![]() |
فمن أتى بتوحيد الربوبية، لزمه أن يأتي بتوحيد الألوهية
اعلم أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أنواع1. وهذه القسمة استقرائية، قد دلت عليها النصوص. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "دل استقراء القرآن العظيم على أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: توحيده في ربوبيته، وهذا النوع جبلت عليه فطر العقلاء. الثاني: توحيده جل وعلا في عبادته، وضابط هذا النوع من التوحيد هو: تحقيق معنى لا إله إلا الله، وهي متركبة من نفي وإثبات. الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته"2. فأنواع التوحيد إذًا ثلاثة. وقد اجتمعت هذه الأنواع الثلاثة في آية واحدة من كتاب الله عز وجل؛ في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا** [مريم: 66] . يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله موضحا ذلك: "فقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا** هذا توحيد الربوبية. وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ** هذا توحيد الألوهية. وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا** هذا توحيد الأسماء والصفات؛ أي: لا تعلم له سميا؛ أي: مساميا يضاهيه ويماثله عز وجل"3. وبعد ما عرفنا أنواع التوحيد، نتكلم عن كل نوع منها بإيجاز. __________ 1 انظر الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 56. 2 أضواء البيان للشنقيطي 3/ 410-411. 3 الجواب المفيد في بيان أقسام التوحيد لابن عثيمين ص9. (1/55) المبحث الأول: توحيد الربوبية توحيد الربوبية أحد أنواع التوحيد الثلاثة. ويمكن الحديث عنه بإيجاز في الوقفات التالية: الوقفة الأولى: معنى الرب لغة الرب لغة يأتي لعدة معان، منها: المربي، والمالك. يقال: رب كل شيء: مالكه، ومستحقه، أو صاحبه1. الوقفة الثانية: توحيد الربوبية شرعا هو الاعتقاد والاعتراف والإقرار الجازم بأن الله وحده رب كل شيء ومالكه، وخالق كل شيء ورازقه، وأنه المحيي والمميت، والنافع والضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، ليس له في ذلك شريك2. الوقفة الثالثة: ما الذي يلزم المؤمن بتوحيد الربوبية؟ عندما نقول: على العبد أن يوحد الله في ربوبيته، فإنا نطلب منه أمورا، هي: 1- أن يؤمن بوجوده أولا. 2- أن يؤمن بأفعال الله العامة؛ كالخلق، والرزق، والنفع، والضر، والإعطاء، والمنع، والإحياء، والإماتة، إلخ. 3- أن يؤمن بقضاء الله وقدره؛ لأن ما يجريه الله في كونه، وما يقدره من مقادير هي من أفعاله عز وجل. الوقفة الرابعة: في ذكر بعض الأدلة الشرعية على توحيد الربوبية القرآن الكريم مليء بذكر الأدلة على ربوبية الله عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين** [الفاتحة: 2] ، وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ __________ 1 انظر: الصحاح للجوهري 1/ 130. والقاموس المحيط للفيروزآبادي ص111. 2 انظر تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص33. (1/56) وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ** [البقرة: 164] ، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ** [يس: 82] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ** [الذاريات: 58] ، وغير ذلك. الوقفة الخامسة: دلالة الفطرة على توحيد الربوبية 1 هذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء؛ فالله عز وجل فطر خلقه على الإقرار بربوبيته، وأنه الخالق الرازق، المحيي المميت، إلخ. وقد حكى الله عز وجل عن المشركين أنهم يقرون بهذا النوع من التوحيد، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ** [العنكبوت: 61] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ** [الزخرف: 87] , {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ** [العنكبوت: 63] فهم ينسبون لله سبحانه: الخلق، والإحياء، والإماتة، وتدبير الأمر؛ من رزق، وإنزال مطر، وغير ذلك. الوقفة السادسة: موقف المشركين من توحيد الربوبية ذكرنا في الوقفة السابقة أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، ومع ذلك حكم عليهم الله سبحانه وتعالى بالكفر، ودمغهم بالشرك؛ فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُون** [يوسف: 106] . والملاحظ أن الله عز وجل نسب إليهم في هذه الآية إيمانا، مع حكمه عليهم بالشرك، وهذا الإيمان الذي أثبته لهم، قولهم: إن الله خلقنا، ويرزقنا، ويميتنا، فهذا إيمانهم، مع إشراكهم في عبادتهم غيره2. وهذا التوحيد كما أقر به المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك أقرت به سائر الأمم، إما ظاهرا وباطنا، أو باطنا فقط. وفرعون الذين أنكره ظاهرا، أقر به باطنا كما حكى الله عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم** [النمل: من الآية 14] 3. الوقفة السابعة: هل يكفي توحيد الربوبية وحده؟ وهل يدخل صاحبه في الإسلام؟ لا يكفي توحيد الربوبية وحده، ولا يدخل صاحبه في الإسلام، ولذلك قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أقر به، وصرف العبادة لغير الله. __________ 1 تقدم الحديث عن الفطرة في ص49-51 من هذا الكتاب. 2 انظر: الدين الخالص لصديق حسن خان 1/ 209. وتوحيد الربوبية لمحمد بن إبراهيم الحمد ص12. 3 انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي 1/ 25-27. وتوحيد الربوبية للحمد ص14-15. (1/57) المبحث الثاني: توحيد الأسماء والصفات ... المبحث الثاني: توحيد السماء والصفات توحيد الأسماء والصفات أحد أنواع التوحيد الثلاثة، ويمكن الحديث عنه بإيجاز في الوقفتين التاليتين: الوقفة الأولى: تعريف توحيد الأسماء والصفات يعرف هذا النوع من أنواع التوحيد بأنه: إفراد الله سبحانه وتعالى بما سمى به نفسه، ووصف به نفسه؛ في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، نفيا وإثباتا؛ فيثبت له ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل1. الوقفة الثانية: في ذكر بعض أصول أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات هذا النوع من أنواع التوحيد ينبني عند أهل السنة والجماعة2 على أصول، منها: 1- تنزيه الله عز وجل عن مشابهة صفات الحوادث؛ فالله عز وجل ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله3؛ كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير** [الشورى: من الآية11] . 2- الإيمان بجميع ما وصف الله به نفسه، أو وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة لا مجازا، على الوجه اللائق بكماله وجلاله، فكما لايجوز تمثيل صفاته عز وجل بصفات خلقه، كذلك لا يجوز نفي الصفات التي وصف بها نفسه. والملاحظ على الآية المذكورة آنفا أنها ذات شقين؛ أحدهما: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ** رد على أهل التشبيه والتمثيل، والآخر: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير** رد على أهل النفي والتعطيل. 3- قطع الطمع عن إدراك كيفية صفاته عز وجل؛ إذ العباد لا يعلمون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه؛ لأن عقولهم لا تطيق "كنه معرفته عز وجل، ولا تقدر ألسنتهم على بلوغ صفته"4. __________ 1 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/ 3. والرسالة التدمرية له ص7. ولوامع النوار البهية للسفاريني 1/ 129. والمجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين / 12. والأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص22. 2 انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2/ 110. وأضواء البيان للشنقيطي 2/ 312، 3/ 411. وآداب البحث والمناظرة له 2/ 127-128. 3 انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/ 117. والرسالة المدنية له ص31. 4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/ 575. (1/58) المبحث الثالث: توحيد الألوهية تمهيد: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات من جنس واحد؛ فهما نوعان مفهومهما اعتقادي -ليس عمليا كتوحيد الألوهية- ولذلك أطلق بعض أهل العلم عليهما اسما وحدا، هو: توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي الخبري؛ لأن المطلوب من المؤمن تجاههما: معرفة، وإثبات؛ معرفة أفعال الله، وأسمائه، وصفاته، وإثباتها له عز وجل. أما توحيد الإلهية، أو العبادة: فهو توحيد عملي؛ فيه أمر بفعل يصرف لواحد؛ وهو الله سبحانه وتعالى، أو نهي عن فعل يترك لأجل واحد، هو الله عز وجل؛ فهو توحيد في الطلب والقصد، أو توحيد إرادي طلبي، فيه دعوة إلى عبادة الله وحده، وخلع ما يعبد من دونه1. والكلام عن هذا النوع من أنواع التوحيد يطول؛ إذ المعركة بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وبين أقوامهم، كانت من أجل هذا التوحيد. وسأكتفي هاهنا بذكر مقدما تعريفية بهذا التوحيد، وأترك