موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

تم غلق التسجيل والمشاركة في منتدى الرقية الشرعية وذلك لاعمال الصيانة والمنتدى حاليا للتصفح فقط

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > أقسام المنابر الإسلامية > منبر العقيدة والتوحيد

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 09:31 PM   #1
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Icon42 معنى لا إله إلا الله ... شروطها ... وما لا تعرفه عنها

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 09:33 PM   #2
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post ما لا تعرفه عن كلمة التوحيد

ما لا تعرفه عن كلمة التوحيد
(( لا إله إلا الله محمد رسول الله ))
موسى بن سليمان السويداء

كلمة التوحيد هي كلمة الإخلاص , وشهادة الحق , ودعوة الرسل , وبراءة من الشرك , ونجاة العبد , ورأس هذا الأمر , ولأجلها خُلق الخلق كما قال تعالى : ** وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون **[ الذاريات / 56 ] ولأجلها أرسلت الرسل , وأُنزلت الكتب كما قال تعالى : ** وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أن لا إله إلا أنا فاعبدون **[ الأنبياء / 25 ] ومن أجلها أفترق الناس إلى فريقين , فريق في الجنة وفريق في السعير , ومن أجلها حقت الحاقة , ووقعة الواقعة , ومن أجلها سُلت سيوف الجهاد , وفارق الابن أباه , والزوج زوجته فلا يدخل الإنسان في الإسلام إلا بعد أن يشهد هذه الشهادة , شهادة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) فإن أبى فلا يكون من أهل الإسلام والتوحيد , بل هو من أهل الكفر والشرك , ولذا هي الركن الأول من أركان الإسلام , وهي مفتاح الجنة .
وفي الصحيحين عن ابن المسيب عن أبيه , قال : ( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم , وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل , فقال له : (( يا عم قل : لا إله إلا الله . كلمة أحاج لك بها عند الله )) فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا , فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول لا إله إلا الله , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لأ ستغفرنَّ لك ما لم أنه عنك )) فأنزل الله عزوجل : ** ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم **[ التوبة / 113 ] وانزل في أبي طالب : ** إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء **[ القصص / 56 ] ) .
وهذا يدل على عِظم هذه الكلمة الجليلة , فأبى طالب مات على ملة الشرك , ملة أبيه عبد المطلب بسبب عدم نطقه لهذه الكلمة العظيمة .

* ومعنى هذه الكلمة أي : لا معبود بحق إلا الله . فهي جامعة للنفي والإثبات , فـ( لا إله ) نفي لجميع ما يعبد من دون الله - كالأصنام والأوثان والملائكة والأنبياء والأولياء والجن الذين عُبدوا من دون الله - و ( إلا الله ) إثبات العبادة لله وحدة لا شريك له في العبادة دون غيره من المعبودات [1].
وأما ( محمد رسول الله ) فمعناها : طاعته فيما أمر , وتصديقه فيما أخبر , واجتناب ما نهى عنه وزجر , وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .[2] وهذا التعريف لمعنى شهادة محمد رسول الله شامل لها , لأن العبادة لابد أن تكون موافقة لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلا يُعبد الله بالبدع , والخرافات , وما يستحسنه الناس من عند أنفسهم .

* وأما خصائص كلمة التوحيد فمنها : أنها لا تشتمل على حرف منقوط . قال ابن عبد الهادي الحنبلي : ( ومن خواصها أن حروفها كُلها مهملة ليس فيها حروف معجمة تنبيهاً على التجرد من كل معبود سوى الله تعالى )[3] وقال محمد بن أبي الفتح البعلي : ( ومن خواصها أن جميع حُروفها جوفية , ليس فيها شيء من الشفوية , إشارة إلى أنها تخرج من القلب )[4] .

* وأما شروطها فثمانية وقد نظمها بعضهم في قوله :
عـلم يقين وإخلاص وصدقك مع * * * محبةٍ وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما * * * سوى الإله من الأشياء قد أُلها
فالأولى : العلم بمعناها المنافي للجهل . وقد ذكرنا أنفاً معناها أي لا معبود بحق إلا الله .
الثانية : اليقين المنافي للشك , فلابد في حق قائلها أن يكون على يقين بأن الله سبحانه هو المعبود بحق .
الثالثة : الإخلاص وذلك بأن يخلص العبد لربه سبحانه في جميع العبادات , فلا يصرف شيء من العبادات لغيره - كالأصنام , أو الملائكة , أو الأنبياء , أو الأولياء , أو الجن - أو غير ذلك .
الرابعة : الصدق ومعناه : أن يقولها وهو صادق بحيث يطابق قلبه لسانه , ولسانه قلبه , فإن قالها باللسان فقط بدون إيمان القلب , فهو من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر .
الخامسة : المحبة ومعناها : أن يحب الله عزوجل , فإن قالها بدون محبة الله , فهو أيضاً منافق قال تعالى : ** ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حباً لله **[ البقرة / 165 ] .
السادسة : الانقياد لما دلت عليه من معنى , بحيث يعبد الله وحده وينقاد لشريعته , فلا يكون مستكبراً عن العبادة كما استكبر إبليس عن طاعة الله .
السابعة : القبول لما دلت عليه من إخلاص العبادة لله , وترك عبادة ما سواه راضياً بذلك .
الثامنة : الكفر بما يعبد من دون الله . أي : يتبرأ من عبادة غير الله , ويعتقد أنها عُبدت بالباطل , كما قال تعالى : ** فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعٌ عليم **[5][ البقرة / 256 ] .

* وأما الفوائد التي تحصل لذاكرها ومرددها فكثيرة جداً . نقل ابن حجي الحنبلي في رسالةٍ له سماها \" الكلام المُنقى مما يتعلق بكلمة التقوى \" عن صاحب كتاب \" فاكهة القلوب والأفواه \" أنه قال : (
فمنها الزهد , ونعني به خلو الباطن من الميل إلى فان .
ومنها التوكل , وهو ثقة القلب بالوكيل الحق سبحانه وتعالى .
ومنها الحياء , بتعظيم الله عز وجل بدوام ذكره , والتزام امتثال أمره ونهيه .
ومنها الشكر , وهو إفراد القلب بالثناء على الله تعالى , ورؤية النعم في طي النقم )
ثم قال ابن حجي مستدركاً عليه : ( قلت : ومنها أنها تعصم الدم والمال لمن قالها إلا بحقها )[6] .

* وأما فضائلها فقد عقد الحافظ زين الدين ابن رجب , فصلاً يبلغ (13) صفحة في كتابه \" التوحيد أو تحقيق كلمة الإخلاص \" وسوف أذكر بعضها باختصار :
1/ هي نجاة من النار .
2/ توجب المغفرة .
3/ أحسن الحسنات .
4/ تمحو الذنوب والخطايا .
5/ تجدد ما درس من الإيمان في القلب .
6/ لا يعدلها شيء في الوزن .
7/ تخرق الحُجب كلها حتى تصل إلى الله عزوجل إذا قالها القائل .
8/ ينظر الله إلى قائلها ويجيب دعاه إذا كان قالها مخلصاً .
9/ أفضل ما قاله النبيون .
10/ أفضل الذكر .
11/ أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفاً في الأجر وتعدل عتق رقبة وتكون حرزاً من الشيطان .
12/ أنها أمان من وحشة القبر وهول الحشر .
13/ شعار المؤمنين إذا قاموا من القبور .
14/ أن قائلها لا يخلد في النار[7].

* وأما نواقضها فكثيرة جداً حتى قيل أنها تبلغ (400) ناقض[8] لكن أهمها وأخطرها عشرة نواقض , وهي :
1/ الشرك بالله , كالذبح للجن وللأولياء - مثل ما كان يُعمل في الجاهلية للأصنام - .
2/ من جعل بينه وبين الله وسائط , يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم .
3/ من لم يُكفر المشركين , أو شك في كفرهم , أو صحح مذهبهم .
4/ من أعتقد أن هدي غير الرسول صلى الله عليه وسلم , أكمل من هديه , أو أن حكم غيره أحسن من حكمه - كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكم الشرع - .
5/ من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به - كمن يبغض القرآن أو السنة - .
6/ من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم , أو ثوابه - كنعيم الجنة - أو عقابه - كالآخرة وما فيها من أنواع العذاب - .
7/ السحر , والصرف , والعطف .
8/ مناصرة المشركين والكفار على المسلمين .
9/ من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة الرسول - كما فعل الخضر مع موسى - .
10/ الإعراض عن تعلم دين الله فلا يتعلمه ولا يعمل به[9].

-------------------------------
1/ راجع حاشية الأصول الثلاثة لعبد الرحمن بن قاسم ، دار الزاحم ، الرياض .
2/ نفس المصدر السابق .
3/ الدرر النقي في شرح ألفاظ الخرقي , ج2 ص 212 يوسف بن حسن بن عبد الهادي ، دار المجتمع ، جدة .
4/ المطلع على أبواب المقنع ، ص81 لمحمد بن أبي الفتح البعلي ، المكتب الإسلامي ، بيروت .
5/ راجع فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ( باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ) للشيخ عبد الرحمن بن حسن , ومجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز جمع الدكتور عبد الله الطيار , ج1 ص 229 طبعة دار الوطن .
6/ نقلته بتصرف يسير من مجموع الرسائل والمسائل النجدية , ج5 ص858 جمع الشيخ محمد رشيد رضا , وأعاد طباعتها مع الفهارس الدكتور عبد السلام آل عبد الكريم – رحمهما الله - .
7/ كل هذه الفضائل ذكر لها الحافظ ابن رجب أدلة من القرآن والسنة الصحيحة , لكني اكتفيت بذكرها باختصار , ومن أرد الزيادة فليراجع أصل الكتاب .
8/ راجع في ذلك كتاب الإعلام بقواطع الإسلام لأبن حجر الهيتمي الشافعي ، وكتاب ألفاظ الكفر لبدر الرشيد الحنفي ، و رسالة في ألفاظ الكفر لقاسم الخاني ، ورسالة في ألفاظ الكفر لتاج الدين أبي المعالي الحنفي ، وقد جمع هذه الكُتب , الدكتور محمد الخميس في كتاب واحد سماه \" الجامع في ألفاظ الكفر \" , وهو مطبوع في دار إيلاف الدولية بالكويت .
9/ راجع دروس في شرح نواقض الاسلام ، للشيخ صالح بن فوزان الفوزان ، دار أطلس الخضراء , الرياض .

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 09:48 PM   #3
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط الأول : العلم المنافي للجهل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ) ( النساء/1) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( الحشر/18) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون ) ( آل عمران/102 ) أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ..
عباد الله أفضل كلمة تقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، روي أبو ذر رضِي الله عنه أن رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال : ( مَا مِنْ عَبْدٍ قَال لا إِلهَ إِلا اللهُ ثُمَّ مَاتَ على ذَلكَ إِلا دَخَل الجَنَّةَ ) وهو حديث صحيح رواه البخاري ، وروي أيضا أن النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال لمُعاذ بْنَ جَبَلٍ رضِي الله عنه : ( مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلبِهِ إِلا حَرَّمَهُ اللهُ على النَّارِ ) .
لا إله إلا الله كلمة التوحيد ، تلك الكلمة التي كان المشركون يعلمون أبعادها ويفهمون مرادها ، وشق عليهم أن يشهدوا بها لأنهم كانوا يدركون أن قولها يغير معالم الحياة ، لا إله إلا الله تعني عندهم أنه لا معبود بحق سواه ، فلا يخضع العبد عن حب إلا لربه وهمه في الحياة ابتغاء قربه ، يخافه ويرجوه ويحبه ويدعوه .
كثير من الناس يظنون أنهم سيدخلون الجنان ولا يعذبون في النيران بمجرد قولهم لا إله إلا الله ، ويحتجون بقول رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : ( مَا مِنْ عَبْدٍ قَال لا إِلهَ إِلا اللهُ ثُمَّ مَاتَ على ذَلكَ إِلا دَخَل الجَنَّةَ ) ولم يعلم هؤلاء أن شهادة التوحيد إن لم يحقق العبد شروطها ويستوفي أركانها فهي مجرد كلمة خرجت من اللسان ، أو نطق بها أعجمي لا يفهم القرآن ، قيل للحسن بن على رضي الله عنه : إن أناسا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال : من قال لا إله إلا الله فأدي حقها وفرضها دخل الجنة .
وقال الحسن بن على للفرزدق وهو يدفن امرأته : ما أعددت لهذا اليوم ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة ، قال الحسن : نعم العدة ، لكن اعلم أن لا إله إلا الله لها شروط ، فإياك وقذف المحصنة ، وقيل للحسن أيضا : إن أناسا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال : من قال لا إله إلا الله فأدي حقها وفرضها دخل الجنة .
وقال وهب لمن سأله : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال : بلي ، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح المفتاح لك .
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما عزم أبو بكر على قتال مانعي الزكاة ، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : الزكاة حق المال ، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ) ففهم عمر وجماعة من الصحابة أن من أتي بالشهادتين امتنع من عقوبة الدنيا بمجرد ذلك فأرادوا أن يتوقفوا في قتال مانع الزكاة ، وفهم أبو بكر الصديق أن لها حقوقا لا تمنع القتال إلا بأدائها لقوله صلي الله عليه وسلم : ( فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) ، فلما قرر أبو بكر رضي الله عنه هذا الأمر للصحابة رجعوا إلي قوله ورأوه صوابا ، قال عمر رضي الله عنه :
( فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله تعالى قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم فعرفت أنه الحق ) ، فوقف الجميع مع أبي بكر في قتال المرتدين ومانعي الزكاة حتى نصرهم الله وأعز دينه .
فوجب على من أراد النجاة أن يلتزم بشروط لا إله إلا الله حتى يسلم في دينه ودنياه ، فإذا كنت يا عبد الله ترغب في توحيد الله بيقين وصدق وعقيدة حق ، فاعلم أن شروط لا إله إلا الله التي وردت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلي الله عليه وسلم ثمانيةُ شروط ، لا يصح قول اللسان ولا يصلح ركن من أركان الإيمان إلا بها : أولها العلم المنافي للجهل ، ثم اليقين المنافي للشك ، ثم الإخلاص المنافي للشرك ، ثم الصدق المنافي للكذب ، ثم المحبة التي تنافي البغض ، ثم القبول الذي ينافي الرد ، ثم الانقياد الذي ينافي الترك ، والثامن من هذه الشروط هو الكفر بما يعبد من دون الله ، وقد أحسن من جمعها وعدها وحصرها في هذين البيتين فقال :

علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها
وحديثنا بإذن الله في محاضرة اليوم عن أول شرط من هذه الشروط ، وهو العلم المنافي للجهل ، فالعلم بلا إله إلا الله أساس الإسلام ومبدأ الكلام ، وهو مقدم على القول والعمل ، ولذلك قال الإمام البخاري بَاب العِلمُ قَبْل القَوْل وَالعَمَل لقَوْل اللهِ تعالى : ( فَاعْلمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا الله) فَبَدَأَ بِالعِلمِ ، فالعُلمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَقَال جَل ذِكْرُهُ : ( إِنَّمَا يَخْشَي اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلمَاءُ ) ، ولما عذب الله الكافرين والمشركين في جهنم سألهم خزنتها : ( أَلمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلي قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) اعترفوا بذنبهم وأنهم المتسببون في جهلهم ، والسؤال الذي يتردد على الأذهان والذي يطرح نفسه الآن : كيف يكون العلم شرطا من شروط لا إِلهَ إِلا اللهُ ؟
والجواب على ذلك أنه إذا قال المرء لا إِلهَ إِلا اللهُ ، فهذا معناه أنه لا معبود بحق إلا الله ، والعبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل ، فالمسلم بقوله لا إِلهَ إِلا اللهُ قد أعلن أنه سيخضع لله عن حب وتعظيم ، وطاعة وتسليم ، يسلم نفسه لمعبوده ويعمل في تحقيق مطلوبه .
فلو أرسل المعبود رسالة لعبيده الصادقين في عبادته ، بين فيها أحكام شريعته ، وأصول طاعته ، وبين فيها ماذا نفعل حتى نصل إلي قربه ومحبته ، وماذا نترك حني نفوز بجنته ، فلو كان العبد صادقا في شهادته أنه لا إِلهَ إِلا اللهُ وأن محمدا رسول الله ، لبذل كل ما في استطاعته واجتهد بكل طاقته لكي يطلع على هذه الرسالة ويتمكن من قراءتها ويدقق في مادتها ، حتى لو كان مسلما أعجميا أميا ، لبحث عن متخصص في اللغات يترجم له ما جاء في الوحي من كلمات ، طالما أن هذه الرسالة فيها النجاة من غضب الله ، وفيها القرب من حبه ورضاه ، فكلمة التوحيد عقد بينك وبين الله ، التزمت به يوم قلت أشهد ألا إِلهَ إِلا اللهُ وأن محمدا رسول الله وهو خير عقد يجب على المسلم أن يوفي فيه بالتزاماته ويؤدي ما عليه من واجباته ، لقول الله تعالى في محكم آياته : ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) .
وإذا كان كل عقد بين البشر له قواعد وأحكام ، وشروط جزاء يضعونها للالتزام ، وكان كل إنسان قبل أن يوقع على أي عقد يقرأ شروطه بإمعان وإتقان ، فحري بالمسلم الصادق في إسلامه ، أن يعرف مضمون العقد الذي بينه وبين الله ، عندما شهد ألا معبود بحق سواه ، ولذلك أوجب الله علينا السؤال فقال : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
· وهناك أمران لازمان لمعرفة الإنسان عقد التوحيد وصدقِ شهادة العبيد أنه لا إله إلا الله :
الأمر الأول : معرفة الأسماء وحدودِ الأشياء والعلمُ بخصائصها ، والإنسان منا يكتسب هذا العلم تلقائيا في حياته إلي يوم وفاته ومماته ، لكن الله من عدله وحكمته ومن فضله ورحمته أنه لا يكلف إنسانا في طفولته ، كما قال نبينا المصطفي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : ( رُفِعَ القَلمُ عَنْ ثَلاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حتى يَشِبَّ وَعَنِ المَعْتُوهِ حتى يَعْقِل ، وفي رواية رُفِعَ القَلمُ عَنْ الغُلامِ حتى يَحْتَلمَ ) ، وهو حديث صحيح رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني .
وبنو آدم يكتسبون معرفة الأسماء ويتعلمون حدود الأشياء من العالم المحسوس بعد ولادتهم ، فيتعلمون ذلك شيئا فشيئا ، ومن عجيب الصنعة وكمال الخلقة ، أن الله سبحانه وتعالي أوجد في الإنسان جهازا متكاملا للإدراك والتمييز ، يشبهه إلي حد كبير جهاز الكمبيوتر ، حيث يشتمل على عقل الكتروني لتحليل المعلومات ، ويشتمل أيضا على وسائل لإدخال البيانات ، ووسائل أخرى لحفظ الملفات ، ويشتمل على أدوات لإخراج المعلومات من الجهاز ، فالله وله المثل الأعلى خلق الإنسان وعلمه البيان ، نزل الإنسان من بطن أمه مؤهلا للعلم ، صالحا للتمييز والفهم ، يقبل أي برنامج للحياة ، والسعيد من وفقه الله إلي برامج الشرع فحملها في قلبه ، واستحضرها في عقله واستضاء بنور الله كما قال تعالي : ( إِنَّا خَلقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) ، وقال : ( وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلمُونَ شَيْئًا وَجَعَل لكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لعَلكُمْ تَشْكُرُونَ ) .
أوجد للإنسان عقلا في القلب يقوم بتمييز المعلومات وتخزينها ، وأوجد له حواسا لإدخال المعلومات وإخراجها ، فالسمع والبصر وبقية الحواس ، وسائل خلقها الله لتجميع المعلومات ، وهي أيضا وسائل لإظهار البيانات ، والناس يتعلمون الأسماء ويعرفون الأشياء شيئا فشيئا ، فربما يتعلم الطفل الصغير في ساعة واحدة أو بضعِ ساعات كلمة واحدة أو بضع كلمات ، كل يوم يزداد علمه وتقوى معرفته للأسماء وتمييز الأشياء ، فيقال له : هذه هرة وهذه جرة وهذه بقرة وهذه شجرة إلي غير ذلك من الأسماء ، ويبين له أن لماذا فعلنا هذا ، وهذا يصلح لهذا ، وهذا لا يصلح لذاك ، حتى يصل عند البلوغ إلي حصيلة علمية ، تكفي لتكليفة بالأحكام الشرعية ، وإدراك الغاية من هذه الحياة وكيف يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا .
ومن العجيب أن العلم الذي يحصله الإنسان في سنوات ، علمه الله لآدم عليه السلام في لحظات ، فتعلم الأسماء وخصائص الأشياء مرة واحدة ، ونزلت المعلومات بقدرة الله على قلبه دفعة واحدة ، فقال تعالى : ( وَعَلمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ فَقَال أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلمَ لنَا إِلا مَا عَلمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَليمُ الحَكِيمُ قَال يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَال أَلمْ أَقُل لكُمْ إِنِّي أَعْلمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) (البقرة/31) .
فآدم عليه السلام تعلم الأسماء وخصائص الأشياء مرة واحدة ، وكذلك فعل الله بعيسي عليه السلام بعد نزوله من بطن أمه وبعد ادعاء قومة أنه ولد من الزني ، تجمعت الكلمات بقدرة الله في لحظات ، وأدركها عيسي عليه السلام بعقله واستوعبها بقلبه حتى اجتمع البيان لديه ونزلت حكمة الله عليه ، فلما أشارت أمه إليه ( قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ على يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) .
سبحان الله أطفل صغير ينطق بهذه الكلمات ؟ ويعرف كل هذه المعلومات ويفهم لوازم العبارات ( إِنَّ مَثَل عِيسَي عِنْدَ اللهِ كَمَثَل آدَمَ خَلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، ( ذَلكَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَي أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، فالله عز وجل قادر على أن يعلم الناس ما يشاء كما قال سبحانه وتعالي : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ ) البقرة ، ولكنه من حكمته جعل العلم بين الناس درجات ، وجعل طلبه نوعا من أنواع الابتلاءات ، ليجتهد الناس في جمعه وتحصيله ، ويتعرفوا على الشيء بدليله ، وليعلموا منزلة الأنبياء ، وأهمية الوحي الذي نزل من السماء ، ولذلك كان أكثر الناس خشية لله هم العلماء كما قال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَي اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلمَاءُ ) فاطر/28 .
فآيات القرآن أثبتت للإنسان جهازا للإدراك شاملا متكاملا أساسه في القلب ، أول مهامه إدراك الأشياء ومعرفة الأسماء ، وتمييز خصائصها والتعرف على أوصافها ، يقول تعالى : ( أَفَلمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَي الأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَي القُلُوبُ التِي فِي الصُّدُورِ ) ، وقال أيضا ً: ( وَلقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الجِنِّ وَالإِنسِ لهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلئِكَ كَالأَنْعَامِ بَل هُمْ أَضَلُّ أُوْلئِكَ هُمْ الغَافِلُونَ ) .
وقد أمر الله عبادة باستخدام هذا الجهاز الإدراكي في النظر إلي الإبداع الكوني ، والتأمل في خلق السماوات والتفكر في سائر المخلوقات ، ( إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
وقال تعالى : ( أَفَلمْ يَنْظُرُوا إِلي السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَي لكُل عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ وَالنَّخْل بَاسِقَاتٍ لهَا طَلعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا للعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلدَةً مَيْتًا كَذَلكَ الخُرُوجُ ) .
وقال أيضاً : ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلي الإِبِل كَيْفَ خُلقَتْ وَإِلي السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلي الجِبَال كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلي الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) .
· الحق سبحانه وتعالي يدعوا عباده إلي توحيد الربوبية بطريقين اثنين :
أحدهما : النظر في آياتة الكونية ، والمخلوقات المرئية ، بما في ذلك النفس البشرية ، فهي في حقيقتها صفحات كونية وأدلة عقلية في كتاب الله الكوني ، ودور الإنسان الذي أمر الله به في القرآن هو التفكر والاعتبار والنظر في الآثار ، فالأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير ، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير ، فدور العقل هنا البحث في المخلوقات وما فيها من حكم وآيات ، فإن المفعولات دالة على الأفعال ، والأفعال دالة على الصفات ، فالمفعول يدل على الفاعل ، والمخلوق يدل على الخالق ، وذلك يدل باللزوم على وجود الله وقدرته وعلمه ومشيئته .
ثم ما في المخلوقات من أنواع التغييرات ، وما فيها من تنوع في الأشكال والجمال والحسن والكمال ، يدل على وجود إرادة للحق في إدارة الملك ، كما أن ما فيها من المصالح والغايات والحكم البينات الواضحات ، يدل على حكمته وإتقان صنعته ، وغير ذلك مما دعانا الله تعالى إلي النظر فيه فقال سبحانه تعالى : ( إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ التِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَل اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُل دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) البقرة/164.
أما الطريق الثاني لمعرفة ربوبية الله على خلقه وانفراده بتدبير ملكه ، فهو التفكر في آياتة المسموعة وكلماته المقروءة التي وردت في كتاب الله كما قال جل في علاه : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) محمد/24 ، وقال سبحانه : ( كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ إِليْكَ مُبَارَكٌ ليَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَليَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلبَابِ) ، فالله عز وجل جعل الآيات الكونية المرئية في الآفاق وفي النفس البشرية ، جعلها دليلا على صدق الآيات القرآنية والنبوية فقال تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُل شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُل شَيْءٍ مُحِيطٌ ) .
أما الأمر الثاني : اللازم للإنسان في عقد التوحيد وأخذ العهد على العبيد عند شهادتهم ألا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه ، أن يعلم الإنسان ما جاءت به الرسالة السماوية من أحكام شرعية وهداية دينية ، فالله عز وجل بعد أن علم آدم الأسماء كلفه بافعل ولا تفعل فقال : ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شئتمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالمِينَ ) وبعد أن أنزله من السماء كلفه أيضا بافعل ولا تفعل فقال : ( اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًي فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَي وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَي قَال رَبِّ لمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَال كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلكَ اليَوْمَ تُنسَي ) طه/123: 126 .
وهكذا لا يكلف الله عبيده أمرا ولا يكتب عليهم وزرا ، إلا إذا بلغ العبد سن الاحتلام واستوعب المعني الذي ورد في الكلام ، وأدرك شيئا من رسالة الإسلام ، فقد ثبت مرفوعا أنه قد رُفِعَ القَلمُ عَنْ الغُلامِ حتى يَحْتَلمَ ، وعن النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ المَعْتُوهِ حتى يَعْقِل ، وقال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا ) .
واعلم عبد الله أن الرسالة السماوية جاءت بأحكام شرعية تسمي أحكام العبودية ، يجب على كل مسلم نطق بلا إله إلا الله أن يسأل عنها ، وأن ينفذ ما علم منها ، وهي خمسة أحكام احفظها واسأل أهل العلم عنها ، وهي الواجبات والمحرمات ، ثم بعد ذلك المستحبات والمكروهات ، ثم ما خيرنا الله فيه من أنواع المباحات ، فالعلم بالإرادة الشرعية المتمثلة في أحكام العبودية من وظائف أجهزة الإدراك البشرية ، فجهاز الإدراك في الإنسان يمد القلب بالعلم وما ورد من أدلة الحكم ، فالقلب هو محل الإرادة في الإنسان ، والمؤمن إرادته مطابقة لما ورد في القرآن ، ومن ثم تتحرك الأبدان في طاعة الله عز وجل .
وكلما ازداد المسلم علما بالله كلما علت خشيته وازدادت محبته ، وظهرت سكينته وبانت حكمته وتواضع لخلق الله ، فالعلماء هم ورثة الأنبياء ، ( إِنَّمَا يَخْشَي اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلمَاءُ ) فاطر/28 ، وقال النبي صلي الله عليه وسلم : ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما العلم بالتعلم ) .
واعلم عبد الله أن كمال العلم بالله يكمن في معرفة خمسة أشياء : أولها معرفة الخالق تبارك وتعالي وهو العلم بتوحيد الربوبية وثانيها معرفة أسمائه وصفاته وهو العلم بتوحيد الأسماء والصفات ، وثالثها معرفة الطريق الموصل إلي الله وهو العلم بتوحيد العبودية ، ورابعها معرفة عوائق الطريق وآفاته ، وهو الشرك بجميع أنواعه وتقسيماته وخطوات الشيطان وشبهاته ، وخامسها معرفة النفس وعيبوبها ، والصبر على مداواتها من آفاتها ، والاستعانة بالله في حفظها على منهج العبودية والتوحيد .
ذكر العلامة ابن القيم أن حياة القلب وصحتة لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره ، وذلك لأن القلب فيه قوتان : قوة العلم والتميز ، وقوة الإرادة والحب ، فكمال القلب وصلاحه في استعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بالسعادة في الدنيا والآخرة ، فيستعمل قوة العلم في إدراك الحق ومعرفتة والتمييز بينه وبين الباطل، ويستعمل قوة الإرادة والحب في طلب الحق ومحبتة وإيثاره على الباطل ، فمن لا يعرف الحق كان من أهل الضلال ، ومن عرفة وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ، ومن عرفة واتبعه فقد أنعم الله عليه ، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالي أن نسأله في صلاتنا أن يهديَنا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل ، وكان اليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد ، وهذه الأمة أطاعت ربها ووحدت معبودها كما قال الله عز وجل : ( وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُول فَأُوْلئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالحِينَ وَحَسُنَ أُوْلئِكَ رَفِيقًا ) النساء .
وهنا مسألة طالما اختلف فيها الناس ، وتسبب الجهل بها في الخلط والتخبط والالتباس ، إنها مسألة العذر بالجهل ، فهل الجاهل معذور بجهله أم أنه مسئول على فعله ؟ والناس في هذه المسألة طرفان ، فمن قائل معذور ومن قائل مسئول ، قول يقول لا يعذر الإنسان في ارتكاب العصيان عن جهل ، وقول يقول يعذر الإنسان وإن كان معرضا عن العلم ومعرفة الحكم ، ومذهب الحق في هذا الموضوع هو مذهب السلف والوسطية ، المذهب الذي يجمع بين الأدلة القرآنية والنبوية ، فالحق سبحانه وتعالي لا يعذب الناس إلا بعد إنذارهم وإعلامهم برسالة السماء ، كما قال تعالى في سورة الإسراء : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) الإسراء /15.
فلا يعذب الله أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة ، وإعراضه عن الهداية إلي الضلالة ، لئلا يكون له حجة على الله في نفي العدالة ، فقال تعالى : ( وَقَالُوا لوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولي وَلوْ أَنَّا أَهْلكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلهِ لقَالُوا رَبَّنَا لوْلا أَرْسَلتَ إِليْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْل أَنْ نَذِل وَنَخْزَي قُل كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى ) .
فإن أرسل الله إلي الناس رسالته وأدركوا بعقولهم حجته ، ثم أعرضوا عنها وتملصوا منها ووقعوا في الجهل بتكذيبهم وإعراضهم ، كان كفرهم كفر جهل وتكذيب ، كما ثبت عن نبينا الحبيب في الحديث الذي رواه الإمام مسلم بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَّهُ قَال : ( وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلمْ يُؤْمِنْ بِالذِي أُرْسِلتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) ، وقال سبحانه وتعالي : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُل أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حتى إِذَا جَاءُوا قَال أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ القَوْلُ عَليْهِمْ بِمَا ظَلمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ ) ، وقال جل جلاله : ( بَل كَذَّبُوا بِمَا لمْ يُحِيطُوا بِعِلمِهِ وَلمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالمِينَ ) .
قال تعالى : ( كُلمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلهُمْ خَزَنَتُهَا أَلمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلي قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) الملك .
فهؤلاء الكفار لولا أن الحجة بلغتهم ما اعترفوا بذنبهم أو أقروا بحمقهم ، فأعراضهم عن الرسالة بالكلية أدي إلي كفرهم وإن جهلوا محتواها ولم يفهموا معناها ، ولذلك وقعوا في كفر الجهل والتكذيب ، وهو أول أنواع الكفر بالله ، فتجد العبد يعرض عن الله عند أول سماعه للدليل ، ويكذب بالحق حتى لو ورد في التنزيل ، يغلق قلبه وعقله ويوقف نظره وفكره ، روي البخاري من حديث ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلي كِسْرَي مَعَ عَبْد ِاللهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلي عَظِيمِ البَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلي كِسْرَي فَلمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ ، مزقه دون تفكر أو سؤال أو نظر واستدلال ، وقد ورد في الحديث أن عبد الله بن عباس قال : فَدَعَا عَليْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُل مُمَزَّقٍ .
فالإنسان مسئول عن السبب في جهله ، فإن كان الجهل من كسبه وفعله ، وإعراضه وكبره ، فهو محاسب على كل معصية وقع فيها بجهله ، سواء كانت المخالفة مخالفة عظيمة تؤدي إلي الخلود في النار ، أو كانت المخالفة كبيرة تحت مشيئة الواحد الجبار ، إن شاء غفرها لعبده وإن شاء عذبه بذنبه .
أما إذا انقطعت به الأسباب وانسدت في وجهه الأبواب ، ولم يتمكن من معرفة ما نزل في الكتاب بعد الطلب والبحث والسؤال ولم يعص الله فيما قال : (فَاسْأَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ ) (النحل:43) ، فهو باتفاق معذور بجهله لا يؤاخذ على ذنبه لأن الجهل ليس من كسبه ، بل هو من تقدير الله وفعله ، وقد قال سبحانه وتعالي : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا ) .
فلو ضربنا مثلا لذلك وفرضنا أن رجلا من المسلمين لقلة علمه وقع في معصية بجهله فاحتار في نفسه ، وتساءل أهي معصية لله أم لا ، فعزم الأمر على أن يسأل أهل الذكر ، حتى ولو كانوا على مسافة بعيدة تتطلب شد الرحال ، وفي الطريق دهمته سيارة ومات في الحال ، مات هذا الشخص على المعصية بجهله ، أيقول عاقل إنه مؤاخذ على ذنبه قبل علمه ؟ فالموت من تقدير الله وفعله ، والجهل الذي وقع فيه هذا الشخص ليس من فعله وكسبه ، فنيته التي مات عليها أن يطيع الله إذا علم الحكم الذي ورد في كتاب الله ، وقد سمع عُمرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِي الله عَنْه رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ : ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكُل امْرِئٍ مَا نَوَي ) .
واعلم عبد الله أنه لا أحد أحب إليه العذر من الله ، فمن حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال : ( ليْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِليْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَل مِنْ أَجْل ذَلكَ مَدَحَ نَفْسَهُ وَليْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْل ذَلكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ وَليْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِليْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْل ذَلكَ أَنْزَل الكِتَابَ وَأَرْسَل الرُّسُل ) ، وفي رواية البخاري من حديث المُغِيرَةِ : ( وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِليْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ وَمِنْ أَجْل ذَلكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ وَالمُنْذِرِينَ ) .
فالجاهل من المسلمين بعد الطلب والسؤال ، إن لم يصل إلي العلم بالحكم في مسألة ما ، فهو معذور بجهله في هذه المسألة ، وإن كان محاسبا على غيرها مما ألم بحكمها ، وخلاصة القول في مسألة العذر بالجهل أن الجاهل معذور بجهله إن لم يكن الجهل من كسبه وفعله ، وذلك من كمال عدله وفضله سبحانه وتعالي .
روي الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن زيد بن عمرو بن نفيل سافر إلي الشام يسأل عن الدين الحق ويبتغي اتباعه ، وكان ذلك قبل مبعث النبي r فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينه ، وقال : أخبرني عن دينكم لعلى أدين به ؟ قال اليهودي : إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله ؟ قال : وهل أفر إلا من غضب الله ؟ والله لا أحمل من غضب الله شيئا أبدا ، فهل تدلني على دين ليس هذا فيه ؟ قال : ما أعلم إلا أن تكون حنيفا ؟ قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وكان لا يعبد إلا الله ، فخرج زيد بن عمرو يطلب المزيد ويبحث عن القول السديد ، حتى لقي عالما من النصارى ، فسأله عن دينه ، وقال : أخبرني عن دينكم لعلى أدين به ؟ فقال له عالم النصارى : إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله ؟ فقال : والله لا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا ، فهل تدلني على دين ليس هذا فيه ؟ فقال له: لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا ، فعاد زيد إلي مكة وقد رضي بما أخبروه واتفقوا عليه من دين إبراهيم عليه السلام ، فلما برز زيد إلي أهل مكة رفع يديه إلي السماء قائلا : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم .
وروي البخاري أيضا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِي الله عَنْهمَا أنها قَالت : ( رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلي الكَعْبَةِ يَقُولُ : يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللهِ مَا مِنْكُمْ على دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي وَكَانَ يُحْيِي المَوْءُودَةَ يَقُولُ للرَّجُل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُل ابْنَتَهُ : لا تَقْتُلهَا أَنَا أَكْفِيك مَئُونَتَهَا ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَال لأَبِيهَا إِنْ شئت دَفَعْتُهَا إِليْكَ وَإِنْ شئت كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا ) .
وقد ذكر الواقدي أن زيد بن عمرو بن نفيل آمن برسول الله r قبل مبعثه وقال لعامر بن ربيعة رضي الله عنه : ( يا عامر إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان ، كانا يصليان إلي هذه القبلة ، وأنا انتظر نبيا من بني إسماعيل يبعث ولا أراني أدركه وأنا أومن به وأصدقه ، وأشهد أنه نبي فإن طالت بك الحياة يا عامر فأقرئه مني السلام ، قال عامر بن ربيعة : فلما أسلمت أعلمت النبي صلي الله عليه وسلم بخبره ، فرد عليه السلام وترحم عليه ، وقال : زيد بن عمرو يبعث يوم القيامة أمة وحده ، ولقد رأيته في الجنة يسحب ثوبه وذيوله ) .
فهذا الرجل لم يقصر في البحث والسؤال لدي العلماء ، وإن مات قبل أن يدرك رسالة السماء التي نزلت على سيد الأنبياء فقد آمن بالنبي صلي الله عليه وسلم قبل مبعثه ، وآمن بكل أحكام العبودية وإن لم يدرك ماهية الأحكام الشرعية ، فأخذ حكم من اتبع النبي ومات على دربه وكان من أتباعه وحزبه .
ويجب على على إخواننا الدعاة أن يعلموا أن أغلب المسلمين يجهلون الجزء الأكبر من أحكام العبودية ، وأنهم لو علموا وفهموا لأطاعوا ربهم لأنهم يرغبون في حبه وقربه ، فهم يحبون لا إله إلا الله ويشهدون أن محمدا رسول الله ، ولذلك فإن من الحكمة والفطنة الرأفة بهم والأخذ بأيديهم إلي العلم بأحكام الله ، لاسيما في المسائل المتعلقة بتوحيد الإله ، دون الحكم عليهم قبل سابق إنذار ، أو تكفيرهم وإخراجهم من الملة إلي الخلود في النار .
كما ينبغي أن يُعلم أن الله إذا أخبرنا عن إنسان أنه في النار ، فيجب أن ندرك يقينا أن الحجة بلغته وأن الرسالة وصلته ، لأن ذلك لازم للعدل الإلهي ، فالله لا يعذب أحدا إلا بسابق إنذار ، وقد حاول بعض الناس بجهلهم وحبا في نبيهم أن يرد حديث أَنَس بن مالك رضي الله عنه الذي رواه الإمام مسلم بسنده عن النبي صلي الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلا قَال يَا رَسُول اللهِ أَيْنَ أَبِي قَال فِي النَّارِ فَلمَّا قَفي دَعَاهُ فَقَال إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ ، وكذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال :
( اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلمْ يَأْذَنْ لي وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لي ) ، فالحديثان صحيحان وثابتان عن المصطفي صلي الله عليه وسلم ، ويدلان بلا لبس أو غموض على أن والد النبي صلي الله عليه وسلم وأمه في النار وأنهما ماتا على الشرك بالله ، وهذا يدل يقينا على أن الحجة وصلتهم وأن رسالة التوحيد بلغتهم ، وإن كنا لا نعلم كيف وصلتهم أو بلغتهم ، ولا يحتاج الأمر إلي تأويل ، أو خروج عن الدليل ، أو الكذب على رسول الله صلي الله عليه وسلم في أن الله أحيا أباه وأمه فآمنا به ثم ماتا ، أو ندعي لأنفسنا أننا نحب أباه وأمه أكثرَ منه صلي الله عليه وسلم .
وقد يسأل سائل ويقول : هل يلزمني لكي أحقق شرط العلم الذي هو من شروط لا إله إلا الله ، أن أتعلم كل صغيرة وكبيرة في الدين ؟ وأن أترك عملي لأسلك سبيل المتعصبين المتشددين ؟ والجواب على ذلك سهل ويسير على من هداه اللطيف الخبير ، لم يأمر الإسلام أحدا أن يترك عمله ويتواكل على غيره ، ودين الله يسر لا سبيل فيه للمتعصبين والمتشددين ، ولكن المطلوب منك أن تسأل المتخصصين عما يظهر لك في حياتك من أحكام ، لأنك بقولك لا إله إلا الله عاهدت الله على الالتزام ، عاهدته على أن تنفذ أمره إذا علمته ، وأن تصدق خبره إذا عرفته ، فإن سمعت آية يأمرك الله فيها بفعل معين ، فواجب عليك الطاعة لرب العالمين ، وإن سمعت آية يخبرك الله فيها عن شيء من الغيبيات ، وجب عليك التصديق الذي يبلغ حد اليقين ، ولن يستطيع إنسان بمجرد إسلامه أن يتعلم الفقه بكل أحكامه ، ولكنه مع كثرة السؤال والاستفسار ، يزداد علمه بربه ، وتنمو المعرفة في قلبه ، ومن زادت معرفته بالله ازدادت هيبته ، ونما وقاره وازدادت سكينته .
وشرف لك أيها المسلم أن تتعلم الفقه في الدين ، وأن تطلب العلم على أيدي العلماء الراسخين ، فقد ثبت عن سيد الأنبياء والمرسلين أنه قال : ( مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ ) ، ومن حديث أَبِي أُمَامَةَ البَاهِليِّ رضي الله عنه قَال : ذُكِرَ لرَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ رَجُلانِ ، أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالمٌ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : ( فَضْلُ العَالمِ على العَابِدِ كَفَضْلي على أَدْنَاكُمْ ، ثُمَّ قَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْل السماوات وَالأَرَضِينَ حتى النَّمْلةَ فِي جُحْرِهَا وَحتى الحُوتَ ليُصَلُّونَ على مُعَلمِ النَّاسِ الخَيْرَ ) ، وهو حديث صحيح رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني .
وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال : تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار السبيل لأهل الجنة ، وهو الأنيس في الوحشة ، والصاحب في الغربة ، والمحدث في الخلوة ، والدليل على السراء والضراء ، وهو السلاح على الأعداء ، وزينة الأخلاء ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة ، وأئمة تُقْتَص آثارهم ، ويقتدي بأ فعالهم ، وينتهي إلي رأيهم ، ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم ، ويستغفر لهم كل رطب ويابس ، وحيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وأنعامه ، لأن العلم حياة القلوب من الجهل ، ومصابيح الأبصار من الظلم ، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار ، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة ، به توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال من الحرام ، وهو إمام العمل والعمل تابعه ، يلهم الله العلم للسعداء ، ويحرم منه الأشقياء .
وقال وهب : العلم يتشعب منه عدة خصال ، الشرف وإن كان صاحبه دنيا ، والقرب وإن كان صاحبه قصيا ، والغني وإن كان فقيرا والنبل ، وإن كان حقيرا ، والمهابة وإن كان وضيعا ، والسلامة وإن كان سفيها .
وقد كان سلفنا الصالح ، يصنفون الناس في العلم إلي ثلاثة أنواع : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع يتبعون كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يدركوا بركة الفهم ، العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته ، وجميل الذكري بعد وفاته ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وآثارهم موجودة ، وأمثالهم في القلوب محمودة ، يموت العلم بموت حامليه ، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، أولئك هم الأقلون بين الناس عددا ، الأعظمون عند الله قدرا ، حفظوا الله فحفظهم ونصروا الله فنصرهم وشكروه فشكرهم وذكروه فذكرهم أولئك هم أولياء الله المتقون وحزبه الغالبون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وخلاصة شرط العلم ، الشرط الأول من شروط لا إله إلا الله ، دوام السؤال ، عن كل ما يمر به الإنسان من أفعال ، هل فعلها رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أو أمر بها أو أقرها ، وما هو الدليل على ذلك ؟ اسأل في ذلك عالما فقيها ، ولا تسأل أحمقا سفيها ، يدعي العلم والفهم ، فينبغي عليك أن تقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة ، وعرف بالستر والأمانة ، فقد ثبت عن نبينا صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أنه قال : ( إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عن الأصاغر ) ( البركة مع الأكابر ) .
وقال عبد الله بن مسعود : ( لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا ) فاسمع من العالم التقي وانتبه لجوابه وانظر في خطابه ، ولا تفتن بمن يأتيك بكلام غريب ، بعيد عن سنة الحبيب ، فيأتيك بالتأويل والتعطيل أو التحريف والتبديل ، تحت ستار الأقيسة العقلية أو الأصول الكلامية أو المواجيد الذوقية وخرافات الصوفية ، أو قد يقول لك هذا علم لدني قوي ، ويفتيك بكلام عجيب فقل له العلم اللدني في اتباع سنة الحبيب صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فإن علمت الحكم ونور الله بصيرتك بالفهم فاستجب لله كما أمر المؤمنين الموحدين فقال : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَللرَّسُول إِذَا دَعَاكُمْ لمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِليْهِ تُحْشَرُونَ ) .
فيا عبد الله أدعوك إلي أن تحقق شروط لا إله إلا الله أدعوك
- إلي علم تكون به إماما .. مطاعا إن نهيت وإن أمرتا -
وتجلو ما بعينك من غشاها .. وتهديك السبيل إذا ضللتا -
وتحمل منه في ناديك تاجا .. ويكسوك الجمال إذا اغتربتا -
ينالك نفعه ما دمت حيا .. ويبقي ذخره لك إن ذهبتا -
يزيد بكثرة الإنفاق منه .. وينقص به إن كفا شددتا-
فلو قد ذقت من حلواه طعما .. لآثرت التعلم واجتهدتا -
ولم يشغلك عنه هوى مطاع ..ولا دنيا بزخرفها فتنتا -
فرأس العلم تقوى الله حقا ... وليس بأن يقال لقد رأستا -
إذا ما لم يفدك العلم خيرا .. فخير منه أن لو قد جهلتا -
وإن ألقاك فهمك في مهاو .. فليتك ثم ليتك ما فهمتا -
ولا تحفل بمالك واله عنه .. فليس المال إلا ما علمتا-
وليس لجاهل في الناس معني .. ولو ملك الأرض له تأتي -
وما يغنيك تشييد المباني .. إذا بالجهل نفسك قد هدمتا -
لئن رفع الغني لواء مال .. لأنت لواء علمك قد رفعتا -
وإن جلس الغني على الجبال .. لأنت على الكواكب قد جلستا -
وإن ركب الجياد مسومات .. لأنت بمنهج التقوى ركبتا -
فقابل بالقبول صحيح نصحي .. فإن أعرضت عنه فقد خسرتا -

وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 09:51 PM   #4
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط الثاني : اليقين المنافي للشك
الحمد لله الذي يجيب الداعين ويعطي الطالبين ويرضي الراغبين ويرشد السالكين رحيم بالمؤمنين رحمان بالعالمين ، أحمده سبحانه وتعالي وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة نبلغ بها أحسن المآب وأعظم الثواب ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث لتشريع الملة وتوجيه الخطاب ، وإيضاح الأحكام من واجب واستحباب ، وحرام ومكروه ومتروك لذوي الألباب ، صلي الله عليه وعلى آله وصحبة صلاة وسلاما دائمين إلي يوم الحساب .
أتيتك راجيا يا ذا الجلال ففرج ما تري من سوء حالي - عصيتك سيدي ويلي بجهلي وعيب الذنب لم يخطر ببالي
إلي من يشتكي المملوك إلا إلي مولاه يا مولي الموالي - لعمري ليت أمي لم تلدني ولم أغضبك في ظلم الليالي
فها أنا عبدك العاصي فقير إلي رحماك فاقبل لي سؤالي
أما بعد ..
فأعظم نعمة يعطاها العبد ، اليقين المنافي للشك ، ومحاضرة اليوم تدور بإذن الله حول الشرط الثاني من شروط ل إله إلا الله وهو اليقين المنافي للشك ، فإن اليقين هو رأس مال الدين ، وأساس العقيدة عند المؤمنين ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( اليقين الإيمان كله ) .
كيف يكون اليقين هو الإيمان ؟ ذلك لأن الإيمان له ركنان يتعلقان بلغة القرآن ، فلغة القرآن ضربان من الكلام أو نوعان ، أخبار وأوامر ، الخبر ما يحتمل الصدق أو الكذب والأخبار تتطلب التصديق ، والأمر مالا يحتمل الصدق أو الكذب ، الأوامر تتطلب التنفيذ ، والإيمان يتعلق بالأخبار والأوامر ، فالإيمان في باب الأخبار له ستة أركان ، وردت في حديث جبريل عليه الصلاة السلام ، عندما أتي النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ في صورة أعرابي ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَي عَليْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِن الصحابة أَحَدٌ حتى جَلسَ إِلي النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلي رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ وَقَال : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ ؟
فَأخبره عن أركان الإسلام المعروفة ، ثم قال : فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإيمان ؟ قَال : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، قَال جبريل : صَدَقْتَ ، فهذه ستة أركان للإيمان ، تتعلق بتصديق الأخبار وما جاء عن عالم الغيب في القرآن ، فالله أخبرنا في كثير من الآيات عن الأسماء والصفات التي عرفنا فيها بنفسه وأبان لنا عن وصفه ، وكل ذلك من الغيبيات التي تتطلب التصديق الذي يبلغ حد اليقين ، وأخبرنا عن ملائكته وخلقتهم ووصفهم وفعلهم ودورهم الذي يتعلق بالإنسان ، ويتطلب منا الإيمان ، وكذلك أخبرنا عن كتبه ورسله ما عمنا منهم وما لم نعلم ، وليس لنا فيهم إلا الإيمان والتصديق ، وأخبرنا عن اليوم الأخر وما فيه من أحوال وأهوال ، وهذه الأخبار تطلب أيضا التصديق ، وأخبرنا عن القدر خيره وشره وحلوه ومره ، وأنه فعل الله للابتلاء وترتيب الجزاء ، وهذه أخبار تتطلب التصديق وعلم اليقين .
ومن العجيب أن الترتيب النبوي المذكور في الحديث لهذه الأركان اشتمل على السر في حياة الإنسان ، وأصحاب البصيرة يرون هذا السر في ترتيب الأركان مشهودا وبين الكلمات موجودا ، وترتيب الرسول لها كان ترتيبا مقصودا ، فالمعني الموضوع بين أركان الإيمان ، أن تؤمن بالله الذي أنزل ملائكته ، أنزلهم بماذا ؟ أنزلهم بكتبه على من ؟ على رسله ، أنزل ملائكته بكتبه على رسله لماذا ؟ ليحذروا العباد من اليوم الآخر ، من تقرير المصير وعواقب التدبير ، فإذا انتهي الناس بعد العرض والحساب ، واستقروا في الآخرة للثواب والعقاب ، عندها يتم المصير مطابقا للتقدير الذي دون في أم الكتاب ، قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
فأركان الإيمان في باب الأخبار أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه ، ولا يكون الإيمان بهذه الأركان إلا باليقين الذي لا شك فيه ، وهو التصديق الجازم الذي لا تكذيب فيه .
وكما أن الإيمان له في باب الأخبار ستة أركان ، كذلك له في باب الأوامر عدة أركان ، تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان ، وهي تتعلق بتفيذ الأمر وتحقيق المطلوب والسعي في رضا المحبوب ، فإذا تم هذا الإيمان بنوعيه ، ظهر كمال الدين وصدق واليقين كما قال عبد الله بن مسعود اليقين الإيمان كله .
ومن أجل ذلك أيضا كلف الله الإنسان بالتصديق الجازم لأركان الإيمان ، وكل خبر ورد ذكره في القرآن ، فقال تعالى في توضيح هذه المعان : ( الم ، ذَلكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًي للمُتَّقِينَ ، الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِل إِليْكَ وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، أُوْلئِكَ على هُدًي مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلئِكَ هُمْ المُفْلحُونَ ) .
والسؤال الذي يتردد على الأذهان ويطرح نفسه الآن ، كيف يكون اليقين المنافي للشك شرطا من شروط لا إله إلا الله ؟ اعلم عبد الله أن اليقين المنافي للشك يكون شرطا من شروط لا إله إلا الله ، بأن يكون قائلها مستيقنا بمدلولها يقينا جازما ، ينفي الوهم والشك والظن ، قال تعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ لمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيل اللهِ أُوْلئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ ) ، فاشترط القرآن في صدق إيمانهم بربهم ونبيهم ألا يرتابوا أي لا يشكوا ، فالمرتابون هم المنافقون ، الذين قال الله تعالى فيهم : ( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) .
وعند البخاري من حديث أَسْمَاءَ بنت أبي بكر ، أن النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : َأُوحِيَ إِليَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْل فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّال ، يُقَالُ للميت مَا عِلمُكَ بِهَذَا الرَّجُل فَأَمَّا المُؤْمِنُ أَوِ المُوقِنُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله جَاءَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَالهُدَي فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلاثًا فَيُقَالُ نَمْ صَالحًا قَدْ عَلمْنَا إِنْ كُنْتَ لمُوقِنًا بِهِ وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ المُرْتَابُ فَيَقُولُ لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلتُهُ .
روي الإمام مسلم بسنده من حديث أبي هُرَيْرَةَ قَال : كُنَّا قُعُودًا حَوْل رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ من الصحابة ، فَقَامَ رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، فَأَبْطَأَ عَليْنَا وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا ، فَكُنْتُ أَوَّل مَنْ فَزِعَ ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، حتى أَتَيْتُ حَائِطًا للأَنْصَارِ لبَنِي النَّجَّارِ – والحائط هو السور المقام حول المزرعة – يقول أبو هريرة : فَدُرْتُ بِهِ هَل أَجِدُ لهُ بَابًا فَلمْ أَجِدْ ، فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ الحَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ ، وَالرَّبِيعُ الجَدْوَلُ قناة الماء الصغيرة ، يقول أبو هريرة : فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلبُ ، فَدَخَلتُ على رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال : أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلتُ نَعَمْ يَا رَسُول الله قَال مَا شَأْنُكَ قُلتُ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَليْنَا فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا فَفَزِعْنَا فَكُنْتُ أَوَّل مِنْ فَزِعَ فَأَتَيْتُ هَذَا الحَائِطَ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلبُ وَهَؤُلاءِ النَّاسُ وَرَائِي فَقَال :يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَعْطَانِي نَعْليْهِ ، قَال : اذْهَبْ بِنَعلى هَاتَيْنِ فَمَنْ لقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا الله مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ .
فَكَانَ أَوَّل مَنْ لقِيتُ عُمَر بن الخطاب ، فَقَال مَا هَاتَانِ النَّعْلانِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلتُ هَاتَانِ نَعْلا رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بَعَثَنِي بِهِمَا مَنْ لقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا الله مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالجَنَّةِ ، فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَخَرَرْتُ لإسْتِي – يعني وقع على مقعدته - فَقَال ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَرَجَعْتُ إِلي رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً - وَرَكِبَنِي عُمَرُ - وتبعني عمر - فَإِذَا هُوَ على أَثَرِي فَقَال لي رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مَا لكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قُلتُ لقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالذِي بَعَثْتَنِي بِهِ فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لإسْتِي قَال ارْجِعْ فَقَال لهُ رَسُولُ الله يَا عُمَرُ مَا حَمَلكَ على مَا فَعَلتَ قَال يَا رَسُول الله بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْليْكَ – كل من لقيه - مَنْ لقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا الله مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلبُهُ بَشَّرَهُ بِالجَنَّةِ قَال نَعَمْ قَال فَلا تَفْعَل فَإِنِّي أَخْشَي أَنْ يَتَّكِل النَّاسُ عَليْهَا فَخَلهِمْ يَعْمَلُونَ قَال رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَخَلهِمْ .
فالحديث بين في أن اليقين من شروط لا إله إلا الله ، ولمزيد البيان عن اليقين ، كيف يكون شرطا من شروط لا إله إلا الله ؟ نضرب لذلك مثلا ، إذا أخبرك أحد لأول مرة أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل يوم ، فإما أن تصدقه وإما أن تكذبه ، فإن كان تكذيب القلب لهذا الخبر أكبر من التصديق سمي ذلك عند العلماء وهما ، كالذي يقول كيف أن الأرض تدور وليس هذا بمأثور ولا مذكور ، ونحن في أماكننا لا نقع أنا أستبعد هذا الخبر ، فالوهم أن يكون عدم ثبات الأمر في القلب أرجح من ثباته وهو يشبه النسيان إلي حد كبير ، ولذلك سميت سجدة السهو بسجدة الوهم ، فعن عبد الله بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، صَلي بِهِمُ الظَّهْرَ ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُوليَيْنِ ولمْ يَجْلسْ ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حتى إِذَا قَضَي الصَّلاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْليمَهُ ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالسٌ فَسَجَدَ سجدتي الوهم قَبْل أَنْ يُسَلمَ ثُمَّ سَلمَ ، والمقصود هنا سجدتا السهو عند انعدام اليقين ، فالوهم أن يكون عدم ثبات الأمر في القلب أكبر من ثباته ، واليقين ينفي الوهم .
أما لو استوت نسبة التكذيب في القلب مع نسبة التصديق ، واعتدل الترجيح بينهما في ثبوت الخبر ، سمي ذلك شكا ، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: ( مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَلا تُصَدِّقُوهُمْ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ ، وَقُولُوا : آمَنَّا بِاللهِ وَرُسُلهِ ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلا لمْ تُصَدِّقُوهُ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لمْ تُكَذِّبُوه ) .
وقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : ( إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَليُلغِ الشَّكَّ وَليَبْنِ على اليَقِينِ فَإِذَا اسْتَيْقَنَ بِالتَّمَامِ فَليَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَإِنْ كَانَ صَلي خَمْسًا شَفَعَتَا لهُ صَلاتَهُ وَإِنْ صَلي أَرْبَعًا كَانَتَا تَرْغِيمًا للشَّيْطَانِ .
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني ، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي المَسْجِدِ فَوَجَدَ رِيحًا بَيْنَ أَليَتَيْهِ فَلا يَخْرُجْ حتى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا ) قَال عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ في معني الحديث إِذَا شَكَّ فِي الحَدَثِ فَإِنَّهُ لا يَجِبُ عَليْهِ الوُضُوءُ حتى يَسْتَيْقِنَ اسْتِيقَانًا يَقْدِرُ أَنْ يَحْلفَ عَليْهِ ، والشك يحدث الريبة في القلب كما قال تعالى :
( وَلقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا زِلتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلكَ قُلتُمْ لنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ) غافر ، وقوم صالح ( قَالُوا يَا صَالحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْل هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِليْهِ مُرِيبٍ) هود ، وقال تعالى ( وَقَوْلهِمْ إِنَّا قَتَلنَا المَسِيحَ عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ رَسُول اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لهُمْ وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلفُوا فِيهِ لفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ) ، فالآية دلت على أن اليقين ينفي الشك والظن ، فالشك أن يكون عدم ثبات الأمر في القلب مستويا مع ثباته .
أما الظن فهو زيادة التصديق على التكذيب في القلب ، حتى لو امتلأ القلب بالتصديق لكن بقي من التكذيب شيء يسير ، فإنه يسمي ظنا ولا يبلغ حد اليقين ، كما في موقف المشركين والكافرين من يوم القيامة ، فإن تصديقهم به في قرارة أنفسهم أرجح عندهم من التكذيب ، كما قال الله تعالى : ( وَإِذَا قِيل إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) (الجاثية/32) ، فلما انتقلوا إلي ربهم ورأوا العذاب بأبصارهم ، اعترفوا بذنبهم ، وندموا على ظنهم ، وتمنوا العودة إلي الدنيا ليبلغوا علم اليقين ، فقال تعالى في شأنهم : ( وَلوْ تَرَي إِذْ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَل صَالحًا إِنَّا مُوقِنُون ) .
ومن حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه ، أنه سأل عائشة رضي الله عنها ، عن قول الله تعالى : ( حتى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (يوسف/110) ، قُلتُ : يأم المؤمنين أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا ؟ قَالتْ : عَائِشَةُ رضي الله عنها كُذِّبُوا ، قُلتُ : فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ ، فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ ، قَالتْ : أَجَل لعَمْرِي لقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلكَ ، فَقُلتُ لهَا : وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ؟ - يعني هل ظنوا أن الله خذلهم ولم ينصرهم على أعدائهم - قَالتْ : مَعَاذَ الله ، لمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلكَ بِرَبِّهَا ، قُلتُ : فَمَا هَذِهِ الآيَةُ ؟ ، قَالتْ : هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُل الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ ، فَطَال عَليْهِمُ البَلاءُ ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ ، حتى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ الله عِنْدَ ذَلكَ .
فاليقين ينفي الوهم والشك والظن ، فإذا صدقت بقلبك تصديقا جازما كاملا لا مجال للتكذيب فيه ، فإن ذلك يسمي يقينا ، وهو المسمي علم اليقين في قول الله تعالى : ( كَلا لوْ تَعْلمُونَ عِلمَ اليَقِينِ لتَرَوْنَ الجَحِيمَ ) التكاثر ، وهو شرط لا إله إلا الله ، فإذا أخبرك الله عن شيء فلن تدخل في الإسلام إلا بهذا اليقين ، أن يصدق المسلم تصديقا كاملا ، يمحو التكذيب من القلب محوا شاملا .
وكما قال عَبْد الله بْنَ رَوَاحَةَ :
وَفِينَا رَسُولُ الله يَتْلُو كِتَابَهُ : إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الهُدَي بَعْدَ العَمَي فَقُلُوبُنَا : بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَال وَاقِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ : إِذَا اسْتَثْقَلتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
وقد يطلق اليقين على الظن في بعض المواطن من القرآن ، على اعتبار أن التصديق والتثبت يزداد شيئا فشيئا ، ويقل التكذيب أيضا شيئا فشيئا حتى يصل التثبت إلي منتهاه ، فيمتلأ القلب تصديقا فيكون يقينا ، كما في قول الله تعالى : ( كَلا إِذَا بَلغَتْ التَّرَاقِي وَقِيل مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ ) (القيامة/28:26) .
ولذلك فإن اليقين يرد بمعني الموت على اعتبار أن التثبت منه كائن في جميع القلوب وإن تغافل الناس عنه ، كقوله تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (الحجر/99) ، فاليقين هنا هو الموت ، وعن أم العلاء رضي الله عنها وهي امرأة من الأنصار أنها قالت في عثمان بن مظعون رضي الله عنه حين موته : ( رَحْمَةُ اللهِ عَليْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَليْكَ ، لقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ ، فَقَال النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ، فَقُلتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُول اللهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللهُ ؟ فَقَال : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ ، وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو لهُ الخَيْرَ ، وَاللهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي ، قَالتْ : فَوَاللهِ لا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا .
فالمسلم لا يكون مسلما إلا باليقين ولا يخرج عن اليقين ولا ينزل إلي درجة الظن أو الشك أو الوهم ، لأنه إن اتصف بشيء مما ينافي اليقين ، انتفي شرط من شروط لا إله إلا الله ، ولكن ربما يضعف نور اليقين في قلب المسلم ، فيكون اليقين ضعيف الإضاءة لديه ، ولذلك كان خوف النبي صلي الله عليه وسلم عليه فقال : ( ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين ) ، فاليقين نور في القلب إذا سكن وتمكن أبصر المسلم حقائق الأمور بذلك النور .
ومن هنا كان تصنيف اليقين في القلب على ثلاث درجات متتالية ، علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ، فالأولي كعلمك بوجود العسل وعين اليقين كرؤيتك له ، وحق اليقين كشربك منه :
أولها : فعلم اليقين : وقد ورد في قوله تعالى : ( أَلهَاكُمْ التَّكَاثُر – والتكاثر هو جمع متاع الدنيا - حتى زُرْتُمْ المَقَابِر - تنبيها على أن الزائر لابد أن ينتقل عن مزاره فهو تنبيه على الموت والبعث - كَلا سَوْفَ تَعْلمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلمُونَ كَلا لوْ تَعْلمُونَ عِلمَ اليَقِينِ لتَرَوْنَ الجَحِيمَ ) (التكاثر/ 6:5) فعلم اليقين هو العلم الذي يصل به صاحبه إلي حقائق الأمور بنفي الوهم والشك والظن ، فلا يماري في صحتها ولا يرتاب في ثبوتها ، كعلم اليقين بالجنة والنار ، وتيقنه أن الجنة دار المتقين ومقر المؤمنين ، وأن النار دار الكافرين ومقر المشركين وأن الرسل أخبروا بها عن ربهم ، وأنهم بينوا للناس أمرهم ، فهذه الدرجة تسمي علم اليقين .
إما الدرجة الثانية لليقين : فهي عين اليقين ، وهي درجة الرؤية والمشاهدة كما قال تعالى : ( ثُمَّ لتَرَوْنَهَا عَيْنَ اليَقِينِ ) ، وبين هذه الدرجة والتي قبلها فرق ما بين العلم والمشاهدة ، فاليقين للسمع وعين اليقين للبصر ، فليْسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل أَخْبَرَ مُوسَي بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ فِي العِجْل فَلمْ يُلقِ الأَلوَاحَ ، فَلمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلقَي الأَلوَاحَ فَانْكَسَرَتْ ، وهذه المرتبة هي التي سألها إبراهيم الخليل ربه أن يريه كيف يحيي الموتي ليحصل له مع علم اليقين عين اليقين ، فكان سؤاله زيادة لنفسه وطمأنينة لقلبه ، فيسكن القلب عند المعاينة ويطمئن برؤية الحقيقية .
وفي حديث حارثة بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله صلي الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارثة قال أصبحت مؤمنا حقا قال انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك فقال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلي عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلي أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلي أهل النار يتضاغون فيها فقال يا حارثة عرفت فالزم ثلاثا ، ومن وصل الي هذا استلان ما يستوعره المترفون وأنس مما يشتوحش منه الجاهلون ، ومن لم يثبت قدم يقينه على هذه الدرجة فهو ضعيف اليقين ، وعلامة اليقين انشراح الصدر بذكر الله ، وطمأنينة القلب لأمر الله ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت وظلمة القبور ، وهذه هي الحالة التي كانت تحدث للصحابة الأخيار إذا ذكرهم النبي صلي الله عليه وسلم بالجنة أو النار ، فقد روي الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ حَنْظَلةَ الأُسَيِّدِيِّ قَال :
لقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ الصديق فَقَال : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلةُ ؟ قُلتُ : نَافَقَ حَنْظَلةُ ، قَال سُبْحَانَ الله مَا تَقُولُ ؟ قُلتُ نَافَقَ حَنْظَلةُ يا أبا بكر ، نَكُونُ عِنْدَ رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ ، حتى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَال أَبُو بَكْرٍ : فَوَالله إِنَّا لنَلقَي مِثْل هَذَا ، يقول حنظلة ، فَانْطَلقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حتى دَخَلنَا على رَسُول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، قُلتُ : نَافَقَ حَنْظَلةُ يَا رَسُول الله فَقَال رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلتُ : يَا رَسُول الله نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حتى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا ، فَقَال رَسُولُ الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لوْ تَدُومُونَ على مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لصَافَحَتْكُمُ المَلائِكَةُ على فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلكِنْ يَا حَنْظَلةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلكِنْ يَا حَنْظَلةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلكِنْ يَا حَنْظَلةُ سَاعَةً وَسَاعَةً .
ومعني ساعة وساعة ، أي يتقلب في الأوقات بين منازل اليقين ، فتارة في علم اليقين ليتابع حياته في البيع والشراء والسراء والضراء ، وتارة في عين اليقين ينظر إلي ملكوت السماوات ، ويعتبر بما فيها من حكم وآيات ، وليس كما يفسرها الجاهلون فيقولون ساعة لقلبك وساعة لربك ، ويقصدون ساعة للعصيان وساعة للطاعة والإيمان ، وهذا باطل ، لأن اليقين يرفع مقام المؤمنين ، فمن ثمرات اليقين أن القلب إذا استيقن ما أخبر الله به من كرامة لأوليائه ومهانة لأعدائه ، بحيث كأنه ينظر إلي ذلك من وراء حجاب ، ويعلم أنه إذا زال هذا الحجاب ، رأي ذلك يقينا عيانا ، عند ذلك زالت عنه الوحشة التي يجدها المتخلفون ، ولان له ما استوعره المترفون .
وأما الدرجة الثالثة لليقين : فهي حق اليقين وهي مباشرة المعلوم وإدراكه الإدراك التام ، فعلم اليقين كعلمك بوجود العسل ، وعين اليقين رؤيتك له بالبصر ، فتحملق فيه العينان ، وحق اليقين إحساسك بمذاقه على اللسان ، وقد قال النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : ( يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللهِ لوْ تَعْلمُونَ مَا أَعْلمُ ، لضَحِكْتُمْ قَليلا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وفي رواية ، وَمَا تَلذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ على الفُرُشَاتِ ، وَلخَرَجْتُمْ إِلي الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلي اللهِ ) .
وقد ذكر الله حق اليقين في القرآن ، في سورتين من أسماء القيامة الواقعة والحاقة ، فقال في الواقعة : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم وَإِنَّهُ لقَسَمٌ لوْ تَعْلمُونَ عَظِيمٌ ) قسم عظيم يعلم قدره المتخصصون في النجوم ، فإنهم يقولون إن ما نراه في السماء من نجوم ، هي في حقيقتها مواقع للنجوم ، أما النجوم فقد ذهبت في مساراتها وتحركت في مداراتها ، فنظرا لعظم المسافات بيننا وبين هذه المخلوقات ، فإننا لا نري النجوم أبدا ، ولكننا نري مواقع مرت بها فحينما ينبثق الضوء بسرعته من النجم إلي أن يصل إلينا ، يكون النجم قد تحرك من موقعه وذهب عن موضعه ، ليس هذا وفقط ، بل إن الضوء كما قال العلماء ، ينحني في صفحة السماء ، فحينما يصل إلينا منحنيا ، يراه البصر موقعا وهميا ، غير الموقع الحقيقي للنجم ، ولذلك أقسم الله بالنجوم ليبين عجزنا عند علمنا ، ويثبت صدق القرآن لنا فقال :
( إِنَّهُ لقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا المُطَهَّرُونَ ) قال قتادة : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، أما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس ، ( تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ - وليس هو كما يقولون إنه سحر مبين أو شعر متين أو كهانة تنزلت بها الشياطين ، بل هو الحق الذي نزل من رب العالمين ، ثم قال : ( أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَلوْلا إِذَا بَلغَتْ الحُلقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُون فَلوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِين فَسَلامٌ لكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ المُكَذِّبِينَ الضَّالينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْليَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لهُوَ حَقُّ اليَقِينِ ) وليس بعد حق اليقين إلا أن نسبح الله تسبيح الموقنين فقال : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيم ) الواقعة .
وعلى نفس المنهج في آيات الواقعة جاءت آيات سورة الحاقة ، فقال تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْل شَاعِرٍ قَليلا مَا تُؤْمِنُون وَلا بِقَوْل كَاهِنٍ قَليلا مَا تَذَكَّرُون تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ وَلوْ تَقَوَّل عَليْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ ثُمَّ لقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لتَذْكِرَةٌ للمُتَّقِينَ وَإِنَّا لنَعْلمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لحَسْرَةٌ على الكَافِرِين وَإِنَّهُ لحَقُّ اليَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) الحاقة .
ولنتحدث الآن عن مدارك اليقين : ما هي الوسائل التي يدرك بها اليقين ، كيف يتأكد اللإنسان أنه على يقين من أمره ؟ هناك عدة أشياء يدرك بها اليقين :
أولها البديهيات أو الأوليات : وذلك كالحكم على أن البعرة تدل يقينا على البعير وأن الأثر يدل يقينا على المسير ، ومن هنا كان المسلم على يقين بوجود الله من خلال إثبات وجود الخالق بدلالة المخلوقات ، وقد ثبت ذلك بحكم الأوليات أو البديهيات ، إن من أكبر المحرمات جريمة الزني ، والحكم فيها لا بد أن يقوم على مفردات يقينية ولا يبني على أمور ظنية ، وقد بين القرآن وسائل إدراك اليقين عند الحكم على المرتكبين لها ، فمن ذلك البديهيات وارتباط العلل بالمعلولات ، كما قالت مريم للملك عندما قال لها : ( إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّي يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ – بزواج - وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا - بزنا – لأن البديهيات تجعل العاقل يحكم حكما يقينيا بأن الولد لا يأتي إلا من طريق مشروع أو طريق ممنوع – ولذلك أكد لها الملك أن ذلك واضح صحيح ، وأن حالتها استثناء وأن الله يخلق ما يشاء - قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ على هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا – من أجل ذلك أثبت لها الخالق براءتها ، بخرق العادات وظهور المعجزات ، وأوحي إليها أنها إذا رأت من أنكر عليها ، أن تلزم الصمت وتمتنع عن الكلام ، وكل ما عليها أن تشير إلي الغلام وتقول : ( إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ على يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلكَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَي أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُون ) .
ومن الأمور التي يدرك بها اليقين : المحسوسات ، وقد جعلها الله وسيلة من وسائل الإثبات ، في الحكم على المومسات فقال : ( وَالذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلا تَقْبَلُوا لهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ إِلا الذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَأَصْلحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ – جاء في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود أنه قَال : كنَّا ليْلةَ الجُمُعَةِ فِي المَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَال : لوْ أَنَّ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ ، أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ على غَيْظٍ ، وَاللهِ لأَسْأَلنَّ عَنْهُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَلمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ أتي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَلهُ ، فَقَال يا رسول الله : لوْ أَنَّ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ أَوْ سَكَتَ سَكَتَ على غَيْظٍ ، فنزل قول الله تعالى : ( وَالذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلمْ يَكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الصَّادِقِينَ وَالخَامِسَةُ أَنَّ لعْنَةَ اللهِ عَليْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الكَاذِبِينَ وَالخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَليْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ ) .
ومن مدارك اليقين أيضا الاعترافات ، فالإنسان أدري بنفسه وأعلم بوصفه ، فإن ثبت عند القاضي اعترافه على نفسه حكم باليقين على زناه كما ثبت عن رسول الله أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَته وَهِيَ حُبْلي مِنَ الزِّنَي فَقَالتْ : يَا نَبِيَّ اللهِ أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ على ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَليَّهَا فَقَال أَحْسِنْ إِليْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا فَفَعَل ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَشُدَّتْ عَليْهَا ثِيَابُهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلي عَليْهَا فَقَال لهُ عُمَرُ تُصَلي عَليْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ فَقَال لقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْل المَدِينَةِ لوَسِعَتْهُمْ وَهَل وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَل مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ تعالى .
وكذلك جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالكٍ إِلي النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي فَقَال وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِليْهِ قَال فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَال يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِليْهِ قَال فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَال يَا رَسُول اللهِ طَهِّرْنِي فَقَال النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مِثْل ذَلكَ حتى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَال لهُ رَسُولُ اللهِ فِيمَ أُطَهِّرُكَ فَقَال مِنَ الزِّنَي فَسَأَل رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَبِهِ جُنُونٌ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ ليْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَال أَشَرِبَ خَمْرًا فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ قَال فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَزَنَيْتَ فَقَال نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ .
ومن وسائل إدراك اليقين المتواترات : كعلمنا بوجود مكة والمدينة ، فإن العلم بوجودهما علم يقيني ، وكذلك بعثة النبي العلم بها علم يقيني ، لما ورد فيها من تواتر الأخبار وحملة الآثار ، وقد اتفق علماء الحديث على أن الأحاديث المتواترة تدل على اليقين وهي التي رواها جمع يستحيل اتفاقهم على الكذب عن جمع آخر يستحيل اتفاقهم على الكذب إلي نهاية الإسناد إلي رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ .
ومن وسائل إدراك اليقين أيضا التجريبيات ، وقد يعبر عنها باطراد العادات ، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة وأن الشمس مشرقة ، وأن الماء ينزل من السماء فيحي الأرض بعد موتها ، فهي سنن وعادات وتجربة وممارسات ، ولذلك حذرنا الله من العصيان ، بما حدث لأعدائه في سالف الزمان ، كان مصيرهم الخسف والمسخ والصيحة والنبران فقال تعالى : ( قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) وقال : ( قُل للذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لهُمْ مَا قَدْ سَلفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلينَ ) ( فَهَل يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلينَ فَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا وَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلا ) ، وفي الحديث ( لا يُلدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ ) وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلي الجَنَّةِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتحرىالصِّدْقَ حتى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلي النَّارِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتحرىالكَذِبَ حتى يُكْتَبَ كَذَّابًا ) .
فهذه مدارك اليقين ، جعلها الله علامات تدل عليه وترشد إليه ، فأين اليقين بالله يا عباد الله ، ذم مولانا الدنيا فمدحناها ، وأبغضها فأحببناها ، وزهدنا فيها فآثرناها ، وعدنا خرابها فحصناها ، ونهانا عن طلبها فطلبنها ، وأنذرنا كنزها فكنزناها ، دعتنا هذه الدنيا الغرورة فأجبناها ، تمرغنا في زهوتها وتمتعنا بلذتها وتنعمنا بشهوتها ، نبشنا بمخالب الحرص عن خزائنها وحفرنا بمعاول الطمع في معادنها ، بنينا بالغفلة في أماكنها ، وتحصنا بالجهل في مساكنها ، وعصينا الله في شريعته ، فهل بعد ذلك يقوي أحد على طلب ولايته أو الطمع في جنته ، أيها المتقون جنة الله يدخلها المؤمنون بطاعته ، وولاية الله لا تدرك إلا بمحبته ، ولن نصل إلي مرضاته إلا بتوحيده وعبوديته يا ربي لا قوة لنا فننتصر ولا براءة من ذنوبنا فنعتذر ، فإن تعاقب فأهل للعقاب وإن تغفر فعفوك مأمول ومنتظر ، إن العظيم إذا لم يعف مقتدرا عن العباد فمن يعفو ويقتدر .
علامات اليقين يا عبد الله أن تعظم الحق في عينيك ، وأن يصغر ما دونه عندك ، وأن يثبت الخوف والرجاء في قلبك ، وروي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه شيع جنازة فلما وضعت في لحدها ، عج أهلها بالبكاء ، فقال رضي الله عنه : ما تبكون ، أما والله لو عاينوا ما عاين ميتهم ، لأذهلتهم معاينتهم عن ميتهم ، أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال ، ووقت لكم الآجال ، وجعل لكم أسماعا تعي معناها ، وأبصارا تجلوا عن غشاها ، وأفئدة تفهم ما دهاها ، فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يضرب عنكم الذكر صفحا ، بل أكرمكم بالنعمة السابغة ، والحجة البالغة ، وأحاط بكم الاحصاء ، وأرصد لكم الجزاء في السراء والضراء ، فاتقوا الله عباد الله وجدوا في الطلب ، وإياكم ومقطع النهمات ، وهادم اللذات ، فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجائعها ، غرور حائل وشبح زائل ، وسند مائل ، اتعظوا عباد الله بالعبر ، واعتبروا بالآيات والأثر ، وازدجروا بالنذر ، وانتفعوا بالمواعظ ، أتتكم مخالب المنية ، وضمكم بيت التراب ، ودهمتكم فظائع الأمور ، بنفخة الصور ، وبعثرة القبور ، وسياقة المحشر وموقف الحساب ، بإحاطة قدرة الجبار ، كل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها ، وشاهد يشهد عليها بمخبرها ، وأشرقت الأرض بنور ربها ، ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء ، وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ، هذا يوم التلاق يوم يكشف عن ساق ، كسفت الشمس وحشرت الوحوش ، وبدت الأسرار ، وهلكت الأشرار ، وارتجت الأفئدة فنزلت بأهل النار ، تأجج جحيمها ، وغلا حميمها ، معهم ملائكة يبشرونهم بنزل من حميم وتصلية جحيم ، عن الله محجوبون ، ولأوليائه مفارقون ، وإلي النار منطلقون ، عباد الله اتقوا الله تقية من قنع فخنع ، ووجل فرحل ، وحذر فابصر فازدجر ، فاحتث طلبا ، ونجا هربا ، وقدم للمعاد ، واستظهر بالزاد ، وكفي بالله منتقما وبصيرا ، وكفي بالكتاب خصما وحجيجا وكفي بالجنة ثوابا ، وكفي بالنار وبالا وعقابا ، وأستغفر الله لي ولكم فهذا شأن اليقين ورأس مال الدين وبعض علامات الموقنين ، وهذا هو الشرط الثاني من شروط لا إله إلا الله ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أن أستغفرك وأتوب إليك

نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 09:53 PM   #5
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط الثالث الإخلاص المنافي للشرك
الحمد لله الكبير المتعال ، ذي القدرة والجلال ، والكمال والجمال ، والنعم والأفضال ، سبحانه هو العلى الكبير ، هو العليم القدير ، هو اللطيف الخبير ، تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، أحمده حمد المعترف بالعجز والتقصير ، وأشكره على ما أولانا من نعم وفضل كبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يؤمن بأنه لا معين له ولا ظهير ، ولا وزير له ولا مشير ، سبحانه منفرد بالخلق والتدبير ، سبحانه منفرد والأمر والتقدير ، ليس كمثله وهو السميع البصير .
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، المبعوث إلي كافة الخلق من غني وفقير ، ومأمور وأمير ، صلي الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين ، صلاة تنجي قائلها من هول المطلع في يوم عسير ، ومن حساب يحصي الصغير والكبير ، صلاة تباعد بيننا وبين عذاب السعير ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ) (النساء:1) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (الحشر:18) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون ) (آل عمران:102) ، أما بعد ..
فإن كثيرا من الناس يقولون لا إله إلا الله ، وتراهم يهدمون توحيدهم وينقضونه بسوء أفعالهم ويحسبون أنهم بمجرد قولهم : لا إله إلا الله قد عبدوا ربهم ووحدوه وأنهم لا محالة سيدخلون الجنان ولا يعذبون في النيران ، فتراهم يتوجهون بقلوبهم إلي الأضرحة والقباب ، ويطوفون حولها خاشعين مقبلين العمم والأعتاب ، يدعونهم ويضرعون إليهم ويطلبون المدد منهم ، ويضعون في صناديق النذور أفضل ما عندهم ، ويقيمون الموالد والمشاهد والعمائم والمعابد ، زيادة في حبهم وتعظيمهم ، ودعوة في شد الرحال إليهم ، مستبيحين حرمة الأدلة في النهي عن بناء القبور على المساجد ، وشد الرحال إلي الأضرحة والموالد ، يزعمون أن الأولياء يتحكمون في المنافد والطرقات ، ويحمون أتباعهم ولو كان على أبعد المسافات .
والناس بالملايين يصدقون ويقبلون في حلقات الذكر يتراقصون ، يهللون ويتمايلون ، تراهم عشرات الآلاف مجذوبين قائمين ملهوفين ، عاكفين على القبر مستغيثين بصاحب الضريح ، آلاف وآلاف من الأضرحة والقباب ، منتشرة في كثير من البلدان ، وقائمةُُُ في كل ميدان ، وهؤلاء يظنون أنهم بهذه الأعمال في أعلى مقام من مقامات الإيمان ، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ؟ كيف يكون العبد مخلصا لله حنيفا موحدا لا يشرك بالله شيئا ؟
وجواب ذلك سهل ويسير على من هداه اللطيف الخبير ، وهذا هو الموضوع الذي نتحدث عنه بشيء من التفصيل في محاضرة اليوم ، اعلم أخي المسلم يا من ترغب في توحيد الله بيقين وصدق وتبحث عن عقيدة حق ، أن لا إله إلا الله لا تفع قائلها إلا إذا حقق شروطها واستوفي أركانها ، فلا يصح قول اللسان ولا يصلح ركن من أركان الإيمان إلا بهذه الشرط .
علم ينافي الجهل ، ثم يقين ينافي الشك ، وإخلاص ينافي الشرك ، ثم الصدق الذي ينافي الكذب ، ثم المحبة التي تنافي البغض ، ثم القبول الذي ينافي الرد ثم الانقياد الذي ينافي الترك ، والثامن من هذه الشروط هو الكفر بما يعبد من دون الله ، وقد أحسن من جمعها وعدها وحصرها في هذين البيتين فقال :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها.
وموضوعنا اليوم عن الإخلاص كشرط من شروط لا إله إلا الله ، فالإخلاص معناه تصفية الشيء وتنقيته من الشوائب ، فالخالص هو ما زالت عنه الشوائب بعد أن كانت فيه ، قال تعالى : ( وَإِنَّ لكُمْ فِي الأنْعَامِ لعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لبَنًا خَالصًا سَائِغًا للشَّارِبِينَ ) (النحل:66) فاللبن كان مختلطا في الأحشاء بالطعام والدماء ، فجعله الحق بقدرته غاية في الصفاء والنقاء ، فالخالص في الشيء هو النقي الصافي .
والإخلاص الذي هو شرط من شروط لا إله إلا الله يتمثل في توحيد الحق ونبذ الشرك ، فالمسلم الحق يتصف بالإخلاص ، لأنه أفرد الله بعبادته ، ولم يشرك به شيئا في محبته ، أو خوفه ورجائه ودعوته كما قال سبحانه وتعالي : ( وَمَا أُمِرُوا إِلا ليَعْبُدُوا اللهَ مُخْلصِينَ لهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلكَ دِينُ القَيِّمَةِ ) (البينة: 5) أكثر العلماء على أن الحنيف هو المخلص الذي يعبد الله وحده ، فالحنيفية دين إبراهيم وهو دين التوحيد والإخلاص لله وحده ، وقد كان المشركون في الجاهلية يعلمون حقيقة الإخلاص والتوحيد ، وعلى الرغم من ذلك يصرون على الشرك في الدعاء عند النعمة والرخاء ، لكنهم يوحدون إله السماء عند الشدائد وحدوث البلاء ، وقليل منهم من دان بالإخلاص وتحرىالخلاص من الشرك قال تعالى عن هؤلاء : ( وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَل مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلمَّا نَجَّاكُمْ إِلي البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ) (الإسراء:69:67) .
كان الكافرون في الجاهلية يشركون بالله في الرخاء والنعمة ، لكنهم يخلصون له عند الشدائد والنقمة ، روي النسائي في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ : ( أن رسول الله يَوْم فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ النَّاسَ إِلا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَال : اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُموهُمْ مُتَعَلقِينَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ ، فكان منهم عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْل ، بعد أن علم أن النبي rأباح دمه ركب عكرمة البَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عاصفة شديدة أيقنوا أنها ستغرق سفينتهم - فَقَال : أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَخْلصُوا - أي وحدوا ربكم في الدعاء والاستغاثة وقد كانوا يلجأون في الرخاء إلي اللات والعزي ومناة الثالثة الأخرى وعند الشدائد يوحدون - فَقَال : أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَخْلصُوا فَإِنَّ آلهَتَكُمْ لا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا فَقَال عِكْرِمَةُ : وَاللهِ لئِنْ لمْ يُنَجِّنِي مِنَ البَحْرِ إِلا الإِخْلاصُ لا يُنَجِّينِي فِي البَرِّ غَيْرُهُ فعاد عكرمة إلي عقله وفطرته، وقال معلنا للتوحيد عند نجاته وعودته - اللهُمَّ إِنَّ لكَ على عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ حتى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلأجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا - وبالفعل وفي بوعده - جَاءَ فَأَسْلمَ ومات عكرمة بفضل الله على الإخلاص والتوحيد بعد أن كان من أسوا العبيد عداء لرسول الله r.
· واعلموا عباد الله أن الإخلاص الذي ينافي الشرك يقوم في كتاب الله وسنة رسوله r على ركنين اثنين :
(1) - الركن الأول : توحيد العبادة لله ،فالمخلص لا يشبه غير الله بالله ، لأن أصل الشرك تشبيه المخلوق بالخالق والمملوك بالمالك ، فيعظمه كتعظيم الله ، ويحبه كمحبة الله ، كما قال جل في علاه : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلوْ يَرَي الذِينَ ظَلمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ ) ، ولما عذبوا في جهنم قالوا : ( وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالمِينَ ) فسوا بين الله وبين آلهتهم في المحبة التعظيم ، وخضعوا للأولياء في أضرحتهم كخضوعهم للعلى العظيم ، كل ذلك بزعمهم رهبة وخوفا من غضبهم ، إذ يوحون إلي أتباعهم ، أن أي شخص لم يقدم النذر في موعده ، أو لم يأت طنطا إلي البدوي في مولده ، حلت عليه اللعنة في نومه ومرقده ، ونزلت عليه المصائب في يومه وغده ، حتى يعود إلي الضريح بخضوع صريح صحيح ، مخلصا له مقرا تائبا ، أو قائلا ما قاله هذا الجاهل :
وقفت بالذل في أبواب عزمكموا : مستشفعا من ذنوبي عندكم بكموا
أعفر الخد ذلا في التراب عسي : أن ترحموني وترضوني عبيدكموا
فإن رضيتم فيا عزي ويا شرفي : وإن أبيتم فمن أرجوه غيركموا
فهؤلاء العامة من الأمة يخلصون في تضرعهم للقباب والأوثان ، ويطلبون منهم الرحمة والمدد والغفران ، فقل لي بربك ماذا تركوا للواحد الديان ؟ انظر أيها العاقل مدي تعظيمهم لسيدهم أحمد الرفاعي ، ومدي اعتقادهم في قدرته وتأثيره عليهم ، على الرغم من كونه مات من مئات السنين ، وقد أكله الدود في قبره وأصبح من الغابرين ، يقول قائلهم :
شيخي الرفاعي له بين الوري همم : نصالها ماضيات تشبه القدر
دخلت في ظلها أبتغي التفيؤ من : رمضاء دهري فجاء الدهر معتذر
والمعني المقصود في هذين البيتين ، أن شيخه الرفاعي قوته في العالم تشبه قوة الله في جريان المقادير ، وأنه لما استغاث بابن الرفاعي مما فعله الله به من أنواع البلاء ومصائب الابتلاء ، جاء الدهر معتذرا ، فالرفاعي في اعتقاده قوته أشد من قوة الله وقدرته في جريان المقادير حاكمة على قدرة الله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
أمثل هذا قد شهد أنه لا إله إلا الله ، وأنه لا معبود بحق سواه ، أهذا هو التوحيد الذي بعث به محمد بن عبد الله ، شيخه الرفاعي وهو ميت في قبره ، يتحكم فيما جرت به المقادير ولو استغاث به أحد يعتذر إليه الدهر الذي يقلبه رب السماوات والأرض ، سبحانك أنت اللطيف الخبير وأنت العليم القدير ، وأنت الملك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، ويحذرونك !!! يقولون : إياك إياك أن تعترض على أولياء الله ، آه لو اعترضت على الرفاعي أو السيد البدوي ، أو إبراهيم الدسوقي أو عبد القادر الجيلاني أو أبي العباس المرسي ، إياك إياك أن تعترض وإلا .. وإلا ماذا ؟
سيلحق بك العقاب وينزل بك العذاب ، عقاب وعذاب .. ما العقاب وما العذاب لو أنكرنا على الأضرحة والقباب ؟ يقولون : بقرة تموت ، وتمنع القوت ، وخير يفوت ، ولعنة تطاردك في الملك والملكوت ، بحق ما للضريح من جبروت ، ولدك سيكون مشلولا ، وزوجتك معلولة ، وستبقي ذليلا مخذولا ، لا حول لك ولا قوة إلا عدت وتبت .
ألا تعلم ما ذكره سيدنا عبد الوهاب الشعراني ؟ لا : لا أعلم ماذا ذكر الشعراني ؟ يقولون : ذكر أن أبا الغيث بن قتيبة العالم الفقيه أنكر على الناس وهم يركبون المراكب في النيل من بولاق متوجهين إلي طنطا لحضور مولد سيدي البدوي ، فأنكر عليهم وقال : هيهات هيهات أن يكون اهتمامهم بزيارة نبيهم كاهتمامهم بالسيد البدوي ، فقال أحدهم يا فقيه : سيدي البدوي ولي حليم وجاهه عظيم ، فلا تنكر عليه فيمسك منه عذاب أليم ، ثم انصرف أبو الغيث الفقيه فدعاه بعض محبيه على الطعام ، فأطعمه سمكة كبيرة ، فدخلت في حلقه شوكة طويلة ، سدت أنفاسه بسبب إنكاره على البدوي ، فلم يقدروا على نزعها بأي وسيلة ، وعجز الأطباء عن إخراجها أو علاجها بأي حيلة ، حتى ورمت رقبته ، وتآكلت معدته ، لا يدخل إليها طعام ولا شراب إلا بعويل وعذاب ، وبقي تسعة أشهر على هذا الحال ، لا يهنأ له بال ، حتى يئس من الحياة ، وكاد أن ينتحر ، وقد أنساه الله السبب ، لا يدري ما السبب وعندما تذكر قال : احملوني إلي قبة سيدي أحمد البدوي ، فقد تبت من الإنكار ، وسلمت له بالقدرة وكمال الحال ، وعندما وصل إلي الضريح بعد هذه المسافة البعيدة ، عطس عطسة شديدة ، فخرجت الشوكة مغمسة دما ، وذهب الورم على الفور من رقبته وقال معلنا لتوبتة :
غوث وغيث في الوري فيمينه : يرتاح من راحاتها مسكينه
تسدي العدو من العدو تصونه : هذا رجائي عنده وأظنه
قبل الرجاء من المقل المجهد

