٍ لنفسه، وكافة المخاطبين الحرجَ والعقابَ، وآمل أفضل الثواب، ولا يهون قدر من يحل محلَّ المسلمين أجمعين في القيام لمهمٍ من مهمات الدين).58
ويظهر ذلك جلياً أيضاً فيما نحن بصدده، فإذا عزف المسلمون عن تعلم الطب والتبحر فيه، واتكلوا على الكفار والمشركين في ذلك، اضطر كثير من المسلمين للذهـاب إليهم، والكفار لا يؤمن مكرهم، ولا يجوز تمكينهم من النظر لعـورات المسلمين نساءً ورجالاً إلا في حالات الضرورة.
قال ابن الحاج المالكي محذراً من الركون إلى الأطباء الكفار والاطمئنان إليهم: (وأشد مما تقدم في القبح وأشنع ما ارتكبه بعض الناس في هذا الزمان من معالجة الطبيب والكحال الكافرين اللذين لا يرجى منهما نصح ولا خير بل يقطع بغشهما وأذيتهما لمن ظفروا به من المسلمين، سيما إن كان المريض كبيراً في دينه أوعلمه، أوهما معاً، فإن القاعدة عندهم في دينهم أن من نصح منهم مسلماً فقد خرج عن دينه، وأن من استحل السبت فهو مهدر الدم عندهم حلال لهم سفك دمه).59
مما يدلك على صحة ما ذهب إليه ابن الحاج ما حُكِي عن الإمام المازري رحمه الله، حيث مرض مرضاً فلم يجدوا أحداً يداويه إلا يهودي كانت بينه وبينه مناظرات ومجادلات في الدين، فقال اليهودي: لولا شرف المهنة لقتلته؛ فحفزت هذه الكلمة الإمام المازري وشجعته على تعلم الطب، فكان يفتي فيه كما يفتي في الفقه، فينبغي على طائفة من المسلمين الأطباء أن يتخصصوا في كل مجالات الطب، حتى لا يحوجوا المسلمين للذهاب إلى الأطباء الكفار.
ومما يؤسف له أن بعض الأطباء الكفار معاملتهم أفضل بكثير من معاملة نفر من الأطباء المسلمين، مما يحدث فتنة للبعض تجعلهم بسبب ذلك يفضلون التداوي عند الطبيب الكافر مع وجود غيره من المسلمين، فلينتبه الأطباء المسلمون لذلك، وليحذروا أن يكونوا فتنة لإخوانهم المسلمين.
الأدلة على أن تعلم الطب بفروعه المختلفة والتخصص في ذلك من فروض الكفاية
الأدلة على أن تعلم طائفة من المسلمين في أي بلد من بلادهم للطب، والتخصص في ذلك حسب حاجة أهل ذلك البلد، مع الحرص والالتزام بأحكام الشريعة وقواعدها، وعدم الإخلال بذلك، كثيرة منها:
أولاً: حاجة المسلمين لذلك، فقد مر أن اثنين من الضرورات الخمس – وهما النفس والعقل – التي جاءت جميع الشرائع للمحافظة عليها، في حاجة ماسة إلى تعلم الطب ودراسته والتخصص فيه، فما لا يتم الواجب إلا به وما لا تتم الحاجة الماسة إلا به فهو من فروض الكفاية.
ثانياً: أمره صلى الله عليه وسلم لبعض أهل البادية بالتداوي، فعن أسامة بن شريك رضي الله عنهما قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله؟ أنتداوى؟ فقال: نعم، يا عباد الله، تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: ما هو؟ قال: الهرم"60.
وأهل البادية قلة قليلة بالنسبة لأهل الحضر، وكذلك إصابتهم بالأمراض نادرة، فإذا أمروا بذلك فمن باب أولى أهل المدن والحواضر، فهم قوام الأمة، وابتلاهم الله بكثير من الأمراض الحادثة، فحاجتهم إلى التداوي لا تداني حاجة أهل البادية.
ثالثاً: أوجبت طائفة من أهل العلم التداوي أخذاً بالأحاديث التي أمرت بذلك، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
رابعاً: تعاطيه صلى الله عليه وسلم للدواء، وإحضار العديد من الأطباء له ولغيره من الصحابة دليل على أن تعلم الطب من فروض الكفايات.
خامساً: أمره لسعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة، وكان كافراً، دليل على حاجة المسلمين للأطباء وللتداوي ولو عند كافر، يوجب تعلم طائفة منهم لهذا العلم حتى يرفعوا عن الأمة الحرج.
