المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل جاءَ في القُرآن حكمُ الحوتِ الطَّافي ؟للشيخ عبد الملك رمضاني حفظه الله


أحمد سالم ,
18-05-2011, 09:27 AM
هل جاءَ في القُرآن حكمُ الحوتِ الطَّافي ؟

قالَ اللهُ تعالى : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ﴾ ( المائدة : 96 ) .
جاءت السّنّة القوليّة و الفعليّة صريحةً بإباحة الحوت الّذي قذف به البحر ، أمّا القوليّة ففيما رواه أحمد ( 2/97 ) و ابن ماجه ( 3218 ) و صحّحه الألبانيّ في ” السّلسلة الصّحيحة ” ( 1118 ) عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم قال : ” أُحِلَّت لنا مَيْتَتَان : الحُوتُ و الجرادُ ” ، وأمّا الفعليّة ففيما رواه البخاري و مسلم عن جابر قال : ” قالَ : بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه و سلَّمَ وَ أَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَتَلَقَّى عِيراً لِقُرَيْشٍ ، وَ زَوَّدَنَا جِرَاباً مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً ، قَالَ فَقُلْتُ (1) : كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا ؟ قَالَ : نَمَصُّهَا كَمَا يَمصُّ الصَّبِيُّ ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إلَى اللَّيْلِ ، وَ كُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ (2) ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ ، قَالَ : وَ انْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ، فَرُفِعَ لَنَا علَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ ، فَأَتَيْنَاهُ فَإذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَر، قَالَ : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَيْتَةٌ ، ثُمَّ قَالَ : لاَ ! بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَ سَلَّمَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ قَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا ، قَالَ : فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْراً وَ نَحْنُ ثَلاَثُ مِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا… وَ تَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ (3) ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللّهِ صلَّى اللهُ علَيْهِ و سلَّمَ فَذَكَرْنَا ذلِكَ لَهُ ، فَقَالَ :هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللّهُ لَكُمْ ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا ؟ قَالَ : فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ مِنْهُ فَأَكَلَهُ ” ، و قد دلّ الحديث على حُكمين :
الأوّل : إباحة ما رمى به البحر من حيوانه .
الثّاني : إباحته مطلقاً دون تقييدٍ بحالة الضّرورة ؛ لأنّ الصّحابة لم يكتفوا بسدّ الرّمق منه ، بل ذكر جابرٌ أنّهم تزوّدوا منه ، كما أنّ الرّسول صلّى الله عليه و سلّم سألهم أن يطعموه منه و هو بالمدينة ، وهذا ليس طعام ضرورةٍ كما لا يخفى .
هذا من السّنة ، و أمّا من القرآن ، فقد استنبط ذلك من آية الباب عمر بن الخطّاب و أبو هريرة و غيرهما ، روى ابن جريرٍ في ” جامع البيان في تأويل آي القرآن ” ( 8/726- هجر ) بسندٍ حسنٍ عن أبي هريرة قال : ” كنتُ بالبحرين ، فسألوني عمّا قَذَفَ البحرُ ، قال فأفتيتُهُم أن يأكلوا ، فلمّا قدمتُ على عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ذكرت ذلك له ، فقال لي : بما أفتيتَهُم ؟ قال : قلت : أفتيتُهُم أن يأكلوا ، قال : لو أفتيتَهُم بغير ذلك لعلوْتُكَ بالدِّرَّة ، قال : ثمّ قال : إنّ الله تعالى قال في كتابه : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَ طَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ ﴾ ، فصيده ما صِيد منه ، و طعامه ما قذف ” .
و قد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ الطّعام المنصوص عليه في الآية هو الصّيد البحريّ المُمَلَّح ، و ردّه ابن جرير و اختار القول الأوّل ، و علّله بتعليلٍ بلاغيٍّ قويّ ، فقال ( 8/734 ) : ” و أولى هذه الأقوال بالصّواب عندنا قول من قال ﴿ طَعَامُهُ ﴾ : ما قذفه البحر أو حَسَر عنه فوُجد ميتا على ساحله ؛ و ذلك أنّ الله تعالى ذكره ذكر قبله صيد البحرالّذي يصاد ، فقال : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ﴾ ، فالّذي يجب أن يُعطف عليه في المفهوم ما لم يُصد منه ، فيقال : أُحلّ لكم ما صدتموه من البحر و ما لم تصيدوه منه ، وأمّا المليح فإنّه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد فقد دخل في جملة قوله : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ﴾ ، فلا وجه لتكريره ؛ إذ لا فائدة فيه ، و قد أعلمَ عبادَه تعالى ذكره إحلاله ما صِيد من البحر بقوله : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ﴾ ، فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك : و مليحه الّذي صيد حلالٌ لكم ؛ لأنّ ما صيد منه ، فقد بيّن تحليله طريًّا كان أو مليحاً بقوله : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ﴾ ، و الله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم فائدةً ” .
و أمّا الحكم الثّاني الّذي هو الإباحة مطلقاً ، فإنّه مستخلصٌ من قوله تعالى : ﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ﴾ ، و المقصود من السّيّارة : السّائرون في أسفارهم ، فقد جعل الله صيد البحر بشِقَّيه السّابقَيْن حلالاً للجميع : الحاضرين منهم و المسافرين ، فلم يقيّده بأهل الضّرورة كما هو ظاهر الآية ، و هذا هو مذهب جمهور الفقهاء ، و الله أعلم .
_____________________
(1) : السّائل هنا هو أبو الزّبير ، الرّاوي عن جابر .
(2) : الخبْطُ هو ضرب الشّجر بالعصا ليتناثر ورقها ، و اسم الورق السّاقطِ الخَبَطُ ، بالتّحريك ، فَعَلٌ بمعنى مَفْعول ( اللّسان : مادّة خبط )
(3) : مفرده وَشيقُ و وَشِيقة : وهو لحمٌ يُغْلى في ماءٍ ثمّ يُرْفع ، و قيل: هو أَن يُغلى إغْلاءةً ثمّ يرفع ، وقيل: يُقَدَّدُ و يحُمل في الأسفار و هي أَبْقَى قديدٍ يكون . ( اللّسان : مادّة : وشق ) . [ الهوامش كلّها منّي ؛ أبو حاتم ] .

” .من كلّ سورة فائدة ” للشيخ عبد الملك رمضاني حفظه الله