ذو الفقر والفاقات يسعي زائرا : ولظهر بحر النيل يركب سائرا
أفلا يكون لي القبول بلا مرا : لاسيما ولقد أتيت مبادرا
أسعي إليه من الرحاب الأحمدي
يقولون إياك أن تتخلف عن مولده ، ألا تعلم أن الشيخ محمد السري تخلف عن حضور مولد البدوي لأنه أنكر ما يحدث فيه فناداه البدوي من قبره وقال له : ماذا تنكر علينا ؟ قال : اختلاط الرجال والنساء في المولد ، قال البدوي : هذا واقع في الطواف بالكعبة ، فلم لم تنكر الاختلاط في الطواف وأنكرته في مولدي ، ثم قال له اسمع يا شيخ محمد : موضع يحضره رسول الله ، والأنبياء وأصحابهم وسائر الأولياء لا تحضره أنت .
ثم يقول هذا الكاذب : وعزة ربي ما عصي أحد في مولدي إلا وتاب وحسنت توبته وإذا كنت أرعي الوحوش في القفار والسمك في البحار وأحميهم من بعضهم البعض أفيعجزني الله عن حماية من يحضر إلي مولدي .
انظروا يا عباد الله : هل منكم من يرضي لنفسه أن السيد البدوي يرعي الوحوش في القفار والسمك في البحار ؟ إذا كان البدوي يرعي الوحوش في القفار والسمك في البحار ؟ فما الذي يرعاه رب العزة والجلال ؟ وما الذي تركه من تدبير الأمر لله ، كل هذا الإفك ، لكي ترضي بالشرك ، وتحيد عن الحق ، كيف نسترد المسجد الأقصي وأغلب الأمة على هذا الحال ؟ كيف سنواجه الأعداء والمسلمون يلجئون إلي البدوي ويستغيثون بأبي العباس المرسي فمن قائل أغثنا يا بدوي ، أنقذنا من أمريكا يا عدوي ، يا شاذلي رحماك ، رحماك يا ابن الرفاعي ، أهكذا يكون الإخلاص لله يا عباد الله ، أهؤلاء يستوجبون نصر الله ، أتقولون للميت في قبره أغثنا أغثنا ، ولا توحدون الله ، إلهي …
أنت الذي صورتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمان - أنت الذي علمتني ورحمتني وجعلت صدري واعي القرآن - أنت الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب كان في الحسبان - وجبرتني وسترتني ونصرتني وغمرتني بالفضل والإحسان - أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلان - وزرعت لي بين القلوب مودة والعطف منك برحمة وحنان - ونشرت لي في العالمين محاسنا وسترت عن أبصارهم عصياني - ولقد مننت على رب بأنعم مالي بشكر أقلهن يدان - فوحق حكمتك التي آتيتني حتى شددت بنورها برهاني - لئن اجتبتني من رضاك معونة حتى تقوى أيدها إيماني - لأسبحنك بكرة وعشية ولتخدمنك في الدجي أركاني - ولأذكرنك قائما أو قاعدا ولأشكرنك سائر الأحيان - ولأحسمن عن الأنام مطامعي بحسام يأس لم تشبه بناني - ولأجعلن رضاك أكبر همتي ولأضربن من الهوى شيطاني - ولأقصدنك في جميع حوائجي من دون قصد فلانة وفلان .
أتقصدون ميتا هو أحوج ما يكون إليكم ، وتزعمون أن بركاته تعود عليكم ؟ ، يقولون : حلت بك البركات يا من أتيت لشيخ العرب ، ومن أدراكم أن البركات قد حلت بشيخ العرب أو من أتي إليه ، الأمر خطير والموضوع يطلب منك إعادة النظر والتفكير ، فأول وصية وصاها لقمان لبنه وهو يعظه قال له : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (لقمان:13) ، فيا من نطقت بلا إله إلا الله ، تشبه المخلوق بالخالق في الدعاء والنداء ، والمحبة والخوف والرجاء ؟ انظروا إلي تعظيمهم لشيخ العرب في هذه الأبيات الشعرية ، ووصفهم له بأوصاف الربوبية ، ماذا يقولون ؟
يا من هو البحر الخضم إذا جري : جاءت لك الزوار من أقصي القرى
كل ينادي يستغيث لما جري : فلقد حويت الفضل يا غوث الورى
أيها العاقل ألا تري ؟ هل البدوي غوث الوري ؟ يأتيه الملهوف من أقصي القرى ؟ ماذا جري لعقولكم ماذا جري ؟ من المغيث للملهوف يا تُرَي ؟ ( أَمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلفَاءَ الأَرْضِ أَئِلهٌ مَعَ اللهِ قَليلا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلهٌ مَعَ اللهِ تعالى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلهٌ مَعَ اللهِ قُل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) (النمل:65:62) .
عباد الله : ألا تعلمون أن دعاء الأموات يستلزم أن تجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا مشابها لمن كانت أزمة الأمور بيديه ومرجعها إليه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ؟
ألا تعلمون أن دعاء الأموات ، أو طلبَ المدد منهم ، من أقبح أنواع الشرك على الإطلاق ، لماذا ؟ لأنه ينافي التوحيد والإخلاص ، ويثبت للميت بدعائه أوصاف الألوهية ، نعم يثبت للميت بصورة حتمية أوصاف الربوبية كيف ، فالذي يقول مدد يثبت الداعي صفة الحياة للمقبور لأنه لو اعتقد أنه ميت ما توجه إليه بالنداء والدعاء ، أبالله عليكم أيها العقلاء ، ما تقولون في رجل توفي أباه ، فذهب إلي قبره ودعاه ، وناداه أبتاه أجبني أبتاه أجبني أنا في حيرة من أمري أغثني ، ولدي مريض وليس عندي زاد ، وزوجتي أصابها العقم والفساد ، أعطني المال يا أبتاه ، حتى أداوي زوجتي وولدي وأشفي بفضل زادك مرضي ؟ تقولون عن هذا مجنون ، ولا تقولونه لمليون أو سبعة مليون ممن يشدون الرحال ويذهبون يتراقصون في الموالد ، يقبلون الأعتاب ، ويستغيثون بسكان الأضرحة والقباب ؟
ألا تعلم يا من أخلصت قلبك لله أنك إذا استغثت بالضريح أثبت أنه يسمع ويبصر ، ويعلم ويقدر ، أثبت أنه غني فالفقير لا يدعي ولا يقصد ، ألم تسمع قول عالم الغيب والشهادة : ( ذَلكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لهُ المُلكُ وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلكُونَ مِنْ قِطْمِير ٍإِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (فاطر:14:13) .
ألم تسمع إلي الكبير المتعال ، ذي القدرة والجلال ، والنعم والأفضال ، وهو يخاطب العقلاء عندما قال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لهُ إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلوْ اجْتَمَعُوا لهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالبُ وَالمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (الحج:74:73) .
أتنتظر أن تقول كما قال المشركون عندما سألهم الله : أين ما كنتم تعبدون ؟ : ( قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالمِينَ وَمَا أَضَلنَا إِلا المُجْرِمُونَ ) (الشعراء:99:95) .
أتسوي في الحب والتعظيم بين هؤلاء وبين ربك ، وتجعل الشرك حائلا لغفران ذنبك ، ألا تعلم أن الله قد قال :
( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَي وَالبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ ) (فاطر:22:23) .
من السميع لما ذهبت إلي أصم أبكم ؟ ، ومن البصير لما استغثت بعاجز عم ؟ ، ومن الغني لما توجهت إلي فقير معدم ؟ ، ومن القدير لما ذهبت إلي مقبور آدم ؟ ، ومن الرزاق الذي رزق يونس في اليم ؟
ألم تسمع قول العلى العظيم عن خليله إبراهيم : ( إِذْ قَال لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لهَا عَاكِفِينَ قَال هَل يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَل وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلكَ يَفْعَلُونَ قَال أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلا رَبَّ العَالمِينَ الذِي خَلقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي وَالذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي وَالذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) (الشعراء:82:69) .
من السميع لما ذهبت إلي أصم أبكم ؟ روي الإمام أحمد والنسائي وصححه الشيخ الألباني 3460 من حديث عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالتِ : ( الحَمْدُ للهِ الذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ لقَدْ جَاءَتْ خَوْلةُ بنت ثعلبة إِلي رَسُول اللهِ r تَشْكُو زَوْجَهَا لما ظاهر منها ، وَأَنَا معها فِي نَاحِيَةِ البَيْتِ فَكَانَ يَخْفي على كَلامُهَا وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ فَأَنْزَل اللهُ عَزَّ وَجَل : ( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْل التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلي اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (المجادلة:1) ) ، ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلي وَرُسُلُنَا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) .
من البصير لما استغثت بعاجز عم ؟ ومن الغني لما توجهت إلي فقير معدم ؟ : ( وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) (الأنعام:123) : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الفُقَرَاءُ إِلي اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (فاطر:15) ، ومن القدير لما ذهبت إلي مقبور آدم ؟ ومن الرزاق الذي رزق يونس في اليم ؟ : ( قُل مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنْ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنْ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُل أَفَلا تَتَّقُونَ ) (يونس:31) : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليْكُمْ هَل مِنْ خَالقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَأَنَّي تُؤْفَكُونَ ) (فاطر:3) .
ألم تسمع ما رواه الإمام مسلم 2577 عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فِيمَا رَوَي عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتعالي أَنَّهُ قَال : يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلمَ على نَفْسِي وَجَعَلتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالمُوا ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِالليْل وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لكُمْ ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَتْقَي قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلكَ فِي مُلكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَه ) .
فطهر نفسك عبد الله بالإخلاص لله وحده ، واحذر الشرك فإنه لا ذنب بعده ، وتحرىفي قولك وفعلك التوحيد فإن الأجر عنده ، فلا تدعوا غير الله ، ولا تطلب المدد من سواه ، ولا تستغث إلا بالله ، واجعل الطواف مقصورا ببيت الله فقط ، ولا تقبل ضريحا أو مقصورة أو حجرا إلا حجرا واحدا في بيت الله ، ولا تذبح إلا لله ، واذبح باسم الله وحده ، ولا تجعل النذر لسواه ، ولا تتخذا على القبر مسجدا ، ولا تقم فيه أبدا ، فالمساجد بيوت الله فلا تجعلها مستعمرة لسواه ، يحتلها أصحاب الضريح ويذكرون اسمه بالتصريح والتلميح ، وقد قال تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَال) (النور:36) وقال أيضا : ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدً) (الجن:18) ، ولكنك تري أنهم يتوجهون بقلوبهم لتعظيم الضريح ويطوفون بقبره ، ويدعون الناس إلي تقديسه وحبه بالكرامات المزعومة والأحلام المذمومة ، التي هي من وحي الشيطان أو اختلاق بني الإنسان ، وكل هذا كما تعلمون ينافي الإخلاص والتوحيد ، ويغضب رب العبيد ..
فتحرى عبد الله في قولك وفعلك التوحيد ، ولا تقل : توكلت على الله وعليك لأنك تشرك غيره معه في التوكل ، ولكن قل : توكلت على الله ثم عليك ، ولا تقل : مالي إلا الله وأنت ، ولكن قل : مالي إلا الله ثم أنت ، فهذا هو الإخلاص والتوحيد ، ولا تقل : ما شاء الله وشئت ، ولكن قل : ما شاء الله وحده ، ولا تقل لأي شخص أيا كان : الله لي في السماء وأنت لي في الأرض أو هذا من فضل الله ومنك ، ولكن قل : هذا فضل الله وجزاك الله خيرا ، واطلب المدد من الله ، ولا تقل : مدد يا بدوي أو شي الله يا عدوي ، ولا تشرك بالله فتفعل كما يفعل الجاهلون ، إياك أن تعلق في رقبتك خرزة أو تميمة أو حجابا ، أو نابا أو عين الذئاب ، أو تعلق برقبة الحيوان عظمة ، تظن أنك تدفع عنه بهذا الشرك مكروها ، أو تتقي مصيبة عظموها ، فطهر قلبك بالتوحيد ، واجعل نفسك من العبيد ، الذين أخلصوا لربهم واستجابوا لله لما أمرهم أن يعبدوه مخلصين له الدين :
( هُوَ الحَيُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ) (غافر:65) وقل عبد الله : ( إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ المُشْرِكِينَ قُل إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالمِينَ لا شَرِيكَ لهُ وَبِذَلكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلمِينَ ) (الأنعام:163:161) .
فالركن الأول : الذي بني عليه الإخلاص لله هو توحيد العبادة له ، فالمخلص لا يشبه المخلوق بالخالق أو المملوك بالمالك ، ولكنه يفرد الله بالتعظيم الدعاء ، والحب الخوف والرجاء ، فهو عبد لمعبود واحد لا يشرك به شيئا .
أما الركن الثاني : الذي بني عليه الإخلاص فهو توحيد الربوبية لله ، فلا يمكن لعبد أن ينال درجة الإخلاص إلا إذا خلع عن نفسه رداء الربوبية واكتسي بثوب العبودية ، فعلم واعتقد أنه عبد في ملك سيده مستخلف في أرضه أمين على ملكه ، قد ابتلاه فيما أعطاه ، وامتحنه فيما خوله واسترعاه ، أيرد الملك إلي المالك ؟ أم ينسب لنفسه أوصاف الخالق ؟ يتكبر على الخلق بنعم الله ، ويتعالي على العباد بما منحه وأعطاه ، كما فعل فرعون وهامان ومن قبلهما النمرود بن كنعان ، وفي قارون الذي ظغي وبغي ، أبلغ مثل وعظة ، فقد استكبر على قومه بأمواله الباهظة ، ولم تؤثر فيه الدعوة أو الموعظة ، فلم يفهم أن المال مال الله ، وأن الحياة ابتلاء من الله :
( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَي فَبَغَي عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولي القُوَّةِ إِذْ قَال لهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ، فماذا قال ؟ ( قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلمٍ عِندِي ) .. فنسب الفضل إلي نفسه ، وتناسي فضل ربه ، وتناسي أنه أمين في ملكه ، مبتلي بالمال إلي لوقت معلوم ، وبقاؤه على هذا الحال لا يدوم ، كما قال سبحانه وتعالي : ( أَوَلمْ يَعْلمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلكَ مِنْ قَبْلهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ المُجْرِمُونَ ) فلم يتذكر ولم يعبأ ، وخرج متزينا يهزأ بدين الله ، وكأن الله ما أعطاه شيئا من نعمه ( فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِه) .
رغب في مدحهم وثنائهم ليعلم الناس عزه وسلطانه ، ويعظموا من قدره وشانه ، وصار فتنه للناس حتى تمنوا مكانه ( قَال الذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنيَا يَا ليْتَ لنَا مِثْل مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ، فقال المخلصون العابدون ، المؤمنون بأنهم في الأرض مستخلفون ، وأن الملك لسيدهم وليس لقارون : ( وَيْلكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لمَنْ آمَنَ وَعَمِل صَالحًا وَلا يُلقَّاهَا إِلا الصَّابِرُون ) .
فصدر حكم الله على قارون وحكم ببغيه وعصيانه ، وظلمه وطغيانه ، وأن يكون عبرة لنظرائه وأقرانه ، فشق الأرض تحت أقدامه فانطبقت عليه ، وجاءه ملك الموت يعيده فقيرا لعزة الله وسلطانه : ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ ) هذا جزاء المستكبرين الظالمين ، ليعود الناس إلي التوحيد ، وإلي فطرة المخلصين من العبيد ، الذين لا ينازعون الله في ملكه ، أو يطمعون في شيء من حقه : ( وَأَصْبَحَ الذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَليْنَا لخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلحُ الكَافِرُونَ ) (القصص:82) فأدركوا عند ذلك أن الله هو المالك وأنه سبحانه وتعالي هو الخالق الرازق فقالوا مقرينبعد أن كانوا في الحياة راغبين :
( لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ) (القصص:82) وكأنهم يقولون : لولا أن من الله علينا بفقرنا لخسف بنا ، فأصبح الفقر نعمة ومنة ، والرضا بالمقسوم حكمة وفطنة ، فبئس المال الذي يجعل صاحبه في هذا الحال ، فإياك إياك مهما منحك الله وأعطاك ، إياك من العلو والاستكبار لأن الله هو الملك الجبار : ( تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الارْضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ ) (القصص: 83) .
واعلم أن الغني لا يكرمه الله ، إلا إذا شكر ربه شكر الزاهدين ، وصبر على إغراء المال ومقاومته صبر الموقنين الموحدين ، وعاد فقيراً بماله إلي ربه ، ينسب الملك والفضل لرب العالمين ، فإن الله أعطي المال والنبوة لأبي الأنبياء وإمام الحنفاء إبراهيم ، وأعطي الملك والسلطان لداود وسليمان عليهم الصلاة والسلام أجمعين، فكانوا في ملكهم موحدين عابدين ، مخلصين زاهدين ، وكانوا أمناء في الأرض مستخلفين ،فقال عن سليمان عليه السلام : ( وَوَهَبْنَا لدَاوُودَ سُليْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (ص:30) فأنعم به من عبدعلى الرغم من كونه كان قويا غنيا ، وملكا نبيا ، لديه الدنيا بأسرها ، وبهجةُ الحياة بأنواعها ، فانظر إلي قول سليمان وتوحيده لرب العالمين ،عندما رأي عرش بلقيس منقولا من اليمن إلي فلسطين ، ومستقرا بين يديه بقدرة الله :
( قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ) (النمل:40) فالفضل ليس لي ولا لجندي ، وإنما هو فضل ربي ، وقد استرعاني في ملكه واستخلفني ( ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (النمل:40) فهو المنفرد بالتوحيد في الغني ، لا يساميه ولا يساويه أحد من خلقه ، فلا غني يرقي إلي غناه ، ولا على يسموا إلي علاه ( هل تعلم له سميا ) (مريم:65) .
وهذا نبي الله داود أعطاه الله الملك ، فأطاع فيه ربه ومالكه ، وأظهر فقره موحدا خالقه وقال تعالى عن داود u ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الايْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (ص:20:17) ( وَإِنَّ لهُ عِنْدَنَا لزُلفي وَحُسْنَ مَآبٍ ) (ص:25)وهذا إبراهيم u أسلم لله وأخلص له ، وخضع لله محبا له معظما إياه ، في كل ما منحه وأعطاه ، من مال وجاه ، ولما تعلق قلبه بولده الذي تمناه ، وعلمه ورباه، ابتلاه الحق بذبح ولده ، ليكون خالصا بحبه لربه .
واعلموا أيها المخلصون أن الله إذا ضيق الرزق على إنسان فلا يعني ذلك أنه مهان ، فالفقير لا يهانإلا باعتراضه على المقسوم من قدره ، أو خجله من فقره وحسده وحقده ، يحقد الفقير على الأغنياء ويعترض على مر القضاء ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ على مَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْله ) (النساء:54) فالحسد داء ليس له دواء ، إلا الرضا بالقضاء .
فوجب على الموحدين أن يتمنوا السعادة للآخرين ، وأن يسألوا رب العالمين ، أن يمنحهم من فضله وعطائه ومدده ونعمائه ، فمن ابتلاه الله بالفقرفلم يصبر على بلواه ، لم يأخذ إلا ما قدره الله ، وسوف يهان في الدنيا والآخرة ، سيجمع بين التعاستين ، ويهينه الله مرتين ، مرة في الدنيا بحقده وحرمانه ومرة في الآخرة بعذابه وكفرانه ، فالفقير الصابرله أسوة في رسول الله r ، نشأ يتيما في لوعة اليتم فآواه الله ورعاه ، وحنن عليه القلوب بعد أن أمات أباه ،ربط الحجر على بطنه r من شدة الجوع ، ومات ولده وقرة عينه حتى سالت من عينه الدموع ، وأدماه قومه وطال نومه على الحصير ، حتى أثر في جنبه وعمر رضي الله عنه يبكي ويعجب ، ويقول ويتعجب : كسري وقيصر في الثمار والأنهار ، ورسول الله يطوي بطنه بالليل والنهار ، كل هذا حدث له وهو صاحب المقام واللواء ، وإمام الأنبياء وسيد الشفعاء عليه أفضل الصلاة والسلام .
فالإخلاص يوجب على العبد أن يوحد الله في أوصاف الربوبية ، فإذا ظلم العبد نفسه وخلع رداء العبودية ، لينازع ربه في وصف الربوبية ، أو يشاركه في العلو والكبرياء ، وعظمة الأوصاف والأسماء ، فليس للظالم إلا الشقاء والحرمان ، ودوام العذاب في النيران ، ( يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَل في الحديث القدسي : الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ r في الحديث الذي رواه الإمام مسلم قَال : ( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) ، فإن لم تكن عبدا لربك تعتقد أنك وما خولك وملكك خالصا له خاضعا لأمره ، فإنك تطمع إلي تأليه نفسك والخروج عن وصفك ، فتدعي لنفسك ما ادعاه فرعون من أوصاف الربوبية .
فأين الإخلاص والتوحيد الذي أمر الله به نبيه r فقال له : ( إِنَّا أَنزَلنَا إِليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدْ اللهَ مُخْلصًا لهُ الدِّينَ أَلا للهِ الدِّينُ الخَالصُ ) (الزمر:2) وأمرنا أن نتأسي به فقال : ( هُوَ الحَيُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ) (غافر:65) وقد جعل الله طريقا واحدا للنجاه ، هو السبيل لمن أراد الخلاص في دنيه ودنياه ، ألا وهو طريق الإخلاص والتوحيد ، فأي عمل لا يقبل عند الله إلا بشرطين اثنين :
1- الشرط الأول : هو الإخلاص لله بتوحيد الحق ونبذ الشرك ، وهذا تفسير الركن الأول من شهادة التوحيد وقول العبد أشهد ألا إله إلا الله ، يقول تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَل ضَلالا بَعِيدًا ) (النساء:116) وقد ورد في تفسير الركن الأول من شهادة الإسلام – أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله – ورد حديث قدسي رواه الإمام مسلم 2985 عن أَبِي هُرَيْرَةَ عن النبي r قال : قَال اللهُ تَبَارَكَ وَتعالي : ( أَنَا أَغْنَي الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِل عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَه ) .
2- أما الشرط الثاني في قبول العمل : فهو اتباع الرسول r وعدم الابتداع ، وهذا هو معني الركن الثاني من شهادة التوحيد وقول العبد : أشهد أن محمدا رسول الله ، وقد ورد أيضا في تفسير هذا الركن حديث نبوي رواه الإمام مسلم 1718 عن عَائِشَةَ عن النبي r قَال : ( مَنْ عَمِل عَمَلا ليْسَ عَليْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ) .
· واعلم عبد الله أن الإخلاص يمنع نوعين من الرياء :
(1- النوع الأول : هو الرياء الأكبر نعوذ بالله منه وهو النفاق الذي المخرج عن الملة كما كان شأن المنافقين ، أيام سيد الأنبياء والمرسلين ، كعبد الله بن أبي بن سلول وفرقته ، فإنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر والفسوق والعصيان ، وقد بين الله شأنهم في القرآن فقال : ( وَالذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ) (النساء:38) فهؤلاء أبعد ما يكون عن وصف المخلصين : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلي الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالي يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَليلا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلكَ لا إِلي هَؤُلاءِ وَلا إِلي هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلل اللهُ فَلنْ تَجِدَ لهُ سَبِيلا ) (النساء:143) وهذا الرياء من أعظم الكفر وصاحبه في الدرك الأسفل من النار .
(2- النوع الثاني من الرياء : الرياء الأصغر ومثاله التصنع للمخلوق وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة بل يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة أخرى ، ولطلب المنزلة والجاه عند الخلق تارة ثالثه ، فلله من عمله نصيب ولغيره منه نصيب ، وهذا هو الشرك الخفي وهو لا يخرج من الملة كالشرك الأكبر الجلي ولكنه ينقص ثواب العمل وقد يحبطه إذا ازاد واستفحل ، لقول الله في الحديث القدسي الذي رواه أَبو هُرَيْرَةَ عن النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : ( أَنَا أَغْنَي الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِل عَمَلا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَه ) .
روي أبو نعيم في حلية الأولياء أن الأمير عمر بن هبيرة الذي ولي إمارة العراق في عهد أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك بن مروان أرسل إلي أبي سعيد الحسن البصري وإلي أبي عمر الشعبي واستضافهما شهرا وفي ذات يوم دخل عليهما وهو يتوكأ على عصاه ، ثم جلس معظما لهما ، وقال للحسن البصري والشعبي : إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يرسل إلي كتبا وأوامر ، أعرف أن في تنفيذها الهلكة ، فإن أطعته عصيت الله ، وإن عصيته أطعت الله عز وجل ، فهل تجداني لي معه فرجا ومخرجا ؟
فقال الحسن البصري : يا أبا عمرو أجب الأمير ؟ فتكلم الشعبي بكلام فيه نفاق ، بأن يفعل ما يرضي أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك وواليه عمر بن هبيرة ، فقال عمر : ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال : أيها الأمير ، قد قال الشعبي ما قد سمعت ، فعاد عمر بن هبيرة كلامه وقال : ما تقول أنت يا أبا سعيد ، فقال : أقول يا ابن هبيرة ، يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى ، فظ غليظ لا يعصى الله ما أمره ، فيخرجك من سعة قصرك إلي ضيق قبرك ، يا عمر بن هبيرة ، إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك ، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل ، يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك نظرة مقت وأنت تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك ، فيغلق بها باب المغفرة دونك ، يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناسا من صدر هذه الأمة ، كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة ، أشد إدبارا من إقبالكم عليها وهي مدبرة ، يا ابن هبيرة إني أخوفك مقاما ، خوفكه الله ، فقال :
( ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ) (ابراهيم: من الآية14) يا ابن هبيرة ، إن تك مع الله تعالى في طاعته ، كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك ، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله ، وكلك الله إليه ، فبكي عمر بن هبيرة وقام بعبرته ، فلما كان من الغد أرسل إليهما بجائزة ، فكانت جائزة الحسن البصري أكبر من جائزة الشعبي ، فخرج الشعبي إلي المسجد يصيح : يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله تعالى على خلقه فليفعل ، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن البصري للأمير شيئا أجهله ، ولكني أردت وجه الأمير ولم أخلص لله فأقصاني الله منه .
فتعس عبد الدينار وعبد الدرهم ، روي البخاري 2887 من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ rأنه قال : ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ طُوبَي لعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيل اللهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنِ اسْتَأْذَنَ لمْ يُؤْذَنْ لهُ وَإِنْ شَفَعَ لمْ يُشَفَّعْ ) .
ومن علامات الإخلاص محبة الخير للغير والقيام على خدمتهم لوجه الله إنما نطعمكم ، لأن المخلص لا يحقد على أحد ، ولا يحسد أحد فلا مأرب له في الحياة ، إلا أن ينال رضا الله ، ومن ثم يتمني السعادة للآخرين ، ومن علامات الإخلاص أيضا الجرادة في الحق ، والغيرةُ من الكفر الشرك ، والرغبةُ في استقامة الخلق على طاعة الله عز وجل ، فهذه بعض علامات المخلصين ، وهذا هو حال الإخلاص الذي هو شرط من شروط لا إله إلا الله ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أن أستغفرك وأتوب إليك .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 09:55 PM   #6
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