سادساً: تعلم عدد من سلف هذه الأمة للطب، سيما الأئمة، دليل على حاجة المسلمين إليه، وهو دليل ضمني على اعتباره عندهم أنه من فروض الكفاية، منهم على سبيل المثال لا الحصر:
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
الإمام الشافعي رحمه الله.
طبيب أهل السنة وهو عبد الرحمن أبو الفضل رحمه الله.
ابن تيمية رحمه الله.
ابن القيم رحمه الله.
الإمام الذهبي رحمه الله.
الإمام المازري رحمه الله.
ابن اللباد رحمه الله.
وغيرهم كثير.
سابعاً: إذا كان تعلم الحياكة والسباكة ونحوهما من فروض الكفاية، فمن باب أولى الطب.
أقوال أهل العلم المقتدى بهم في أن تعلم الطب من فروض الكفاية
1. الإمام الشافعي رحمه الله
قال الربيع: قال الشافعي: (العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان).61
وقال كذلك: (لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب).62
روي عن بعض الأطباء في زمن الشافعي أنه قال: (ورد الشافعي مصر فذاكرني بالطب حتى ظننت أنه لا يحسن غيره).63
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: (شيئان أغفلهما الناس: العربية والطب).64
وقال عنه الإمام موفق الدين البغدادي: (كان – أي الشافعي- مع عظمته في علم الشريعة، وبراعته في العربية، بصيراً بالطب).65
2. الإمام النووي رحمه الله
قال: (وأما العلوم العقلية فمنها ما هو فرض كفاية كالطب والحساب المحتاج إليهما).66
3. الإمام الغزالي رحمه الله
قال الغزالي: (فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا، كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة، أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة الوصايا، والمواريث، وغيرها، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى، وسقط الفرض عن الآخرين.
فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا البلد من الحجام67تسارع الهلاك إليهم، وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله).68
4. ابن الجوزي رحمه الله
5. أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي المتوفى 742هـ
قال ابن قدامة في اختصاره لمنهاج القاصدين لابن الجوزي: (وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب).69
6. الوزير ابن هبيرةرحمه الله 70
قال ابن مفلح: (وذكر ابن هبيرة أن علم الحساب والطب والفلاحة فرض على الكفاية).71
7. الإمام السيوطي رحمه الله
قال وهو يعدد في أنواع فروض الكفاية: (والطب، والحساب المحتاج إليه في المعاملات، والإرث، والوصايا، ونحوها).72
8. صديق حسن خان رحمه الله المتوفى 1307هـ
قال وهو يعدد في فروض الكفاية: (والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع، كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات.. وحفظ الأبدان والأخلاق والسياسة).73
9. الشيخ أبوبكر الجزائري
وقال الشيخ أبو بكر الجزائري: (العلوم الكونية، والتي تعرف أيضاً بالعلوم الطبيعية، وهي أنواع شتى منها: علم الكيمياء، وعلم النبات، وعلم الأحياء، والطب والصناعة.
ثم قال: فتعلم العلوم الكونية قد يكون واجباً كفائياً، بحيث إذا وجد في الأمة الإسلامية من يحسنه ويعلمه سقط الواجب عن باقي أفراد الأمة فلا يطالب به أحد، ولا يؤاخذ على تركه آخر، شأنه شأن سائر الواجبات الكفائية، وقد يكون واجباً عينياً في حال انعدام من يحسنه).84
10. الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار الشنقيطي حفظه الله
قال بعد أن ذكر عدداً من أقوال الأئمة المقتدى بهم من أن تعلم الطب من فروض الكفاية: (وهذا الحكم الذي نص عليه فقهاء الإسلام – رحمهم الله – أي فرضية تعلم الطب وتعليمه على الكفاية – عام شامل للجراحة لاندراجها في الطب، وهي فرع من فروعه، والحاجة الموجودة إلى الطب التي بني عليها هذا الحكم موجودة في الجراحة أيضاً.
إلى أن قال: فتبين من هذا كله فرضية تعلم الطب والجراحة على وجه الكفاية، وأن الشريعة الإسلامية لا تمانع من ذلك، ولا عجب في هذا الحكم من الشريعة، وهذه العناية من فقهائها المتمثلة في ندبهم المسلمين إلى تعلم الطب وتعليمه وتطبيقه، فهو العلم الذي جعل الله فيه وفي تطبيقه المصالح والمنافع الجليلة).74
هل هذا الحكم يشمل التخصص الدقيق لأقسام الطب وفروعه أم هو قاصر على الدراسة العامة له؟
قولان لأهل العلم:
1. هذا الحكم قاصر على دراسة الطب العامة.
