رائع هو الأدب بكل ما يحتويه من نثر وشعر وبحث وتحليل
لن اعقب على ما قاله أرسطو وافلاطون واخيرا فرويد عن المساحات الشاسعة التي تخلقها الكلمات
وابعادها النورانية في نفوس صانعيها ونفوس متلقيها
ان صاحبي الكلمة مختلفين عن غيرهم
ذلك أنهم قادرين على تطهير نفوسهم من كل خلجة من الخلجات
شعرا او نثرا او رواية
فالشاعر يبوح لنا بأسراره ، وخطاياه ، وكل ما يعتمل داخل نفسه لصنع ذلك الفن في أرقى معانيه ، فيكون الحزن ابداعيا كما هي البهجة مزخرفة
او يذوب بين حيثيات روايته ليتحدث فيها على لسان ابطالها فينقل لنا نماذج بشرية مختلفة نتأثر بها وبنزاهتها وأخطائها ، عمل أدبي صعب
يحاول فيه الرواي ان يقف بأمانة مطلقة على الحياد فلا يدمج آراءه ونظرته هو شخصيا الى الامور مع الأحداث القائمة على ألسنة اصحاب روايته
لماذا نفرط في لوم الشاعر والكاتب الغارق مع نفسه ولا يرى سواها !
فبينما هو يبث تمرده وعصيانه ، ثم ندمه وتوبته ، و آهاته وحزنه أو ألمه وأشجانه وأمنياته المعلنة وغير المعلنة
هناك من يترصد له ويجمع اعترافاته .. ليستعملها لتشريحه حاضرا ام غائبا .
إن للأدب تأثير كبير في أن يخلص النفس من احزانها المكبوتة
والأديب انسان قادر على ان يزف الى المقبرة ما يشاء من احداث وشخصيات آلمته
ذلك ان مقرّ عمله الأصلي هو ..الذاكرة ...كل انواع الآداب تتغذى من الذاكرة
هل تعلمون إننا نستطيع- في كتاباتنا - تلفيق سكتة قلمية مباغتة الى أحدهم ، فيختفي حينها عن حيز الوجود..وجودنا .. ونواريه احدى المقابر ؟
ولا يهمنا بعد ذلك ان استمر على قيد الحياة، ما دام خرج من الدائرة ..دائرة ذاكرتنا ...حتى وان كان امام ناظرينا
تصديقا لقول احد الحكماء ..قل لي ماذا تتذكر ، أقل لك ماذا ترى
ليس أروع من أن يقف أحدهم على عتبة الأدب ليطهر نفسه من خطاياها ، وينظر الى خطايا الغير بصورة تجريدية
بينما لا يتوانى البعض عن حمل هراوات التكفير واتهامات سوء الخلق ليجلدوا بها شاعرا او كاتبا او باحثا كل ما فعله انه تجرد من نفسه وصورها تصويرا دقيقا .
فأين هو ذلك الانسان الذي بلا نزوات ولا أخطاء ولا تلك الرغبات المكبوتة الدفينة المحملة بأشياء كثيرة ؟
لماذا يُحارب ويُلاحق الشخص الذي يطهر نفسه من كل شيء ويعترف بكل خطاياه بأي صورة كانت؟
الكثير من حاملي الهراوات يمثلون بأنهم شعب فاضل ، لا يعرفون الا الخير والزهد والنقاء ، لا يعرفون للدهاء طريقا ولا للمكر سردابا ، ونفوسهم منزهة عن مشاعر الغيظ والغضب والغيرة والحسد، نشجع هؤلاء ونربت على اكتافهم ، ودون ان ندري ، نشجع التمثيل والزيف والنفاق
ونترك الدهاء والحسد والغيرة تلعب لعبها في معاملتهم السرية الخفية ، فيزيد الفساد في الأرض ولا نعلم كيف ، ونبحث عن الاسباب
فلا نجد مشاجب للتعليق الا على ظهور الواضحين بأخطائهم وخطاياهم
نحن ننسى في ظل هذه الفوضى ، ننسى في ظل حاجتنا الى الاستماع ، وفي ظل رغبتنا بالحديث الكثير
ننسى ان النقاء هو ذلك الحبل السري الذي لا يظهر للعيان ولا يظهر بالكلام لشدة شفافيته
هذا هو النقاء الذي يجعلنا نحب العالم كما هو ، نحب البشر دون سبب ، ولا نحمل هراوات التنديد والتهديد والجلد
هل فكرتم بهذا يوما ؟
هل احتاج ان اقتبس مفردات من هنا وهناك لأضع نفسي بالصورة التي تظهرني ملائكية الطبع والطباع خالية من الأحقاد والأطماع ؟
وهل يمكن ان نصدّق انسانا يدّعي انه بمنتهى النقاء ، ان كان بداخل كل منا بشر نعرف تماما بماذا وكيف يفكر ؟
كل ما اعرفه انني أصدق شخصا يعترف بخطاياه صغيرها وكبيرها ، وبأي صورة كان هذا الاعتراف
ولا يمكن ان أصدق شخصا من حاملي الهراوات ، نافيا احتمالية وقوعه بأخطاء أكبر وأعظم
انت تعرف انك تخطئ ، وتعرف اخطاءك جيدا ، وهذا ليس احتمالا ، فلا تتحدث وكأنك لا تعلم عن أخطائك
بينما تتذكر كل ما قاله الآخرون وتؤوّله كما تريد !
وهناك السياق..سياق الحديث، والذي لولاه من الممكن تأويل المفردات حسبما نريد ونشتهي
والذي أتركه جانبا وأنقضّ في تركيزي على المفردات عندما أريد أن أذنّب أحدهم، لعبة يهودية في الادب لا يكترث اليها الكثيرون ، والقليلون من يعترفون
لا شك ان كل شيء أسمعه وأراه ... الآن ، يجعلني أعشق الأدب والأدباء أكثر وأكثر ،
فمرحى للأدب والإبداع ..ان كان للتطهير النفسي
ومرحى .. لمن يحملون حقيقة ان خطاياهم أكبر من ان يحملوها لوحدهم
ومرحى ....لمن يحملون الجرأة على تطهير أنفسهم من عصيانهم وخذلانهم ،
فيخبروننا ..... كيف يصل الانسان الى تلك المرحلة الروحية التي لا يعود يرى فيها احدا ، ولا يرى الا نفسه ،
فيحادثها أو يلومها أو يتعاطف معها أويعاقبها ويحاسبها ويجلدها بطريقته.
مرحى .. لمن يعرف كيف يقرأ الأشياء والأحداث والناس من خلال كلمات ...
ومرحى ، ألف مرحى ، لمن يعرف كيف يرسم ... كل هذا ...... بالكلمات !.
الرسم بالكلمات