افتراضي شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط الرابع الصدق المنافي للكذب
الحمد لله الذي تفرد بوحدانية الألوهية ، وتعزز بعظمة الربوبية ، القائم على نفوس العالم بآجالها ، والعالم بتقلبها وأحوالها ، المان عليهم بتواتر آلائه ، المتفضل عليهم بسوابغ نعمائه ، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا وزير ولا مشير ، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير ، فمضت فيهم بقدرته مشيئته ، ونفذت فيهم بعزته إرادته ، فألهمهم حسن الإطلاق ، وركب فيهم تشعب الأخلاق ، فهم على طبقات أقدارهم يمشون ، وعلى تشعب أخلاقهم يدورون وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون ، وكل حزب بما لديهم فرحون .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، فاطر السماوات العلا ، ومنشيء الأرضين والثري ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وأشهد أن محمدا عبده المجتبي ، ورسوله المرتضي ، بعثه على حين فترة من الرسل ودروس من السبل ، فدمغ به الطغيان ، وأكمل به الإيمان ، وأظهره على كل الأديان ، وقمع به أهل الأوثان ، فصلي الله عليه وسلم ما دار في السماء فلك ، وما سبح في الملكوت ملك وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد .
فحديثنا بإذن الله عن الشرط الرابع من شروط لا إله إلا الله ، التي جمعها الناظم في قوله رحمه الله :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها
وحديثناإن شاء الله يدور حول الصدق المنافي للكذب ، فالصدق عماد الإيمان ، وبه تمامه وفيه نظامه ، والصديقون يعقبون النبيين ، كما قال الله رب العالمين : ** فَأُوْلئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ** (النساء/69) ، وأقل الصدق استواء السر والعلانية ، والصادق من صدق في أقواله ، والصديق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، قال الله تعالى : ** يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ** ، فليس للعبد شيء ، أنفعُ من الصدق مع ربه ، والصدق في تنفيذ أمره ، والصدق في عزمه وفعله ، قال تعالى : (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلوْ صَدَقُوا اللهَ لكَانَ خَيْرًا لهُمْ ) .
فالعبد سعادته في صدق عزيته ، وصدق حركته وسكنته ، فصدق العزيمة جمعها وجزمها ، بحيث لا يشوبها تردد ، فإذا صدق في عزيمته ، بقي عليه الصدق في حركته وسكنته ، فيستفرغ وسعه في رضا الله وطاعته ، ويبذل جهده في ابتغاء قربه ومحبته ، وألا يتخلف عن عبوديته بشيء من ظاهره أو سريرته ، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف إرادته ، وصدق الفعل يمنعه من فتور همته ، ومن صدق الله في جميع الأمور ، صدق في التوكل عليه وصح الإخلاص لديه ، ونجاه الله عند البلاء ، ورفع عنه أسباب الشقاء ، خطب الحجاج بن يوسف الثقفي فأطال في الخطبة ، فقام رجل من المسلمين فقال : الصلاة يا حجاج ، فان الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك ، فأمر الحجاج بحبسه ، فأتاه قومه ، وزعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله ، فقال الحجاج : إن أقر بالجنون خليت سبيله ، فقالوا لهذا المسجون : قل للحجاج إنك مجنون ، فقال : معاذ الله ، والله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني ، فبلغ ذلك الحجاج فقال : عفوت عنه لصدقه .
وخطب بلال رضي الله عنه لأخيه امرأة من قريش ، فقال لأهلها نحن من قد عرفتم ، كنا عبدين فأعتقنا الله تعالى وكنا ضالين فهدانا الله تعالى ، وكنا فقيرين فأغنانا الله تعالى ، وأنا أخطب إليكم ابنتكم لأخي ، فان تنكحوها له فالحمد لله تعالى ، وإن تردونا فالله أكبر ، فأقبل بعضهم على بعض ، فقالوا : بلال ممن عرفتم سابقته ، وعلمتم مكانته من رسول الله ، فزوجوا أخاه فزوجوه ، فلما انصرفوا قال له أخوه : يغفر الله لك يا بلال ، أما كنت تذكر سوابقنا ومشاهدنا مع رسول الله ، وتترك ما عدا ذلك ؟ فقال : مه يا أخي ، إنما صدقتُ فأنكحك الصدق .
وقال الله تعالى في وصف المتقين الصادقين : ( ليْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَل المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَأتي المَال على حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَي وَاليَتَامَي وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيل وَالسَّائِلينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَأتي الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلئِكَ الذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلئِكَ هُمْ المُتَّقُونَ ) .
وعند البخاري من حديث أَنَس بن مالك رَضِي الله عَنْه أنه قَال : غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ القِتَال في بَدْرٍ ، فَقَال : يَا رَسُول اللهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّل قِتَالٍ قَاتَلتَ المُشْرِكِينَ فيه ، لئِنِ اللهُ أَشْهَدَنِي قِتَال المُشْرِكِينَ ، ليَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ ، فَلمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ المُسْلمُونَ ، قَال : اللهم إِنِّي أَعْتَذِرُ إِليْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ – يعني جيش المؤمنين ، وَأَبْرَأُ إِليْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، فَقَال : يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ ، إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ ، قَال : سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُول اللهِ مَا صَنَعَ ، قَال أَنَسٌ : فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ ، أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِل ، وَقَدْ مَثَّل بِهِ المُشْرِكُونَ ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلا أُخْتُهُ – عرفته - بِبَنَانِهِ ، فنزل فيه قول الله تعالى : ( مِنْ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَليْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَي نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) .
وروي الإمام مسلم بسنده عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : إِنَّ أَهْل الجَنَّةِ ليَتَرَاءَوْنَ أَهْل الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ مِنَ الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ ، لتَفَاضُل مَا بَيْنَهُمْ قَالُوا : يَا رَسُول اللهِ تِلكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ ، قَال : وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلينَ .
· وربما يسأل سائل عن ماهية الصدق ؟ ما هي حقيقته الصدق ؟
الصدق أصله من الموافقة والمصادقة ، والمصاحبة والمطابقة ، وسمي الصاحب صاحبا لمصادقته صحبه في أغلب الأمور ، ومناصحته بالصدق في الشدة والسرور ، فالمصادقة هي الموافقة والملاقاة ، فإذا توافق قول الجنان مع قول اللسان وفعل الجنان مع حركة الأبدان ، ظهرت معاني الصدق في الإنسان ، وإن اختلف قول القلب مع قول اللسان وفعل القلب مع فعل الأبدان ، ظهرت لنا حقيقة الكذب والخيانة ، والنفاق والغدر وعدم الأمانة ، فالصدق مطابقة القول والفعل في الظاهر ، للقول والفعل في الباطن ، فإن إخوة يوسف عليه السلام لم يصدقوا عندما : ** قَالوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لنَا وَلوْ كُنَّا صَادِقِينَ ** (يوسف/17) ، لم يصدقوا لأن العلم الذي هو قول الجنان خالف الشهادة التي هي قول اللسان ، ولكن لما توافق العلم مع الشهادة ، وتطابق قول الجنان مع قول اللسان ، ظهر صدقهم في قولهم : ** يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلمْنَا وَمَا كُنَّا للغَيْبِ حافِظِينَ وَاسْأَل القرىةَ التِي كُنَّا فِيهَا وَالعِيرَ التِي أَقْبَلنَا فِيهَا وَإِنَّا لصَادِقُونَ ** .
وكذلك كذب تسعة رهط من قوم صالح عن علم ، لما اجتمع رأيهم على قتله ، وأرادوا القضاء على أهله ، كما قال تعالى في شأنهم وادعائهم لصدقهم : **وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلهُ ثُمَّ لنَقُولنَّ لوَليِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلكَ أَهْلهِ وَإِنَّا لصَادِقُونَ ** .
أما إن اتفق فعل القلب الذي هو النية والإرادة ، مع فعل البدن الذي هو القدر والاستطاعة ، وتوافق الفعل الظاهر مع الفعل الباطن ظهر الصدق في الأفعال ، كما روي عن عبد الله بن عباس أنه قال : ( مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللمَمِ مِمَّا قَال أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إِنَّ اللهَ كَتَبَ على ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلكَ لا مَحَالةَ فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللسَانِ المَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تتَمَنَّي وَتَشْتَهِي وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلكَ كُلهُ وَيُكَذِّبُه ) ، وهو حديث صحيح وراه البخاري ، وروي الإمام أحمد بإسناد الثقات عن خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنصارى أنه رَأي فِي المَنَامِ أَنَّهُ سَجَدَ على جَبْهَةِ النَّبِيَّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَأَخْبَر رسول الله بذلك ، فَاضْطَجَعَ لهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَقَال له صَدِّقْ بِذَلكَ رُؤْيَاكَ ، فَسَجَدَ على جَبْهَةِ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ) ، وقال تعالى عن إسماعيل عليه الصلاة والسلام : ** وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيل إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا ** (مريم/54) .
ومن معاني الصدق مطابقة الخبر للحقيقة ، ووقوعه على نحو يتوافق معها ، فعند البخاري من حديث أبي هريرة t قَال : شَهِدْنَا خَيْبَرَ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ لرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الإِسْلامَ ، هَذَا مِنْ أَهْل النَّارِ فَلمَّا حَضَرَ القِتَالُ ، قَاتَل الرَّجُلُ أَشَدَّ القِتَال حتى كَثُرَتْ بِهِ الجِرَاحَةُ ، فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْتَابُ ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ أَلمَ الجِرَاحَةِ ، فَأَهوى بِيَدِهِ إِلي كِنَانَتِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَسْهُمًا فَنَحَرَ بِهَا نَفْسَهُ ، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ المُسْلمِينَ ، فَقَالُوا يَا رَسُول اللهِ صَدَّقَ اللهُ حَدِيثَكَ ، انْتَحَرَ فُلانٌ فَقَتَل نَفْسَهُ ، فَقَال : قُمْ يَا فُلانُ ، فَأَذِّنْ - في الناس - أَنَّهُ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلا مُؤْمِنٌ ، إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ الدِّينَ بِالرَّجُل الفَاجِرِ ) .
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : ( دخلت على عَجُوزَانِ مِنْ – اليهود - ، فقالتا لي : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم فَكَذَّبْتُهُمَا وَلمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا فخرجتا ، ودخل على النبي e ، فأخبرته ، فقال : صَدَقَتَا إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ كُلهَا ) .
والصدق يطلق على تنفيذ الوعد والوفاء بالعهد ، أو مطابقة الفعل لما تم في شروط العقد ، وإن لم يفعل المرء كان كاذبا منافقا ، ولم يكن في عهده صادقا ، قال تعالى عن عمن قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم : (وَليَعْلمَ الذِينَ نَافَقُوا وَقِيل لهُمْ تَعَالوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيل اللهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لوْ نَعْلمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ للكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا ليْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) وقال تعالى : ** وَإِذَا قِيل لهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ للمُكَذِّبِينَ ** (المرسلات/48) ، ومن السنة عند البخاري عن طَلحَةَ بْنَ عُبَيْد ِاللهِ قال : جَاءَ رَجُلٌ إِلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مِنْ أَهْل نَجْدٍ ، ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ ، وَلا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ ، حتى دَنَا – من النبي صلي الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : خَمْسُ صَلوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَالليْلةِ ، فَقَال : هَل على غَيْرُهَا ؟ قَال : لا إِلا أَنْ تَطَوَّعَ ، قَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَصِيَامُ رَمَضَانَ ، قَال : هَل على غَيْرُهُ ؟ قَال : لا إِلا أَنْ تَطَوَّعَ ، قَال : وَذَكَرَ لهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ الزَّكَاةَ ، قَال : هَل على غَيْرُهَا ؟ قَال : لا إِلا أَنْ تَطَوَّعَ ، قَال : فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ : وَاللهِ لا أَزِيدُ على هَذَا وَلا أَنْقُصُ ، قَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : أَفْلحَ إِنْ صَدَقَ .
وروي البخاري عن أبي هريرة t ، قال : ( لمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ ، أُهْدِيَتْ للنَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ ، فَقَال النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ اجْمَعُوا إِليَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ ، فَجُمِعُوا لهُ ، فَقَال : إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَل أَنْتُمْ صَادِقِيَّ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ ، قَال : لهُمُ النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ مَنْ أَبُوكُمْ ؟ قَالُوا : فُلانٌ ، فَقَال : كَذَبْتُمْ بَل أَبُوكُمْ فُلانٌ ، قَالُوا صَدَقْتَ ، قَال : فَهَل أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلتُ عَنْهُ ، فَقَالُوا : نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا ، فَقَال لهُمْ : مَنْ أَهْلُ النَّارِ ، قَالُوا : نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا ، فَقَال النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : اخْسَئُوا فِيهَا ، وَاللهِ لا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا ، ثُمَّ قَال : هَل أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلتُكُمْ عَنْهُ ، فَقَالُوا : نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ ، قَال : هَل جَعَلتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَال : مَا حَمَلكُمْ على ذَلكَ ؟ قَالُوا : أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لمْ يَضُرَّكَ .
وهنا سؤال ؟ كيف يكون الصدق شرطا من شروط كلمة التوحيد ؟ الصدق المنافي للكذب شرط من شروط لا إله إلا الله ، ويلزم في ذلك أن يقول العبد لا إله إلا الله صدقا من قلبه يتوافق القلب واللسان عند النطق بها ، ويرسخ في اعتقاده الصدق بها ، ومهما ابتلي في الحياة فلن يشك في صدقها ، قال الله تعالى : ( الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَليَعْلمَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَليَعْلمَنَّ الكَاذِبِينَ ) .
وقال تعالى في شأن المنافقين ، الذين قالوا آمنا وهم غير صادقين : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللهُ مَرَضًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) ، وكم ذكر الله تعالى من شأنهم ، وأبدي للناس سوء نفاقهم ، وأظهر ما كان في قلوبهم ، وبين للجميع عدم صدقهم ، وفضحهم وكشف سترهم ، وأنزل سورة كاملة في شأنهم وغير ذلك من سور القرآن ، وفي الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار ) ، فاشترط النبي صلي الله عليه وسلم لقائلها حتى ينجو من النار ، أن يقولها صدقا من قلبه ، وعزما على تنفيذ أمره ، فلا ينفعه مجرد اللفظ بدون مواطأة القلب ، فلا بد في الصدق من تنفيذ العهد ، الذي قطعه العبد على نفسه بشهادة التوحيد ، والوعد الذي سيؤدي فيه حق الله على العبيد ، أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا .
كيف يكون الصدق شرطا من شروط لا إله إلا الله ؟ إذا عاهدت من أحببت على أن تشهد في المحكمة أنه برئ من تهمة القتل ، وقد رأيته بريئا بالفعل ، وأنت تعلم أنك سبب نجاته ، وشهادتك بالحق فيها بقاء حياته ، ثم جاء يوم الحكم ، فأقسمت أمام القاضي على أن تقول الحق ، ولا شيء غير الصدق ، ثم كذبت أمام القاضي وأخلفت ، 8وشهدت بقول الزور وبالغت ، حتى حكم القاضي على صحبك بالإعدام ، ونفذ فيه الحكم بعد أيام ، ألا تستحق لعدم الصدق ، أن تكون أتعس الخلق ، وأن تستحق أشد العذاب ، وتستوجب أسوأ العقاب ؟
فكيف يا من عاهدت الله على أن تنقذ نفسك من النار ، وأن تفر من غضب الجبار ، لما حذرك الله تعالى فقال : (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَليمُ ) ، وأي عذاب أشد من عذاب رب العالمين كما قال تعالى في شأن الكافرين : ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لكُل بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ ) ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) .
فأنت عندما شهدت ألا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه ، عاهدت الله على أن تنقذ نفسك بالطاعة والعبادة ، وأنك صادق عند النطق بهذه الشهادة ، ستصدق الله في خبره وتطيعه في أمره ، وتتقيه ولا تعصيه ، لكنك بعد هذا العهد ، هل وفيت بشروط العقد ، العقد الذي بينك وبين الله ، والذي التزمت فيه عند قولك لا إله إلا الله بتنفيذ أوامره دون عصيان ، وأن يكون خُلُقُكَ هو القرآن ، فلو سألت هل صليت ؟ ما جوابك ؟ تقول : ما صليت ، هل زكيت وزرت البيت ؟ ما جوابك ؟ تقول : ما أديت الفرض ولا زكيت ، هل اتقيت الله في عملك وأخلصت أم ظلمت وتعاليت وارتشيت ؟ هل انتبهت وتذكرت الموت ؟
تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا - وتدعوك المنون دعاء صدق ألا يا صاح أنت أريد أنتا
أراك تحب عرسا ذات غدر أبت طلاقها الأكياس بتا - تنام الدهر ويحك في غطيط بها حتى إذا مت انتبهتا
فكم ذا أنت مخدوع وحتى متي لا ترعوي عنها وحتى

فليست هذه الدنيا بشيء تسوؤك حقبة وتسر وقتا

وغايتها إذا فكرت فيها كظلك أو كحلمك إن حلمتا - سُجنت بها وأنت لها محب فكيف تحب ما فيه سجنتا
وتطعمك الطعام وعن قريب ستطعم منك ما منها طعمتا - وتشهد كل يوم دفن خل كأنك لا تراد بما شهدتا