2. هذا الحكم يشمل دراسة الطب العامة والدقيقة، لأن حاجة طائفة من المسلمين للتخصصات الدقيقة لا تقل عن حاجتهم للتخصص العام، فالتخصص في مجالات الطب المختلفة، والتعمق في الأبحاث العلمية التي تعين على ذلك، لا تقل أهميتها في هذا العصر الذي كثرت فيه الأمراض وتعددت وتعقدت عن دراسة المقدمات والقواعد العامة لهذا العلم، وهذا هو الراجح، والله أعلم.
قال الإمام الغزالي وهو من القائلين بأن التخصصات الدقيقة لا تدخل في فرض الكفاية: (وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب، وحقائق الطب، وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه)75، قلت: قوله: "مما يستغنى عنه"، فالتخصصات الدقيقة أصبح لا غنى عنها اليوم، وكذلك قوله: "ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه"، ففيه إلماحة بالحاجة إليه، ومن ثم يدخل في فرض الكفاية، والله أعلم.
وقال الدكتور محمد بن محمد المختار الشنقيطي، وهو ممن يرى عدم الاقتصار على تعلم الطب العام: (فإذا كانت هذه الحاجة موجودة في البلدان الإسلامية، فإنه يتعين على ولاة أمورها تجنيد الأكفاء الأخيار من المسلمين لتعلم الطب وتعليمه وتطبيقه، ولا ينبغي لهم البقاء على هذه الحالة التي اتكلوا فيها على أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم، لما في ذلك من الأضرار الدينية والدنيوية الكثيرة التي لا تخفى).76
فروض الكفاية تتأكد فرضيتها وتزداد أهميتها حسب حاجة المسلمين إليها
فروض الكفاية ليست بمستوى واحد، فتخصص طائفة من المسلمين في العلوم الشرعية والعربية، لقوله تعالى: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"77، وكذلك جهاد الكفار الصائلين، وحماية الحدود والثغور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مقدمات فروض الكفاية، ثم يتدرج الأمر فيها حسب حاجة المسلمين إليها.
ولا ينبغي أن يخلو البلد أوالمدينة من أطباء يقومون بالواجب، أما إذا كثر عدد الأطباء وزاد عددهم على حاجة البلد، بينما كانت حاجة المسلمين للتخصصات الشرعية ماسة، تعين على طائفة من الطلاب الأخيار المبرزين تعلم العلوم الشرعية، سواء كان ذلك في الحلقات والدروس والدورات في المساجد أوغيرها، وهي الأفيد والأسرع في سد النقص، أوكان ذلك بالالتحاق بكليات الشريعة والعلوم الإسلامية والعربية المحتاج إليها، وإلا يكون المتقدمون لدراسة الطب والهندسة مع هذا القصور الواضح الفاضح آثمون.
وينبغي لولاة الأمر أن يراعوا هذا التوازن في حاجات مجتمعاتهم وبلادهم، ولا ينبغي لولاة الأمر من الوالدين ونحوهم أن يمنعوا أولادهم من ذلك، وإلا كانوا من المعاونين على الإثم والعدوان.