التفصيل للفصل اللاحق. وهذا الكلام الموجز في هذا المبحث، يستلزم الوقفات التالية: الوقفة الأولى: في تعريف كلمة "إله" لغة يقال في اللغة: أله إلاهة وألوهة وألوهية: أي عبد عبادة. وتوحيد الأولوهية: أي توحيد العبادة، والإله بمعنى مألوه؛ أي معبود. وألهه: اتخذه إلها؛ أي معبودا. وكل ما اتخذ معبودا، فهو إله عند متخذه2. الوقفة الثانية: تعريف توحيد الألوهية عرف العلماء توحيد "الألوهية" بأنه "إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، قولا وعملا، ونفي العبادة عن كل ما سوى الله تعالى كائنا من كان"3. __________ 1 انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص42-43. 2 انظر: الصحاح للجوهري 6/ 2223. والقاموس المحيط للفيروز آبادي ص1603. والمعجم الوسيط لجماعة من المؤلفين ص25. 3 أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص51. وانظر المجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين / 11. (1/59) الوقفة الثالثة: منزلة توحيد الألوهية بين أنواع التوحيد هذا التوحيد هو أول دعوة الرسل1 عليهم الصلاة والسلام؛ فمن أجله أرسلت الرسل؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ** [النحل: من الآية 36] . وبهذا التوحيد أنزل الله الكتب2؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ** [الأنبياء: 25] . وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الثواب أو العقاب في الدارين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذي هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئا، كان موحدا"3. وهذا التوحيد هو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الكفار عليه4؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" 5. و"لا إله إلا الله" هو معنى توحيد الألوهية، كما سيأتي. الوقفة الرابعة: الأدلة الشرعية على توحيد الألوهية "توحيد الله، وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته، في القرآن كثير جدا"، كما قال ابن تيمية رحمه الله6. ومن هذه الأدلة الكثيرة: قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا** [النساء: من الأية36] ، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ** [الإسراء: من الآية23] ، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ** [البينة: من الآية5] ، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ** [الأنعام: 162-163] . __________ 1 انظر: مدارج الساكلين لابن القيم 3/ 443. وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/ 21. 2 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 145. 3 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 52-53. 4 انظر المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين 2/ 11-12. 5 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله. 6 في مجموع الفتاوى 1/ 70. (1/60) والأدلة من السنة كثيرة جدا، أكتفي بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ " قال معاذ: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" 1. الوقفة الخامس: حكم من لم يأت بهذا النوع من التوحيد، وأخذ بالنوعين الباقين لا يدخل في الإسلام من لم يأت بتوحيد الألوهية، ولو كان آخذا بالنوعين الآخرين؛ "فلو أن رجلا من الناس يؤمن بأن الله سبحانه هو الخالث المالك المدبر لجميع الأمور، وأنه سبحانه المستحق لما يستحقه من الأسماء والصفات؛ لكن يعبد مع الله غيره، لم ينفعه إقراره بتوحيد الربوبية، والأسماء والصفات"2، وكذا لو صرف شيا من العبادة لغير الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ** [المائدة: من الآية72] . الوقفة السادسة: العلاقة بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية يكثر في كلام علماء أهل السنة -رحم الله أمواتهم، وحفظ أحياءهم- ذكر علاقة الاستلزام والتضمن بين نوعي التوحيد هذين. ومن كلامهم في ذلك قول العلامة ابن القيم رحمه الله: "والإلهية التي دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها، هي العبادة والتأليه. ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، فاحتج الله عليهم به؛ فإنه يلزم من الإقرار بتوحيد الإلهية"3. ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيده في عبادته. ولذلك يخاطبهم في توحيد البوبية باستفهام التقرير، فإذا أقروا بربوبيته، احتج بها عليهم، على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده، ووبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده؛ لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده، لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده"4. __________ 1 صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا. واللفظ لمسلم. 2 المجموع الثمين للشيخ ابن عثيمين 2/ 12. 3 إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم 2/ 153. 4 أضواء البيان للشنقيطي 3/ 411. (1/61) فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فمن أقر بالأول، لزمه الثاني؛ أي: من عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره، -وقد دعاه هذا الخالق إلى عبادته- وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له؛ فإذا كان هو الخالق الرازق النافع الضار وحده، لزم إفراده بالعبادة1. والله عز وجل كثيرا ما يستدل على المشركين المقرين بتوحيد الربوبية بهذا. من ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ** [البقرة: 21-22] . وكما أن كان توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فإن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية؛ يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن توحيد الألوهية: "وهو متضمن لتوحيد الربوبية؛ لأن كل من عبد الله وحده؛ فإنه لن يعبده حتى يكون مقرا له بالربوبية"2. فتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية؛ أي يدخل ضمنا فيه؛ فمن عبد الله وحده لا شريك له، فلا بد أن يكون معتقدا أنه ربه وخالقه ورازقه؛ إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر3. الوقفة السابعة: الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية أعظم الغلط إنما حصل من جهة الانحراف في فهم مدلول كل من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ فليس أحدهما هو الآخر، والفروق بينهما كثيرة جدا، وأكتفي بذكر بعضها، فمنها4: 1- فرق في الاشتقاق اللغوي؛ فالربوبية مشتق من اسم "الرب"، والألوهية مشتق من لفظ "الإله". __________ 1 انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ الفوزان ص34-35. وتوحيد الألوهية للحمد ص60. 2 المجموع الثمين لابن عثيمين ص22. 3 انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ الفوزان ص34-35، وتوحيد الألوهية للحمد ص61. 4 انظر إشارات إلى هذه الفروق في الكتب التالية: الأسئلة والأجوبة في العقيدة للشيخ صالح الأطرم ص15-19. والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للشيخ الفوزان ص34-35. وتوحيد الألوهية للحمد ص60-63. (1/62) 2- فرق في التعريف؛ فتوحيد الربوبية: إفراد الله بأفعاله؛ من خلق، ورزق، وإحياء، وإماتة، وإعطاء، ومنع، وضر، ونفع، إلخ. وتوحيد الألوهية: إفراد الله بأفعال عباده؛ من صلاة وزكاة وصيام وخشية ورجاء ومحبة وخوف وتوكل إلخ. 3- فرق في الكفاية؛ فتوحيد الربوبية لا يكفي وحده في دخول الإسلام، أما توحيد الألوهية فيكفي وحده؛ لأن من أتى بتوحيد الألوهية، فقد أتى ضمنا بتوحيد الربوبية، لذلك من قال "لا إله إلا الله"، فقد أى بجميع ألأنواع التوحيد. 4- فرق في الإقرار؛ فتوحيد الربوبية أقر به المشركون، وتوحيد الألوهية رفضه المشركون ولم يؤمنوا به، وعبدوا آلهة أخرى، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى** [الزمر من الآية3] ، ولما طلب منهم أن يعبدوا الله وحده، قالوا ما حكاه الله عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ** [ص: 5] . 5- فرق في اللزوم والتضمن؛ فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ فمن أتى بتوحيد الربوبية، لزمه أن يأتي بتوحيد الألوهية. أما توحيد الألوهية فإنه متضمن لتوحيد الربوبية؛ فمن جاء بتوحيد الألوهية، فقد أتى ضمنا بتوحيد الربوبية. وهذه الفروق التي ذكرتها مع غيرها من الفورق ترد على من زعم أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل هو توحيد الربوبية، ولا يفرق بين هذا التوحيد وتوحيد الألوهية. وثمة وقفات أخرى مع توحيد الألوهية في الفصل التالي؛ حين الحديث عن شهادة "أن لا إله إلا الله" كمعنى لهذا التوحيد، وعن العبادة، وأنواعها، وأركانها. |
بارك الله فيك وأثابك
|
الساعة الآن 07:00 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com