قال العلامة صديق حسن خان: (ثم إنه تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه بحسب خلو الأعصار والأمصار من العلماء، فرب مصر78لا يوجد فيه من يقسم الفريضة إلا واحد أواثنين، ويوجد فيه عشرون فقيهاً، فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه).79
وقال الغزالي لائماً فقهاء عصره بالتوسع في بعض فروع الفقه وإهمالهم لبعض أعمال القلوب التي تكون من فروض العين، وكذلك خلو بعض البلاد من الأطباء إلا من أهل الذمة: (ولو سئل فقيه عن معنى من هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلاً، أوعن التوكل، أوعن وجه الاحتراز من الرياء، لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة، ولو سألته عن اللعان، والظهار، والسبق، والرمي، لسرد عليك مجلدات من التعريفات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها، وإن احتيج لم تخل البلد عمن يقوم بها ويكفيه مؤونة التعب فيها، فلا يزال يتعب فيها ليلاً ونهاراً، وفي حفظه ودرسه يغفل عما هو مهم في نفسه في الدين، وإذا روجع فيه قال: اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية، ويُلبِّس على نفسه وعلى غيره في تعلمه، والفطن يعلم أنه لو كان من فرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدم عليه فرض العين، بل قدم عليه كثير من فروض الكفايات، فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا نرى أحداً يشتغل به، ويتهارون على علم الفقه لا سيما الخلافيات والجدليات، والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الواقع، فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين بالاشتغال في فرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى الأوقاف، والوصايا، وحيازة مال الأيتام، وتقلد القضاء والحكومة، والتقدم به على الأقران، والتسلط به على الأعداء؟ هيهات هيهات، قد اندرس علم الدين بتلبس علماء السوء، فالله تعالى المستعان، وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان).80
قلت: رحم الله الغزالي، فقد انعكست الآية، وانقلبت الأمور، فأصبح جل الطلاب وأهلوهم حريصين على تعلم الطب، والهندسة، والصيدلة، والحاسوب، ونحوها، زاهدين كل الزهد في طلب العلم الشرعي، وذلك لأن خطة التعليم الجامعي وغيره التي وضعها الكفار عند استيلائهم على ديار الإسلام تقوم على ترغيب الناس في هذه العلوم البحتة، لما توفره لحامليها من الوظائف العالية، والمرتبات الكافية، بينما يحجر على خريجي المعاهد والجامعات الإسلامية الأهلية من تسنم جل الوظائف، ولا يسمح لهم إلا بالإمامة، وفي أحسن الأحوال القضاء في دائرة الأحوال الشخصية.
وبهذا تغيرت الأحوال وتبدلت، فعزف الناس عن دراسة وتعلم العلوم الشرعية والعربية، ورغبوا في دراسة غيرها، ومن ثم قل العلماء الشرعيون، وتكدست أسواق العمل بالأطباء، والمهندسين، وغيرهم.
الخلاصة
أن تعلم الطب ودراسته والاشتغال به والتخصص في أقسامه المختلفة من فروض الكفاية، إذا توفرت فيه هذه الشروط، وهي:
1. تعلم الدارس لما أوجبه الله عليه نحو ربه، ودينه، ورسوله، وإخوانه المسلمين.
2. إذا أمن من الاختلاط سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه كليات الطب، وازداد عدد الملتحقين بها، فيمكن أن تخصص كليات للأولاد وأخرى للبنات، وحتى في الكلية الواحدة، ما المانع أن يقسم المقبولون إلى مجموعتين، إحداهما للأولاد والثانية للبنات، إذ الاختلاط بين الرجال والنساء من أحرم الحرام، سيما في هذا العصر، ورضي الله عن عائشة، عندما قالت: "لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل".
3. إذا كان عدد الأطباء غير كافٍ لحاجة جميع المسلمين.
4. إن لم يكن هناك نقص واضح فاضح في العلماء وطلاب العلم الشرعي، لأن حاجة المسلمين للعلم الشرعي لا تدانيها حاجة، بل حاجتهم له أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لأنهم يحتاجون إلى الطعام والشراب في أحيان معينة، أما العلم الشرعي فحاجتهم إليه في كل وقت وحين.
5. إن لم تكن هناك وسائل وطرق محرمة ومخالفة للشرع ممارسة في تعلم الطب، كالتدريب والمعالجة بالحرام، ونحو ذلك.
6. إذا لم يُلزَم بعد التخرج أن يعالج الرجل المرأة والمرأة الرجل من غير ضرورة داعية لذلك، إلا عدم الاكتراث بالأوامر الشرعية، ومجاراة الكفار والتشبه بهم، حيث لم يوجد مانع واحد يحول دون ذلك، خاصة في المدن والمستشفيات الكبيرة، حيث العديد من الأطباء رجالاً ونساءً.
7. إذا أمن الاختلاط في مجال التمريض.
كل هذه المخالفات الشرعية وغيرها مقدور على التخلص منها الآن في كل بلاد المسلمين، إذا وجدت القناعة بذلك، وسلمت المتابعة والانقياد لله ولرسوله، وتحرر ولاة الأمر والمسؤولون من ذل التبعية للكفار والشتبه بهم، وعملوا بقول عمر رضي الله عنه: من طلب العزة في غير الإسلام أذله الله، وبقول مالك: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
مع وجود هذه المخالفات وغيرها، هل يكون تعلم الطب وممارسته من فروض الكفاية كذلك؟!
ينبغي للمعنيين بأمر الدين في هذه الحال أن يسعوا سعياً حثيثاً إلى إنشاء كليات طب ومستوصفات خاصة، حتى يتخلصوا من هذا الحرج وينفكوا من هذا الإثم، ولكن قبل ذلك، هل ضرورة تعلم الطب وحاجة المسلم الملتزم بدينه إليه توجب على البعض الدخول في هذا الزخم، والخوض في هذه المهالك، مع الأخذ بالتحفظات والاحتياطات، عملاً بالقاعدة الأصولية الهامة، الضرورات تبيح المحظورات؟!
هذا ما يحتاج إلى نظر وتدبر، لهذا ذهب أهل العلم المعاصرون في هذه المسألة إلى قولين:
قول بالجواز للحاجة.
وقول بالمنع، لأن درء المفاسد والمضار مقدم على جلب المنافع.
ولكل فريق حججه ومبرراته.
سئل الشيخ عبد الله بن جبرين: ما حكم الاختلاط في الجامعة، وخاصة ليس هناك وسيلة لتجنب الاختلاط، إما دراسة مختلطة، أوعدم متابعة الدراسة؟
فأجاب: (لا يجوز شرعاً الاختلاط في الدراسة بين الرجال والنساء، سواء في الجامعات أوفي المدارس الابتدائية أوالثانوية، ولكن إذا لم يجد طالب العلم وسيلة للدراسة إلا في هذه الجامعات المختلطة، فله أن يدرس فيها ويغض بصره، ويبتعد عن مماسة النساء أوالنظر إليهن بما يثير الفتنة، وهكذا على الطالبات الحرص على الانفصال والابتعاد عن المدارس التي فيها الاختلاط، أوالحرص على الانحياز أوالتميز وعدم مماسة الشباب أومقاربتهم).81
وسئل كذلك: أنا طالب جامعي جزائري في الإعلام الآلي سنة ثانية، أريد أن أستفسر عن قضية الاختلاط مع الإناث المنتشرة في جامعاتنا وفي جميع المرافق الحياتية والضرورية في بلادنا، فهل يجوز لي إكمال دراستي للإعلام الآلي بالجامعة في هذا الجو من الاختلاط والسفور والتبرج.. إلخ؟
إلى أن قال: فقد بادرتني فكرة التوقف عن الدراسة حين سمعت شريطاً للشيخ الألباني رحمه الله "جلسة مع الجزائريين" يقول فيه ما مختصره أنه لا يجوز الدراسة في الاختلاط، فهل هذا كلام عام؟ وهل حالتي حالة خاصة؟ مع العلم أن عائلتي لا توافق الفكرة، وأن والدي هددني بمقاطعتي وطردي من البيت.
فأجاب: (يجوز لك الاستمرار في هذه الدراسة إذا كنت آمناً على نفسك من الوقوع في الحرام، ومن الفتن بما تراه وتمسه من هذه الحالة المشينة، فأرى لك الاستمرار حتى إكمال الدراسة والانتهاء من هذه المرحلة، رجاء أن تكون صالحاً مصلحاً في مجتمعك).82
وسئل كذلك: ما حكم الدراسة في الجامعة التي كثر فيها التبرج والفسق؟
فأجاب: (لا تجوز الدراسة للرجال في المدارس التي يحصل فيها اختلاط الرجال والنساء، وتكون الطالبات متبرجات متجملات بحيث يتقابل الشباب بالشابات، ويحتك بعضهم ببعض، ويجلس الفتى إلى جانب الفتاة في الفصول، فإن ذلك وسيلة للفتنة، ووقوع الفواحش والمنكرات، ولا يقال ذلك أنه قد أصبح معتاداً غير مستنكر، فإن غرائز الشهوة ثابتة تنبعث مع وجود الأسباب، فإن لم يجد غيرها حرص على دراسة المنزل أوالابتعاث إلى الجامعات الإسلامية ليأمن على نفسه).83
قلت: بعض الشر أهون من بعض، فينبغي للطلاب الملتزمين الانتساب إلى الجامعات غير المختلطة إن وجدت،وأن يحذر كل جنس من الاجتماع بالجنس الآخر، والاحتكاك معه خارج القاعات، وعلى المسؤولين فيها الحرص ألا يختلط الأولاد بالبنات، لا في المعامل ولا في غيرها بحجة ضعف الإمكانيات أوقلة الأساتذة، فهذه كلها حجج واهية.
ومن انتسب إلى الجامعات المختلطة فعليه أن يختار أقلها تفسخاً وتبرجاً وسفوراً.
ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول رب العالمين، ولا عدوان إلا على الكافرين والمعاندين
وهذا رابط المقال :
http://www.islamadvice.com/ilm/ilm15.htm
أخوكم المحب / المشفق