ولم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها فجدَّ لما خُلقتا - وإن هُدمت فزدها أنت هدما وحصِّن أمر دينك ما استطعتا
ولا تحزن على ما فات منها إذا ما أنت في أخراك فزتا - فليس بنافع ما نلت فيها من الفاني إذا الباقي حرمتا
ولا تضحك مع السفهاء لهوا فإنك سوف تبكي إن ضَحِكْتا
وسل من ربك التوفيق فيها وأخلص في السؤال إذا سألتا
وناد إذا سجدت له اعترافا بما ناداه ذو النون بن متي - ولازم بابه قرعا عساه سيفتح بابه لك إن قرعتا
وأكثر ذكره في الأرض دأبا لتذكر في السماء إذا ذكرتا - ولا تقل الصبا فيه مجال وفكر كم صغير قد دفنتا
وقل لي يا ناصحي لأنت أولي بنصحك لو بعقلك قد نظرتا .
إن من أسوا ما يقع فيه الإنسان أن يصدق في وعده مع الناس ، ويخلف وعده وينقض عهده مع ملك الناس إله الناس : ( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرضي مِنْ القَوْل وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) .
في كل مرة تعصيه وتقول سأتوب عما أن فيه ، حتى تستمرؤ العصيان وتلزم حزب الشيطان ، وتتشبه بأهل الكفر والفسوق والعصيان ، تفعل أفعال الكافرين الذين يستحقرون الدين ويبغضون المؤمنين ، فتسير خلفهم شبرا بشر ، وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلته خلفهم ، ولبست لباسهم ، وتعريت مثلهم ، وشربت خمرهم وألفت سكرهم ، وطعمت بيسراك طعامهم ، وشاهدت في التلفاز فسقهم ، ونشرت بجهلك فكرهم ، وقلدت بغبائك أفعالهم ، وخرجت عن وصفك ، وواليتهم على بني جنسك ، ثم سميت ذلك حضارة ، وتحررا واستنارة ، ثم تأتي وتقول أنا مسلم أشهد ألا إله إلا الله ، ولن أغير حيأتي وسأبقي على هذا إلي يوم وفأتي ، أتكذب على نفسك ، أين الصدق في عهدك لربك ؟ لا إله إلا الله ليست مجردَ كلمة خرجت من اللسان ، لا شروط لها ولا أركان ، إن عبدا قلبه عامر بالإيمان ، وقع في شيء من العصيان ، خاصمه المصطفي عليه الصلاة والسلام قرابة الشهرين حتى صدق في توبته ، وكفر عن ذنبه وخطيئته ، روي البخاري بسنده من حديث كَعْبِ بْنَ مَالكٍ رضي الله عنه حِينَ تَخَلفَ عَنْ غزوة تَبُوكَ ، قَال كَعْبٌ :
لمْ أَتَخَلفْ عَنْ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ ، وَلمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلفَ عَنْهَا ، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ ، حتى جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ على غَيْرِ مِيعَادٍ ، وَلقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ليْلةَ العَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا على الإِسْلامِ ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا ، كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لمْ أَكُنْ قَطُّ ، أَقْوَي وَلا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلفْتُ عَنْهُ فِي تِلكَ الغَزَاةِ ، وَاللهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلهُ رَاحِلتَانِ قَطُّ ، حتى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلكَ الغَزْوَةِ ، وَلمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يُرِيدُ غَزْوَةً ، إِلا وَرَّي بِغَيْرِهَا حتى كَانَتْ تِلكَ الغَزْوَةُ ، غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ ، وَاسْتَقْبَل سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا ، فَجَلي للمُسْلمِينَ أَمْرَهُمْ ، ليَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الذِي يُرِيدُ ، وَالمُسْلمُونَ مَعَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ كَثِيرٌ ، وَلا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ - يُرِيدُ الدِّيوَانَ ديوان الجند - قَال كَعْبٌ :
فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفي مَا لمْ يَنْزِل فِيهِ وَحْيُ اللهِ ، وَغَزَا رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ تِلكَ الغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلالُ ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَالمُسْلمُونَ مَعَهُ ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلمْ أَقْضِ شَيْئًا ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَليْهِ ، َلمْ يَزَل يَتَمَادَي – الوسواس - بِي حتى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَالمُسْلمُونَ مَعَهُ ، وَلمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا ، فَقُلتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلحَقُهُمْ ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ ، فَرَجَعْتُ وَلمْ أَقْضِ شَيْئًا ، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلمْ أَقْضِ شَيْئًا ، فَلمْ يَزَل بِي حتى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِل فَأُدْرِكَهُمْ وَليْتَنِي فَعَلتُ ، فَلمْ يُقَدَّرْ لي ذَلكَ ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَطُفْتُ فِيهِمْ ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لا أَرَي إِلا رَجُلا مَغْمُوصًا عَليْهِ النِّفَاقُ ، أَوْ رَجُلا مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ ، وَلمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ حتى بَلغَ تَبُوكَ ، فَقَال وَهُوَ جَالسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ مَا فَعَل كَعْبٌ ، فَقَال رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلمَةَ يَا رَسُول اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ ، فَقَال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ :
بِئْسَ مَا قُلتَ ، وَاللهِ يَا رَسُول اللهِ مَا عَلمْنَا عَليْهِ إِلا خَيْرًا ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، قَال كَعْبُ بْنُ مَالكٍ : فَلمَّا بَلغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلا ، حَضَرَنِي هَمِّي وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الكَذِبَ ، وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا ، وَاسْتَعَنْتُ على ذَلكَ بِكُل ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلي ، فَلمَّا قِيل إِنَّ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَدْ أَظَل قَادِمًا ، زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَادِمًا ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ ، فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلسَ للنَّاسِ فَلمَّا فَعَل ذَلكَ جَاءَهُ المُخَلفُونَ ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِليْهِ وَيَحْلفُونَ لهُ ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا ، فَقَبِل مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ عَلانِيَتَهُمْ ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لهُمْ ، وَوَكَل سَرَائِرَهُمْ إِلي اللهِ ، فَجِئْتُهُ ، فَلمَّا سَلمْتُ عَليْهِ ، تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ ، ثُمَّ قَال :
تَعَال ، فَجِئْتُ أَمْشِي حتى جَلسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَال لي : مَا خَلفَكَ أَلمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ، فَقُلتُ بَلي : إِنِّي وَاللهِ لوْ جَلسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْل الدُّنْيَا ، لرَأَيْتُ أَني سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلا ، وَلكِنِّي وَاللهِ لقَدْ عَلمْتُ ، أنني إن حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ ، تَرضي بِهِ عَنِّي ، ليُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ على ، وَلئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ على فِيهِ ، إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللهِ ، لا وَاللهِ يا رسول الله ، مَا كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ ، وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَي وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلفْتُ عَنْكَ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ ، فَقُمْ حتى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ ، فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلمَةَ فَاتَّبَعُونِي ، فَقَالُوا لي :
وَاللهِ مَا عَلمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْل هَذَا ، وَلقَدْ عَجَزْتَ أَنْ تعتذر إِلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِليْهِ المُتَخَلفُونَ ، قدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ ، اسْتِغْفَارُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ لكَ ، فَوَاللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حتى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ ، فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ، ثُمَّ قُلتُ لهُمْ هَل لقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، رَجُلانِ قَالا مِثْل مَا قُلتَ ، فَقِيل لهُمَا مِثْلُ مَا قِيل لكَ ، فَقُلتُ : مَنْ هُمَا ؟
قَالُوا : مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العَمْرِيُّ وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ ، فَذَكَرُوا لي رَجُليْنِ صَالحَيْنِ ، قَدْ شَهِدَا بَدْرًا ، فِيهِمَا أُسْوَةٌ ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لي ، وَنَهي رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ المُسْلمِينَ عَنْ كَلامِنَا ، نحن الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلفَ عَنْهُ ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لنَا ، حتى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ ، فَمَا هِيَ التِي أَعْرِفها ، فَلبِثْنَا على ذَلكَ خَمْسِينَ ليْلةً ، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ القَوْمِ وَأَجْلدَهُمْ ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ المُسْلمِينَ ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلمُنِي أَحَدٌ ، وَآتِي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأُسَلمُ عَليْهِ وَهُوَ فِي مَجْلسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَل حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ على أَمْ لا ، ثُمَّ أُصَلي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ ، فَإِذَا أَقْبَلتُ على صَلاتِي أَقْبَل إِليَّ ، وَإِذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي ، حتى إِذَا طَال على ذَلكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ ، مَشَيْتُ حتى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِليَّ فَسَلمْتُ عَليْهِ ، فَوَاللهِ مَا رَدَّ على السَّلامَ .
فَقُلتُ : يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللهِ هَل تَعْلمُنِي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولهُ ؟ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ ، فَعُدْتُ لهُ فَنَشَدْتُهُ ، فَقَال : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَليْتُ حتى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ ، قَال : فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ ، إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْل الشَّأْمِ ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالمَدِينَةِ ، يَقُولُ : مَنْ يَدُلُّ على كَعْبِ بْنِ مَالكٍ ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لهُ ، حتى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِليَّ كِتَابًا مِنْ مَلكِ غَسَّانَ ، فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ ، وَلمْ يَجْعَلكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلا مَضْيَعَةٍ ، فَالحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ فَقُلتُ لمَّا قَرَأْتُهَا :
وَهَذَا أَيْضًا مِنَ البَلاءِ ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا ، حتى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ ليْلةً مِنَ الخَمْسِينَ ، إِذَا رَسُولُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَأْتِينِي ، فَقَال إِنَّ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِل امْرَأَتَكَ ، فَقُلتُ : أُطَلقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ ؟ قَال : لا بَل اعْتَزِلهَا وَلا تَقْرَبْهَا ؟ وَأَرْسَل إِلي صَاحِبَيَّ مِثْل ذَلكَ ، فَقُلتُ لامْرَأَتِي : الحَقِي بِأَهْلكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ ، حتى يَقْضِيَ اللهُ فِي هَذَا الأَمْرِ ، قَال كَعْبٌ : فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلال بْنِ أُمَيَّةَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَقَالتْ : يَا رَسُول اللهِ إِنَّ هِلال بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ ، ليْسَ لهُ خَادِمٌ ، فَهَل تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ ؟
قَال : لا ، وَلكِنْ لا يَقْرَبْكِ ، قَالتْ : إِنَّهُ وَاللهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلي شَيْءٍ ، وَاللهِ مَا زَال يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلي يَوْمِهِ هَذَا ، فَقَال لي بَعْضُ أَهْلي لوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فِي امْرَأَتِكَ ، كَمَا أَذِنَ لامْرَأَةِ هِلال بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ ، فَقُلتُ : وَاللهِ لا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ ، فَلبِثْتُ بَعْدَ ذَلكَ عَشْرَ ليَالٍ ، حتى كَمَلتْ لنَا خَمْسُونَ ليْلةً ، مِنْ حِينَ نَهي رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ عَنْ كَلامِنَا .
فَلمَّا صَليْتُ صَلاةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ ليْلةً ، وَأَنَا على ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا ، فَبَيْنَا أَنَا جَالسٌ على الحَال التِي ذَكَرَ اللهُ ، قَدْ ضَاقَتْ على نَفْسِي وَضَاقَتْ على الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ ، أَوْفي على جَبَل سَلعٍ بِأَعلى صَوْتِهِ ، يَا كَعْبُ بْنَ مَالكٍ أَبْشِرْ ، قَال فَخَرَرْتُ سَاجِدًا ، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ ، وَآذَنَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِتَوْبَةِ اللهِ عَليْنَا ، حِينَ صَلي صَلاةَ الفَجْرِ ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا ، وَذَهَبَ قِبَل صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ ، وَرَكَضَ إِليَّ رَجُلٌ فَرَسًا ، وَسَعَي سَاعٍ مِنْ أَسْلمَ فَأَوْفي على الجَبَل، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ ، فَلمَّا جَاءَنِي الذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي ، نَزَعْتُ لهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ ، وَاللهِ مَا أَمْلكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلبِسْتُهُمَا ، وَانْطَلقْتُ إِلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَيَتَلقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ ، يَقُولُونَ لتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَليْكَ .
قَال كَعْبٌ : حتى دَخَلتُ المَسْجِدَ ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ جَالسٌ حَوْلهُ النَّاسُ ، فَقَامَ إِليَّ طَلحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حتى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي ، وَاللهِ مَا قَامَ إِليَّ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ وَلا أَنْسَاهَا لطَلحَةَ ، قَال كَعْبٌ فَلمَّا سَلمْتُ على رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، قَال وَوَجْهُهُ يَبْرُقُ مِنَ السُّرُورِ ، أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَليْكَ مُنْذُ وَلدَتْكَ أُمُّكَ ، قَال قُلتُ : أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُول اللهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، قَال : لا بَل مِنْ عِنْدِ اللهِ ؟
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حتى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلكَ مِنْهُ ، فَلمَّا جَلسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، قُلتُ يَا رَسُول اللهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلعَ مِنْ مَالي صَدَقَةً إِلي اللهِ وَإِلي رَسُول اللهِ ، قَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَمْسِكْ عَليْكَ بَعْضَ مَالكَ فَهُوَ خَيْرٌ لكَ ، قُلتُ : فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الذِي بِخَيْبَرَ ، فَقُلتُ يَا رَسُول اللهِ إِنَّ اللهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لا أُحَدِّثَ إِلا صِدْقًا مَا بَقِيتُ ، فَوَاللهِ مَا أَعْلمُ أَحَدًا مِنَ المُسْلمِينَ أَبْلاهُ اللهُ فِي صِدْقِ الحَدِيثِ ، مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلكَ لرَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلانِي ، مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلكَ لرَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إِلي يَوْمِي هَذَا كَذِبًا ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللهُ فِيمَا بَقِيتُ ، وَأَنْزَل اللهُ على رَسُولهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ :
( لقَدْ تَابَ اللهُ على النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَليْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعلى الثَّلاثَةِ الذِينَ خُلفُوا حتى إِذَا ضَاقَتْ عَليْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَليْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلجَأَ مِنْ اللهِ إِلا إِليْهِ ثُمَّ تَابَ عَليْهِمْ ليَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ مَا كَانَ لأَهْل المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلفُوا عَنْ رَسُول اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيل اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لهُمْ ليَجْزِيَهُمْ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
يقول كعب : فَوَاللهِ مَا أَنْعَمَ اللهُ على مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ ، بَعْدَ أَنْ هَدَانِي للإِسْلامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لرَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، أَنْ لا أَكُونَ كَذَبْتُهُ ، فَأَهْلكَ كَمَا هَلكَ الذِينَ كَذَبُوا ، فَإِنَّ اللهَ قَال للذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَل الوَحْيَ شَرَّ مَا قَال لأَحَدٍ فَقَال تَبَارَكَ وَتعالي : ( يَعْتَذِرُونَ إِليْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِليْهِمْ قُل لا تَعْتَذِرُوا لنْ نُؤْمِنَ لكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَي اللهُ عَمَلكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلي عَالمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلفُونَ بِاللهِ لكُمْ إِذَا انقَلبْتُمْ إِليْهِمْ لتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلفُونَ لكُمْ لتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرضي عَنْ القَوْمِ الفَاسِقِينَ ) .
فعليك بالصدق ولو أنه أحرقك بنار الوعيد - وابغ رضا المولي فأغبى الورى من أسخط المولي وأرضي العبيد
الصدق عز فلا تعدل عن الصدق : واحذر من الكذب المذموم في الخلق
من لازم الصدق هابته الورى وعلا : فالزمه دأبا تفز بالعز والسبق .
دع الكذب حيث تري أنه ينفعك فإنه يضرك ، وعليك بالصدق حيث تري أنه يضرك فإنه ينفعك ، روي أبو داود وحسنه الشيخ الألباني أن أم عبد الله بن عامر قالت لولدها : تعالى أعطيك ، تعني أعطيك حلوي ، فَقَال لهَا رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ قَالتْ أُعْطِيهِ تَمْرًا فَقَال لهَا رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَمَا إِنَّكِ لوْ لمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَليْكِ كِذْبَةٌ .
ومن علامات الصدق الخوف من الله والزهد في الحياة ، فالصادق في يقينه يخاف أن يأكل من حرام ويتحمل الفقر والمشقة ليحيا في سلام ، وإن أتي ذنبا فإنه لا ينام ، حتى يرجع إلي ربه ، حتى يتوب من ذنبه ، قال ابن جرير الطبري : رأيت رجلا من خراسان ينادي ويقول : يا معشر الحجاج يا أهل مكة من الحاضر والباد ، فقدت كيسا فيه ألف دينار فمن رده إلي جزاه الله خيرا وأعتقه من النار ، وله الأجر والثواب يوم الحساب .
فقام إليه شيخ كبير من أهل مكة فقال له : يا خراساني بلدنا حالتها شديدة ، وأيام الحج معدودة ، ومواسمه محدودة ، وأبواب الكسب مسدودة ، فلعل هذا المال يقع في يد مؤمن فقير وشيخ كبير ، يطمع في عهد عليك ، لو رد المال إليك ، تمنحه شيئا شيئا يسيرا ، ومالا حلالا .
قال الخراساني : فما مقدار حلوانه ؟ كم يريد ، قال الشيخ الكبير : يريد العشر مائة دينار عشر الألف ، فلم يرض الخرساني وقال : لا أفعل ولكني أفوض أمره إلي الله ، ونشكوه إليه يوم نلقاه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، قال ابن جرير الطبري ، فوقع في نفسي أن الشيخ الكبير رجل فقير ، قد وجد كيس الدنانير ويطمع في جزء يسير ، فتبعته حتى عاد إلي منزله ، فكان كما ظننت ، سمعته ينادي على امرأته ويقول : يا لبابة ، فقالت له : لبيك أبا غياث .
قال : وجدت صاحب الدنانير ينادي عليه ، ولا يريد أن يجعل لواجده شيئا ، فقلت له : أعطنا منه مائة دينار ، فأبي وفوض أمره إلي الله ، ماذا أفعل يا لبابة ؟ لا بد لي من رده ، إني أخاف من ربي ، وأخاف أن يضاعف ذنبي .
فقالت له زوجته : يا رجل نحن نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة ، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي ، وأنت تاسعنا ، لا شاة لنا ولا مرعي ، خذ المال كله ، أشبعنا منه فإننا جوعي وأكسنا به فأنت بحالنا أوعي ، ولعل الله عز وجل يغنيك بعد ذلك ، فتعطيه المال بعد إطعامك لعيالك ، أو يقضي الله دينك يوم يكون الملك للمالك .
فقال لها يا لبابة : أآكل حراما بعد ست وثمانين سنة بلغها عمري ، وأحرق أحشائي بالنار بعد أن صبرت على فقري ، وأستوجب غضب الجبار وأنا قريب من قبري ، لا والله لا أفعل .
قال ابن جرير الطبري : فانصرفت وأنا في عجب من أمره هو وزوجته ، فلما أصبحنا في ساعة من ساعات من النهار ، سمعت صاحب الدنانير يقول : يا أهل مكة ، يا معاشر الحجاج يا وفد الله من الحاضر والبادي ، من وجد كيسا فيه ألف دينار فليرده لي وله الأجر والثواب عند الله .
فقام إليه الشيخ الكبير : وقال يا خراساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك ، وبلدنا والله قليلة الزرع والضرع ، فجد على من وجد المال بشيء حتى لا يخالف الشرع ، وقد قلت لك أن تدفع لمن وجده مائة دينار فأبيت ، فإن وقع مالك في يد رجل يخاف الله عز وجل ، فهلا أعطيتهم عشرة دنانير فقط بدلا من مائة ، يكون لهم فها ستر وصيانة وكفاف وأمانة ، فقال له الخراساني : لا نفعل ، ولكن نحتسب مالنا عند الله ، ونشكوه إليه يوم نلقاه وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ثم افترق الناس وذهبوا ، قال ابن جرير الطبري : فلما أصبحنا في ساعة من ساعات من النهار ، سمعت صاحب الدنانير ينادي ذلك النداء بعينه ويقول : يا معاشر الحجاج ، يا وفد الله من الحاضر والبادي ، من وجد كيسا فيه ألف دينار فرده على له الأجر والثواب عند الله .
فقام إليه الشيخ الكبير : فقال له يا خراساني قلت لك أول أمس امنح من وجده مائة دينار فأبيت ثم عشرة فأبيت فهلا منحت من وجده دينارا واحدا ، يشتري بنصفه إربة يطلبها ، وبالنصف الأخر شاة يحلبها ، فيسقي الناس ويكتسب ، ويطعم أولاده ويحتسب ، قال الخرساني : لا نفعل ولكن نحيله على الله ونشكوه لربه يوم نلقاه ، وحسبنا الله ونعم الوكيل فجذبه الشيخ الكبير ، وقال له : تعال يا هذا وخذ دنانيرك ودعني أنام الليل ، فلم يهنأ لي بال منذ أن وجدت هذا المال .
يقول ابن جرير : فذهب مع صاحب الدنانير وتبعتهما حتى دخل الشيخ منزله فنبش الأرض وأخرج الدنانير وقال خذ مالك ، وأسأل الله أن يعفو عني ويرزقني من فضله ، فأخذها الخرساني وأراد الخروج ، فلما بلغ باب الدار قال : يا شيخ مات أبي رحمه الله وترك لي ثلاثة آلاف دينار ، وقال لي : أخرج ثلثها ففرقه على أحق الناس عندك ، فربطتها في هذا الكيس حتى أنفقه على من يستحق ، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلي ها هنا رجلا أولي بها منك ، فخذه بارك الله لك فيه ، وجزاك خيرا على أمانتك وصبرك على فقرك ، ثم ذهب وترك المال ، فقام الشيخ الكبير يبكي ويدعو الله ويقول : رحم الله صاحب المال في قبره وبارك الله في ولده ، وأجزل مثوبتهم عنده . ، فهذا الرجل ابتلاه الله في إيمانه فصدق فيه فأكرمه الله وأعطاه ونعمه هداه ، ( الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَليَعْلمَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَليَعْلمَنَّ الكَاذِبِينَ ) ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أن أستغفرك وأتوب إليك وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 10:01 PM   #7
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط الخامس المحبة التي تنافي البغض
الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السماوات وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ سبحانه عالم بما كان وما هو كائن وما سيكون ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لهُمْ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتعالي عَمَّا يُشْرِكُونَ ، وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ لهُ الحَمْدُ فِي الأُولي وَالآخِرَةِ وَلهُ الحُكْمُ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ ، دلت على وحدانيته في الربوبية أجناس الآيات ، وشهد لكمال علمه إتقان الصنعة في المخلوقات وأظهر قدرته على بريته فيما أبدعه من أصناف المحدثات ، وأهدي برحمته لعباده نعمه التي لا يحصيها إلا رب السماوات ، لا يحصي العباد ثناء عليه لما له من أنواع الكمال في الأسماء والصفات ، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يماثله فيها شيء من الموجودات ، وهو القدوس السلام الذي لا يلحقه شيء من الآفات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أقر بربوبيته ، وشهد بوحدانيته وانقاد لمحبته وأذعن بطاعته ، واعترف بنعمته ، وفر إليه من ذنبه وخطيئته ، شهادة عبد أمل في عفوه ورحمته ، وطمع في قبول توبته ، وبريء إلي الله من حوله وقوته .
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه ، وسفيره بينه وبين عباده ، أقرب الخلق إليه وسيلة ، وأعظمهم عنده جاها ، وأسمعهم لديه شفاعة ، وأحبهم إليه وأكرمهم عليه ، أرسله للإيمان مناديا ، وإلي الجنة داعيا ، وإلي صراطه المستقيم هاديا ، وفي مرضاته ومحبته ساعيا ، وبكل معروف آمرا ، وعن كل منكر ناهيا ، رفع ذكره ، وشرح صدره ووضع وزره ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره ، نبي أمي تقي قوي على المشركين ، أقسم الله بحياته في كتابه المبين ، وقرن اسمه باسم رب العالمين ، فلا يصح لأحد خطبة ولا تشهد ولا أذان ، حتى ترد على الآذان شهادتان ، شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله :
ضم الإله اسم النبي إلي اسمه : إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من إسمه ليجله : فذو العرش محمود وهذا محمد
أرسله على حين فترة من الرسل ، فهدي به إلي أقوم الطرق وأوضح السبل ، فلا مطمع في الفوز بجزيل الثواب أو النجاة من وبيل العقاب إلا لمن كان خلفه من السالكين ، ولا يؤمن عبد حتى يكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، فصلي الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه الموحدين وسائر عباده المؤمنين المتبعين لهم بإحسان إلي يوم الدين .
أما بعد فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه جعل في الأبدان دليلا على صدق المحبين ، وجعل محبته في القلوب نورا للعابدين ، وسببا في منزلة أوليائه الصالحين ، جعل في القلوب وأوعية وبيوتا ، فخيرها أوعاها للخير والرشاد ، وشرها أوعاها للغي والفساد ، وما ذلك إلا لابتلاء العباد بحكمته ، ليبقي الفائزون برحمته في جنته ، ويشقي الخاسرون في العذاب بنقمته .
فالقلب وعاء قد يمتلأ بحب الله أو يمتلأ بحب غيره ، كما قال جل في علاه : ** وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ** (البقرة/165) فالقلب له الخيار في نوعية الحب ومقدار التعلق بالمحبوب ، والمحبة التي هي موضوع محاضرة اليوم شرط من شروط لا إله إلا الله وإقرار العبد أنه لا معبود بحق سواه ، فلا يصح قول اللسان ولا يصلح ركن من أركان الإيمان إلا بإفراد الله بالمحبة مع تحقيق الشروط الباقية ، فشروط لا إله إلا الله ثمانية كما قال القائل في عدها ونظما :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها
روي البخاري من حديث أَنَس أن النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْهِ مِنْ وَالدِهِ وَوَلدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، ومن رواية أبي هريرة : وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْهِ مِنْ وَالدِهِ وَوَلدِهِ ) .
والحب شيء في القلب من علم الغيب ، يدفع النفس إلي السعي في رضا المحبوب ، والحصول على المطلوب ، والمحبة عمل من أعمال القلوب ، فقد روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال : ( قَلبُ الشَّيْخِ شَابٌّ على حُبِّ اثْنَتَيْنِ طُولُ الحَيَاةِ وَحُبُّ المَال ) فنسب النبي r الحب إلي القلب ، فالحب عمل من أعمال القلوب يعرف بآثاره على اللسان أو بعلاماته في ظاهر الأبدن ، فالحب مخفي في القلب ، ولكن البدن يفضحه بآثاره وعلاماته ، والله سبحانه وتعالي أعطي بعض خلقه القدرة على قياس درجة الحب في القلب ، كيف يقوي الحب ويشتد ، ويعلو ويمتد ، فالملائكة المكرمون يدونون مقدار الأجر على حب العبد لله ومقدار الوزر على حبه لمن سواه ، وكل ذلك حسب توجيه الإله لهم ، فهم كما تعلمون لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يأمرون .
والمحبة درجات تنموا في القلب كلما ازداد مقدار الحب ، فمنها الهوى والغرام والشوق ، والهيام والشغف والعشق ، والوجد والكمد والحرق ، درجات تنموا في القلب كلما ازداد مقدار الحب ، حتى تصل المحبة إلي أعلى درجاتها ، وهي التي تسمي درجة العبادة ، فالتعبد هو غاية الحب مع غاية الذل للمحبوب ، يقال : عبَّده الحب أي ذلله ، وطريق معبد بالأقدام أي مذلل ، وكذلك المحب قد ذلله الحب ، ولا تصلح هذه المرتبة في الحب لغير الله عز وجل ، فالمحبة التي تصل إلي درجة العبودية هي أشرف أنواع المحبة وهي حق الله على عباده ، ولا يصح فيها الشرك أبدا ، ولذا فإنه من الخطأ الجسيم والظلم العظيم أن يعبر الشخص عن حبه لغيره بقوله : أنا أعبدك ، أو هذا معبود الجماهير أو معبودة الجماهير ، أو كما يفعل الحمقى من المحبين ، المتيمين المجانين في حب النساء ، يقول الشخص لمحبوبته : أنا أ عبدها ، أو ما شابه ذلك من ألوان الشرك بالله ، فانتبه عبد الله وكن عبدا موحدا .
وفي صحيح البخاري عَنْ معَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِي الله عَنْه قَال : بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ r ليْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلا أَخِرَةُ الرَّحْل فَقَال : يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ، قُلتُ : لبَّيْكَ رَسُول اللهِ وَسَعْدَيْكَ ، قَال : هَل تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ على عِبَادِهِ ؟ قُلتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ ، قَال : حَقُّ اللهِ على عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَال : يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ ، قُلتُ : لبَّيْكَ رَسُول اللهِ وَسَعْدَيْكَ ، فَقَال : هَل تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ على اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ ، قُلتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ ، قَال : حَقُّ العِبَادِ على اللهِ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ .
وقد وصف الله رسوله r بالعبودية في أشرف المقامات ، في مقام التحدي وفي مقام الإسراء ، وفي مقام الدعوة إلي رب السماء ، فقال في مقام التحدي : ** وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلنَا على عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ** (البقرة/23) وقال في مقام الإسراء : ** سُبْحَانَ الذِي أَسْرَي بِعَبْدِهِ ليْلا مِنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلي المَسْجِدِ الأَقْصَي الذِي بَارَكْنَا حَوْلهُ لنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ** (الإسراء/1) وقال في مقام الدعوة : ** وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَليْهِ لبَدًا قُل إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ** (الجن /20:18) .
وفي الصحيحين من حديث أَنَسٍ رَضِي الله عَنْه أن الرسل يدفعون الشفاعة العظمي عن أنفسهم ، كل يقول لست لها : ويقول عيسي عليه السلام : ( ائْتُوا مُحَمَّدًا r عَبْدًا غَفَرَ اللهُ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلقُ حتى أَسْتَأْذِنَ على رَبِّي ، فَيُؤْذَنَ لي ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ ، ثُمَّ يُقَالُ : ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَل تُعْطَهْ وَقُل يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعَلمُنِيهِ ، ثُمَّ أَشْفَعُ ، فَيَحُدُّ لي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ ) .
فالنبي r نال ذلك المقام بشرف العبودية وكمالها ، ومن ثم جعله المثل الأوحد للإنسانية في تحقيقها ، فأشرف صفات العبد صفة العبودية وأحب أسمائه إلي الله اسم العبودية ، كما ثبت عن النبي r في حديث مسلم من حديث عبد الله بنِ عُمَرَ أن رَسُولُ اللهِ r قال : ( إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلي اللهِ عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ )
وهناك درجة تفوق العبادة تسمي درجة الخلة ، ولكنها درجة خاصة لاثنين من البشر أولهما محمد r والثاني إبراهيم r ، ورسولنا يفوق إبراهيم فيها ، لما ورد عنه من التفضيل العام على سائر ولد آدم ، فمن حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عند مسلم عن رَسُول اللهِ r قال : ( أَنَا سَيِّدُ وَلدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ) ، وربما يظن بعض من لا فقه لهم بالدين ولا بإكرام سيد الأنبياء والمرسلين أن المحبة أكمل من الخلة ، وأن إبراهيم خليل الله ومحمد حبيب الله ، وهذا جهل وتنقيص من شأن النبي r ، فان الخلة نهاية المحبة ، وقد أخبر النبي r أن الله اتخذ إبراهيم خليلا ونفي أن يكون له خليل غيرُ الله ، أي يحبه حبا يبلغ في درجاته منتهاه ، والخلة هي كمال المحبة التي تستغرق كل درجات الحب ، والتي تتخلل في أعماق القلب وتمتزج بسائر أجزاء البدن .
وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النَّبِيِّ r قَال : ( لوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْل الأَرْضِ خَليلا لاتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَليلا وَلكِنْ صَاحِبُكُمْ خَليلُ الله ) وفي رواية : ( أَلا إِنِّي أَبْرَأُ إِلي كُل خِلٍّ مِنْ خِلهِ وَلوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَليلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَليلا إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَليلُ الله ) فبين r أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا ، وأنه لو كان ذلك ، لكان أحق الناس بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
فالخلة توحيد المحبة والخليل هو الذي توحد حبه لمحبوبه ، وهي رتبة لا تقبل المشاركة ، ولهذا امتحن الله تعالى خليله إبراهيم بذبح ولده ، لما تعلق به قلبه ، فهو الشيخ الكبير الذي أنجب بعد عقم الطويل ، فأراد الله تعالى أن يكون الخليل خالصا بحبه لربه ، لا يكون لغيره في قلبه نصيب ، فلما أسلم لأمر الله وقدم محبته على من سواه ، فداه بذبح عظيم : ** فَلمَّا بَلغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَال يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَي فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَي قَال يَا أَبَتِ افْعَل مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلمَّا أَسْلمَا وَتَلهُ للجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لهُوَ البَلاءُ المُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ** (الصافات/102) .
لكن ما الذي يبعث على وجود الحب في القلب ؟ المحبة باعثها في القلب جلال المحبوب ، والجلال منتهي الحسن والعظمة في الذات والأسماء والصفات ، والجلال يقوم على ركنين اثنين : الركن الأول هو الكمال ، والركن الثاني هو الجمال ، فالكمال هو بلوغ الوصف أعلاه ، والجمال بلوغ الحسن منتهاه ، فمتي كان المحبوب في غاية الكمال وفي غاية الجمال ، وشعر المحب بكماله وجماله حدث الحب في القلب ، وقد يكون الكمال أو الجمال ناقصا ، لكن هو في عين المحب كامل جميل ، فلا يري المحب أحدا أحسن من محبوبه على الرغم من نقصه وعيوبه ، كما يحكي أن عزة التي أحبها كثير وتغني بحبها حتى بلغ الآفاق دخلت على الحجاج فقال لها : يا عزة والله ما أنت كما قال فيك كثير ، فقالت : أيها الأمير إنه لم يرني بالعين التي رأيتني بها ، فالمحب يري قبح المحبوب في عينه جمال ، ألا تري أنه في المثل يقال ، القرد في عين أمه غزال ، وقد عبر بعضهم عن هذا فقال : والله ما أدري أزيدت ملاحة : وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل .
وقد يكون الجمال في منتهاه والكمال في أعلاه ، ولكن المحب لا يشعر بجمال محبوبه ولا بكماله فتنعدم المحبة ، ولهذا أمرت النساء بستر وجوههن عن الرجال ، فإن ظهور الوجه وخصوصا وجوه الحسان ، يدعو القلوب إلي النظر والافتتان ، ولهذا أيضا أجاز الشرع للخاطب أن ينظر إلي المخطوبة ، فإنه إذا شاهد حسنها وجمالها ، ورأي الكمال في سلوكها ، كان ذلك أدعي إلي حبها والتعلق بها ، روي ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث المُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أنه قَال : ( أَتَيْتُ النَّبِيَّ r فَذَكَرْتُ لهُ امْرَأَةً أَخْطُبُهَا فَقال : اذْهَبْ فَانْظُرْ إِليْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ، قَال : فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ فَخَطَبْتُهَا إِلي أَبَوَيْهَا وَأَخْبَرْتُهُمَا بِقَوْل رَسُول اللهِ r ، فَكَأَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلكَ ، قَال المُغِيرَة : فَسَمِعَتْ ذَلكَ المَرْأَةُ وَهِيَ فِي خِدْرِهَا ، فَقَالتْ : إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ r أَمَرَكَ أَنْ تَنْظُرَ فَانْظُرْ وَإِلا فَإِنِّي أَنْشُدُكَ – ألا تفعل - قَال المُغِيرَة : فَنَظَرْتُ إِليْهَا فَتَزَوَّجْتُهَا ) .
وإذا كانت دواعي المحبة تتمثل في كمال المحبوب وجماله ، وكان شعور المحب بجمال محبوبه وكماله باعثا على نماء الحب في القلب ، فإن الله عز وجل إن أعطي الكمال لأحد سواه سلبه الجمال ، وإن أعطي الجمال لأحد سواه سلبه الكمال ، وإن أعطي الكمال والجمال لأحد سواه سلبه دوام الحال ، وما أصدق المثل الذي يقال : الحلو ما يكمل .
فانظر إلي حكمة الله فيمن أعطاهم الكمال وسلبهم الجمال ، غني بلغ الكمال في الغني ولكنه مريض بالسكر أو قبيح في المنظر أو جاهل أكبر ، أو عقيم يشتهي الولد ويتمناه ، فهو لا يتلذذ بماله أو غناه ، ولا ينعم بما منحه الله ، إلا إذا أدرك أن الابتلاء سر الحياة ، فسلم لله وآمن بقدر الله ، أو انظر إلي امرأة لها كمال في الخلق والنسب ، والشرفِ والحسب ، وهي أبعد ما يكون عن الخيانة ، ومتصفة بالصدق والأمانة ، ولكنها في الجمال قبيحة لا تسر الناظرين ، دميمة ترعب الخاطبين ، أو انظر إلي من أعطاه الله أرضا كبيرة واسعة ، فله في الملك كمال وسعة ، لكنه يفشل في استصلاحها لأي منفعة ، وعلى العكس من ذلك انظر إلي من أعطاهم الجمال وسلبهم الكمال ، رجل عالم ذكي قوي فتي ، لكنه فقير مهان يبيت جوعان ولا يجد ما يستر الأبدان ، أو انظر إلي امرأة جمالها يتغنى به الشبان ، وقوامها لا تراه العينان ، لكنها تخون زوجها ولا تصون عرضها وهي معرة على أهلها وكل الناس يتمني موتها ، أو انظر إلي فلاح بسيط ليس له من الأرض سوي بضعة قراريط ، لكن زراعته بارعة ، وأشجاره طالعة ، وثمارها يانعة ، مناه في الحياة أن تكون أرضه واسة ، لكن الحلو لا يكمل .
فالوحيد الذي اتصف بالكمال والجمال هو رب العزة والجلال ، فإذا أضفت إلي ذلك ما كان من إحسانه في ملكه ، وإنعامه على خلقه ، لم يتخلف عن حبه إلا الجاحدون أصحاب القلوب والخبيثة ، والنفوس الخسيسة ، فإن الله فطر القلوب على محبة المحسنين إليهم ، المتصفين بالكمال لديهم ، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها القلوب ، فمن المعلوم أن مقلب القلوب لا أحد أعظم منه إحسانا وجمالا ، أو إنعاما وكمالا ، فلا شيء أكمل من الله ، ولا شيء أجمل من الله ، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعته وكمال قدرته وبديع حكمته ، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثني على نفسه ، له على خلقه وجنه وإنسه النعمة السابغة ، والحجة البالغة ، والسطوة الدامغة ، فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل ، وهو المطلوب المقصود عند الإخلاص في العمل ، ليس في أفعاله عبث ولا في أوامره سفه ، بل أفعاله كلها لا تخرج عن المصلحة والحكمة ، والعدل والفضل والرحمة ، كلامه صدق ، ووعده حق ، وعدله ظاهر في سائر الخلق ، إن أعطي فبفضله ورحمته ، وكرمه ونعمته ، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته :
ما للعباد عليه حق واجب : كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا : فبفضله وهو الكريم الواسع
ومن أسمائه الحسني الجميل ، روي الإمام مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ r قَال : ( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَال ) له جمال الذات وجمال الصافات ، وجمال الأفعال في سائر المخلوقات ، لا تقوى الأبصار في هذه الدار على النظر إلي رب العزة والجلال ، فإذا رأوه سبحانه في دار القرار ، أنستهم رؤيته ما هم فيه من نعيم جنته ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي موسي الأشعري رضي الله عنه أنه قال : ( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ r بِخَمْسِ كَلمَاتٍ ، فَذكر منها : حِجَابُهُ النُّورُ لوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهي إِليْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلقِه ) .
فإذا كان هذا وصف ربك ، فوجب أن تفرده بحبك ، عند قولك لا إله إلا الله ، وأن يكون حبُك لربك أعظمَ من حبك لنفسك و أعظمَ من حبك لمالك وولدك ، وأعظم من حبك لأهلكَ وعشيرتك وأعظم من حبك لكل شيء سواه ، ولهذا قال الله عز وجل : ** قُل إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِليْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلهِ فَتَرَبَّصُوا حتى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ** (التوبة/24) فالمؤمنون أشد حبا لربهم ، وتعظيما لمعبودهم من كل شيء سواه ، وهذا شرط لا إله إلا الله ، ومقتضي الإيمان بالله ، فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تعبده القلوب بحبها ، وتخضع له العبيد عن طوعها ، تخافه وترجوه ، وفي شدائدها تدعوه ، تتوكل عليه وتلجأ إليه ، وتطمئن بذكره وتسكن إلي حبه ، وذلك ليس إلا لله وحده ، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام ، وأساس الإسلام ، ودعوة الرسل الكرام ، وهي مسك الختام ، لمن أراد أن يدخل الجنة بسلام ، كما ورد ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام : (مَنْ كَانَ آخِرُ كلامِهِ لا إِلهَ إِلا اللهُ دَخَل الجَنَّةَ ) ومن أجلها صار حزبها حزب الله ، والمنكرون لها أعداء الله ، فهي قطب الدين ورحاه ، وبها صلاح العبد في دينه ودنياه .
· والمحبة التي هي شرط من شروط لاإله إلا الله أنواع :
فمنها محبة الله عز وجل وهي أصل المحاب المحمودة في قلوب العبيد ، وأصل الإيمان بالله والتوحيد ، وأصل دعوة الرسل من أولهم الي آخرهم ، وقد ثبت عند البخاري عن أَنَسِ عن النبي r أنه : ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْهِ مِنْ وَلدِهِ وَوَالدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وفي صحيح البخاري عن عَبْدَ اللهِ بْنَ هِشَامٍ قَال : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ r وَهوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَر بْنِ الخَطَّابِ فَقَال لهُ عُمَرُ : يَا رَسُول اللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ كُل شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي ، فَقَال النَّبِيُّ r : لا وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - لا تؤمن - حتى أَكُونَ أَحَبَّ إِليْكَ مِنْ نَفْسِكَ ، فَقَال لهُ عُمَرُ : فَإِنَّهُ الآنَ وَاللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي فَقَال النَّبِيُّ r : الآنَ يَا عُمَرُ ) فإذا كان هذا شأن محبة الرسول فما ظنك بمحبة مرسله سبحانه وتعالي .
ومن المحبة المحمودة النافعة التي أمر بها الشرع المحبة في الله ، فمحبة الرسول هي من محبة الله ، وكل حب في الله فهو حب لله ، فالمؤمنون يحبون لله ويبغضون لله ، كما ثبت عند البخاري من حديث أَنَسِ عَنِ النَّبِيِّ r أنه قَال :
( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإيمان أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِليْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا للهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ) وفي سنن أبي داود 4681 وصححه الشيخ الألباني أن رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( مَنْ أَحَبَّ للهِ وَأَبْغَضَ للهِ وَأَعْطَي للهِ وَمَنَعَ للهِ فَقَدِ اسْتَكْمَل الإيمان ) ، وعند البخاري 660 من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ r قَال : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلهِ يَوْمَ لا ظِل إِلا ظِلُّهُ ، وذكر منهم رَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَليْهِ وَتَفَرَّقَا عَليْه ) .
ومن المحبة المحمودة أيضا محبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته وهي أيضا تابعة لمحبة الله ، فمحبة ما يحبه الله من تمام محبة الله ، وكذلك محبة كلامه وأسمائه وصفاته روي البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رَضِي الله عَنْه أنه قال : ( كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَكَانَ كُلمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لهُمْ فِي الصَّلاةِ ، افْتَتَحَ بِقُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ حتى يَفْرُغَ مِنْهَا ، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أخرى مَعَهَا ، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلكَ فِي كُل رَكْعَةٍ فَكَلمَهُ أَصْحَابُهُ ، فَقَالُوا : إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لا تَرَي أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حتى تَقْرَأَ بِأخرى فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأخرى ، فَقَال : مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلكَ فَعَلتُ وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ ، فَلمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ r أَخْبَرُوهُ الخَبَرَ فَقَال : يَا فُلانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَل مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ وَمَا يَحْمِلُكَ على لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُل رَكْعَةٍ ؟ فَقَال : إِنِّي أُحِبُّهَا ، فَقَال : حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلكَ الجَنَّةَ ) .
واحذر عبد الله من المحبة الضارة المذمومة التي تجلب لصاحبها الشقاءَ والحرمان ، وقد تصل عقوبتها إلي العذاب في النيران ، فمنها المحبة مع الله وهي أصل الشرك ، كمحبة الطواغيت والأنداد وتعظيمهم كتعظيم الله ومحبتهم كمحبة الله ، كما قال تعالى في وصف حالهم : ** وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِين آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلوْ يَرَي الذِينَ ظَلمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ ** .
وأصل الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك في هذه المحبة فإن المشركين لم يزعموا أن آلهتهم وأوثانهم شاركت الله في خلق السماوات والأرض ، وإنما كان شركهم من جهة حبهم لها مع الله ، فوالوا عليها وعادوا عليها ، وعظموها تألهوها وقالوا : هم وسيلتنا إليه ، وشفعاؤنا لديه ، هذه آلهة صغار تقربنا إلي الإله الأعظم .
ومن المحبة المذمومة محبة ما يبغضه الله تعالى وهي تابعة للمحبة مع الله ، روي البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه أنه قَال : ( بَعَثَ النَّبِيُّ r خَيْلا قِبَل نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِليْهِ النَّبِيُّ r فَقَال : مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَال عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ إِنْ تَقْتُلنِي تَقْتُل ذَا دَمٍ وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شَاكِرٍ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَال فَسَل مِنْهُ مَا شئتَ ، فَتُرِكَ حتى كَانَ الغَدُ ، ثُمَّ قَال لهُ النَّبِيُّ r : مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ قَال : مَا قُلتُ لكَ يَا مُحَمَّدُ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شَاكِرٍ ، فَتَرَكَهُ حتى كَانَ بَعْدَ الغَدِ فَقَال : مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَال : عِنْدِي مَا قُلتُ لكَ ، فَقَال : أَطْلقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلقَ إِلي نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ ، موضع قريب من المسجد فيه ماء ، فَاغْتَسَل ثُمَّ دَخَل المَسْجِدَ فَقَال : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا كَانَ على الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِليَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِليَّ ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِليَّ مِنْ دِينِكَ ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِليَّ ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلدٍ أَبْغَضُ إِليَّ مِنْ بَلدِكَ فَأَصْبَحَ بَلدُكَ أَحَبَّ البِلادِ إِليَّ ، وَإِنَّ خَيْلكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ ، فَمَاذَا تَرَي ؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ r وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلمَّا قَدِمَ مَكَّةَ ، قَال لهُ قَائِلٌ : صَبَوْتَ ؟ قَال : لا ، وَلكِنْ أَسْلمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ r وَلا وَاللهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حتى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ r ) .
وروي الإمام مسلم 2637 أن سُهَيْل بْنَ أَبِي صَالحٍ قَال : كُنَّا بِعَرَفَةَ فَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَهُوَ على المَوْسِمِ أميرا ، فَقَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِليْهِ ، فَقُلتُ لأَبِي : يَا أَبَتِ إِنِّي أَرَي اللهَ يُحِبُّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ قَال : وَمَا ذَاكَ ؟ قُلتُ : لمَا لهُ مِنَ الحُبِّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ ، فقال يا بني قَال رَسُولُ اللهِ r : ( إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل فَقَال : إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ ، قَال : فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ : إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، قَال : ثُمَّ يُوضَعُ لهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيل فَيَقُولُ : إِنِّي أُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضْهُ ؟ قَال : فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْل السَّمَاءِ : إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلانًا فَأَبْغِضُوهُ ، قَال : فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لهُ البَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ ) .
وهنا سؤال هام في تحقيق شرط المحبة : كيف يعرف العبد أنه يحب الله تعالى ويحب رسوله r ؟ وأنه حقق المحبة التي هي من شروط لا إله إلا الله ؟ أو ما هي الدلائل التي نتعرف من خلالها على وجود الحب في القلب ؟
من العجيب أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه جعل في الأبدان دليلا على صدق المحبين ، علامات تظهر بالضرورة على الأبدان لا تخفي على الناظرين ، تلك العلامات مفصحة عن الحب ، فاضحة لوجوده في القلب ، لا يستطيع الإنسان دفعها مهما قاوم أو حاول :
(1) - منها إدمان النظر إلي المحبوب وإقبال البصر عليه ، فإن العين باب القلب وهي المعبرة عن أفكاره والكاشفة عن أسراره ، وهي أبلغ في ذلك من كلام اللسان ومن حركة الأبدان ، فتري نظر المحب يدور مع محبوبه كيف ما دار ، يتابعه أينما سار ، بل ربما يعز على بعض المحبين أن يحرك رموش العين حتى لا يغيبَ المحبوبُ عن بصره لمحات ، أو يخفي جمال محبوبه لحظات ، فالمحب نظره متعلق بمحبوبه إذا رآه ، وإذا غاب عنه قال : أريد أن أراه .
هذه فطرة في العباد وهي حجة ظاهرة على أهل الفساد ، إذا كانت هذه العلامات تظهر عليهم في محبتهم لغير الله ، ألا تظهر عليهم هذه العلامات في ادعائهم لحب الله ، فحري بك إن كنت صادقا في محبتك لله ، أن تعبد الله كأنك تراه وتنعم بأنسه في الصلاة والمناجاة ، وتتطلع إلي أن ينعم عليك برؤياه ، وهذا هو السر الذي طلب به موسي عليه السلام رؤية الله ، طلبها بباعث الحب وظهور علاماته ، وفهمه لأسمائه وصفاته ** وَلمَّا جَاءَ مُوسَي لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَال رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِليْكَ قَال لنْ تَرَانِي وَلكِنْ انظُرْ إِلي الجَبَل فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلمَّا تَجَلي رَبُّهُ للجَبَل جَعَلهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَي صَعِقًا ** (الأعراف/143) .
طلب موسي الرؤية شوقا وعبادة ، ولم يطلبها تكذيبا وعنادا ، كما طلبها قومه فقالوا لموسي : ** لنْ نُؤْمِنَ لكَ حتى نَرَي اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ** (البقرة/55) ولكن موسي طلب رؤية الله طاعة وقربا ، ورغبة وحبا ، ولهذا كانت أعظم نعمة ينالها المسلم في الدنيا ، نعمة المراقبة لله ، وأن يعبد الله كأنه يراه ، وكذلك فإن النظر إلي الله عند لقياه ، أعظمُ نعمة يوم القيامة ينعم بها الموحدون ، فالمؤمنون يتلذذون بالنظر إلي وجهه الكريم ، وهم في جنات النعيم ، وقد كان من دعائه r : ( وَأَسْأَلُكَ لذَّةَ النَّظَرِ إِلي وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلي لقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلا فِتْنَةٍ مُضِلةٍ اللهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإيمان وَاجْعَلنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ ) وهو حديث إسناده قوي رواه النسائي وابن حبان في صحيحه .
وقال تعالى في شأن أوليائه وأحبائه عند لقائه : ** وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلي رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ** (القيامة/23:22) وروي البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَال : ( كُنَّا جُلُوسًا ليْلةً مَعَ النَّبِيِّ r فَنَظَرَ إِلي القَمَرِ ليْلةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَال : إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلبُوا على صَلاةٍ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ، ثُمَّ قَرَأَ ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل الغُرُوبِ ) ، وفي سنن الترمذي عن صهيب الرومي رضي الله عنه أنه قَال : ( تَلا رَسُولُ اللهِ r هَذِهِ الآيَةَ : ( للذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَي وَزِيَادَةٌ ) وَقَال : إِذَا دَخَل أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ، نَادَي مُنَادٍ : يَا أَهْل الجَنَّةِ ، إِنَّ لكُمْ عِنْدَ اللهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ ، فَيَقُولُونَ : وَمَا هُوَ ؟ أَلمْ يُثَقِّل اللهُ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُدْخِلنَا الجَنَّةَ وَيُنْجِنَا مِنَ النَّارِ ؟ قَال : فَيَكْشِفُ الحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِليْهِ فَوَاللهِ مَا أَعَطَاهُمُ اللهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِليْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِليْهِ وَلا أَقَرَّ لأَعْيُنِهِمْ ) .
(2) - ومن علامات المحبة التي تدل على صدق المحب في دعواه أنه لا إله إلا الله ، غض الطرف عند نظر المحبوب إليه ، وخفض البصر بين يديه ، وذلك من مهابته وعظمته ، وخشيته في صدره وتواضعه لقدره ، فإذا كان ملوك الأرض يستهجنون من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم ويستقبحون من يكلمهم بغير التواضع إليهم ، فما بالنا بملك الملوك من فوق عرشه وهو مطلع على خلقه ، إذا وقفت بين يديه فليكن الخشوع كساءا لتواضعك ، ولتكن المهابة دليلا على صدق محبتك ، ولهذا اشتد نهي النبي أن يرفع المصلي بصره إلي السماء ، وتوعدهم على ذلك بالبلاء ، فينبغي أن تقف بين يدي الله وأن في الصلاة ناكس الرأس مطرقا ، تتلو آياته وذكره مدققا ، روي البخاري عن أَنَس بْن مَالكٍ عن النَّبِيُّ r أنه قال : ( مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلي السَّمَاءِ فِي صَلاتِهِمْ ، - يقول أنس - فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلكَ حتى قَال : ليَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلكَ أَوْ لتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ ) .
وانظر إلي كمال أدب رسول الله في ليلة الإسراء لما عرج به إلي السماء : ** فَأَوْحَي إِلي عَبْدِهِ مَا أَوْحَي قال تعالى مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَي ** (النجم/18:11) وهذا غاية الأدب فإن البصر ما طغي ، ولا طمع ولا بغي ، فلم يتجاوزا إلي غير ما هو رائيه ، ولم يقبل على غير ما هو فيه ، ولذلك فإن رسول الله r لما سأله أبو ذر رضي الله عنه هل رأيت ربك يا رسول الله ؟ قال : ( نُورٌ أَنَّي أَرَاه ) رواه مسلم 178.
(3) - ومن علامات المحبة الغيرة للمحبوب ، فالغيرة للمحبوب أن يكره ما يكرهه المحبوب ويغار إذا عصي في كل مطلوبه ، فيغار العبد لربه إذا انتهكت حرماته ، وضيعت كلماته ، فهذه غيرة المحب على معبوده حقا ، ودين الله يندرج تحتها صدقا ، فأقوي الناس دينا أعظمهم غيرة لله ، روي البخاري 7416 بسنده أن سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قال : ( لوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِي لضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ ، فَبَلغَ ذَلكَ رَسُول اللهِ r فَقَال : أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ، وَاللهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي ، وَمِنْ أَجْل غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) .
فمن قال لا إله إلا الله بحق وأحب الله ورسوله بصدق ، يغار لله ويغار لرسوله على قدر محبته وإجلاله ، وإذا انعدمت الغيرة لله ولرسوله من القلب انعدم الحب فيه ، وإن زعم أنه من المحبين فهو كاذب ، فإذا كان من ادعي محبة إنسان ورأي غيره منتهكا لحرمته ويسعى في أذيته ويخوض في عرضه وذمته ، وهو ساكن لا يتحرك ، قلبه قلب بارد لا يغار لصديقه ومحبوبه ، فإنه عند الجميع كاذب في حبه منافق في ادعاء قربه ، لعلمهم أن الغيرة للمحبوب من علامات المحبة الصادقة ، فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ، ولا لحقوقه إذا ضيعت ، فأضعف الإيمان أن يغار لله من هواه الداعي إلي الشهوة ، ومن شيطانه وطغيانه الداعي إلي الشبهة ، فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه ، وارتكابه لمعصيته ، وإذا ذهبت هذه الغيرة من القلب ذهب منه الحب وسقط شرط من شروط لا إله إلا الله بل ذهب منه الدين وأصوله وإن بقيت آثاره وأطلاله .
وهذه الغيرة هي أصل الجهاد الأكبر ، وأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن خلت هذه الغيرة من القلب لم يجاهد الإنسان ولم يأمر بالطاعة والإيمان ولم ينه عن المنكر والعصيان ، يقول الله تعالى : ** يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلةٍ على المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللهِ وَلا يَخَافُونَ لوْمَةَ لائِمٍ ذَلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَليمٌ ** (المائدة/54) .
وأما الغيرة على المحبوب كغيرة الإنسان على زوجته ، وغيرته على أمته وابنته ، فيغار أن يتعرض أحد لذكرهن أو المساس بعرضهن ، فإن هذه الغيرة تختص بالمخلوق ، ولا يجوز تصورها في حق الخالق ، لأن المحب الصادق ، يحب أن الناس كلهم يحبون الله ويذكرونه ويعبدونه ، ويحمدونه ويشكرونه ، ولا شيء أقر لعين المؤمن من ذلك ، بل هو يدعو إلي ذلك بقوله وعمله ، وكثير من الصوفية لم يفرقوا بين الغيرة لله والغيرة على الله ، فضلوا وشبهوا غيرتهم على الله بغيرتهم على نسائهم ، حتى وقع في كلامهم غلط عظيم ، وبهتان جسيم ، وكان بعض جهلتهم إذا رأي من يذكر الله أو يحبه ، يغار منه ، وربما أسكته إن أمكنه ، ويقول : غيرة حبي على ربي تحملني على هذا ، وإنما ذلك حسد وعصيان وبغي وعدوان ونوع معادة للرحمن أخرجوها في قالب الغيرة وشبهوا محبة الله بمحبة المخلوقين .
(4) - ومن علامات المحبة بذل المحب كل ما في وسعه وطاقته لرضا لمحبوبه ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يدافعون عن رسول الله r في الحرب بنفوسهم ، حتى ولو أدي ذلك لهلاكهم ومصرعهم ، وذلك من فرط حبهم له r ، ومعلوم أن من آثر محبوبه بنفسه ، بذل ما في وسعه من ماله وملكه ، والصحابة رضي الله عنهم سلموا أنفسهم وأموالهم لرسول الله r ، فقالوا هذه أموالنا نقدمها إليك ، وهذه نفوسنا بين يديك ، فاحكم فيها بما شئت يا رسول الله ، لو خضت بنا البحر لخضناه معك يا رسول الله ، نقاتل بين يديك ، ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك ، روي البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، أن المِقْدَادُ بن الأسود قال يَوْمَ بَدْرٍ : يَا رَسُول اللهِ إِنَّا لا نَقُولُ لكَ كَمَا قَالتْ بَنُو إِسْرَائِيل لمُوسَي : ** فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ** (المائدة/24) وَلكِنِ امْضِ يَا رَسُول اللهِ وَنَحْنُ مَعَكَ مقاتلون ) .
أراد رجل أن يختبر امرأته في حبها وحسن تصرفها ، فنظر إليها وهي صاعدة على درجات السلم ، فقال لها أنت طالق إن صعدت وطالق إن نزلت وطالق إن وقفت ، فرمت نفسها على الأرض ، فقال لها فداك أبي وأمي ، والله إن مات الإمام مالك ، احتاج إليك أهل المدينة في التعرف على أحكامهم .
(5)- ومن علامات المحبة التي تكشف مقدار الحب في القلب ، سرور المحب بما يسر به محبوبه كائنا ما كان وإن كرهته نفس الإنسان ، فيكون عنده بمنزلة الدواء ، يحبه لما فيه من الشفاء ، وهكذا المحب مع محبوبه يسره ما يرضيه على أي حال ، وري الإمام مسلم 125 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه لمَّا نَزَلتْ على رَسُول اللهِ r : ** للهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ** ، اشْتَدَّ ذَلكَ على أَصْحَابِ رَسُول اللهِ r ، فَأَتَوْا رَسُول اللهِ r ثُمَّ بَرَكُوا على الرُّكَبِ فَقَالُوا : أَيْ رَسُول اللهِ كُلفْنَا مِنَ الأَعْمَال مَا نُطِيقُ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَالجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ وَقَدْ أُنْزِلتْ عَليْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلا نُطِيقُهَا ، قَال رَسُولُ اللهِ r : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَال أَهْلُ الكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَل قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ ، وكأن الرسول يقول لهم : افعلوا ذلك محبة لربكم وإن كان شاقا على نفوسكم ، فقَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ ، فَأَنْزَل اللهُ فِي إِثْرِهَا : ** آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِل إِليْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ ** فَلمَّا فَعَلُوا ذَلكَ نَسَخَهَا اللهُ تعالى فقال : ** لا يُكَلفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لهَا مَا كَسَبَتْ وَعَليْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ** ، فهؤلاء أصحاب رسول الله r لما ابتلاهم الله بمراده كائنا ما كان ، وإن كرهته نفس الإنسان ، رفع الحرج عنهم وغفر ما كان منهم ، أما من كان واقفا مع ما تشتهيه نفسه من الرخص في الأحكام ، متتبعا لفتاوى أهل الكلام ، فليست محبته لله محبة صادقة ، بل هي محبة عليلة ناقصة .
(6) - ومن علامات المحبة كثرة ذكر المحبوب والاستمتاع بحديثه ، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره واطمئن إليه بقلبه ، وشتان بين أن تذكر الله لأنك مطر إلي ذكره وحياتك قائمة على أمره ، وبين من يكثر من ذكره رغبة في حبه وقربه ، ولهذا أمر الله عباده بذكره على جميع الأحوال ، وأمرهم بذكره حتى وهم عند القتال فقال : ** يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا إِذَا لقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لعَلكُمْ تُفْلحُونَ ** (الأنفال/45) وأمرهم بذكره بعد الصلاة على كل حال فقال : ** فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لعَلكُمْ تُفْلحُونَ ** (الجمعة/10) وقال : ** يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ** (الأحزاب/42:41) ومدح سبحانه الذاكرين الله كثيرا والذاكرات فقال : ** وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ** (الأحزاب/35) وذم الشعراء واستثني المؤمنين الذاكرين فقال : ** وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الغَاوُونَ أَلمْ تَرَي أَنَّهُمْ فِي كُل وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا ** (الشعراء/277) .
(7) _ ومن علامات الحبة الصادقة النظر إلي أفعال المحبوب فإن كانت نقصا سترها وإن كانت كمالا أذاعها ونشرها ، ألا تري الوالد مع ولده ، من محبته يرفع من شأنه ودرجته ، ويهون من نقصه وعيبته ، فما بالنا إذا كان ربنا ومحبوبنا ، أفعاله كمال من كل وجه ولا نقص فيها بوجه من الوجوه ، ألا يحتم ذلك علينا مدحَه والنظرَ في صنعه والمدوامةَ على شكره وذكره ، ومن هنا وبدافع الحب الذي هيمن على القلب أراد إبراهيم عليه السلام مزيدا من القرب ، برؤيته لفعل الله في إحياء موتاه فقال :
** رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَال أَوَلمْ تُؤْمِنْ قَال بَلي وَلكِنْ ليَطْمَئِنَّ قَلبِي قَال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِليْكَ ثُمَّ اجْعَل على كُل جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ** (البقرة/260) .
قال المفسرون : أمره أن يأخذ غرابا وحمامة وديكا ويمامة ، ثم قال له : أوثقهن واذبحهن وقطعهن ، فقطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ثم جزأهن وجعل على كل جبل منهن جزءا ، وأخذ رؤوسهن بيده ، ثم أمره الله تعالى أن يدعوهن فدعاهن ، فجعل ينظر إلي الريش يطير إلي الريش ، والدم يجتمع على الدم والعظم يلتحم بالعظم ، واللحم يلتصق باللحم ، كل طائر أجزاؤه تلتئم وتنضم ، حتى اكتمل البدن وتم ، وقام كل طائر يسعى بين يديه بغير رأسه ، ويرغب في التحامها بجسمه ، إذا قدم له غير رأسه يأباه ، فسبحان من خلقها وسواها ، كل ذلك وإبراهيم عليه السلام ينظر إلي فعل الله وقدرته ، ويتعجب من حكمته وقوته ، فآيات الله في خلقه تدعوا المحبين إلي التفكر في الآثار ، والنظر والاعتبار : ** إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ** (آل عمران/191) .
(8) _ ومن العلامات الدالة على صدق المحبة في القلب أن ينام المحب على ذكر محبوبه ، يذكره بلسانه عند نيامه وقيامه ، ولذلك كان رسول الله r ينام وآخر كلامه ذكر الله ، ويقوم وأول كلامه ذكر الله ، وروي البخاري 6324 عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أنه قَال : ( كَانَ النَّبِيُّ r إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَال : بِاسْمِكَ اللهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَال الحَمْدُ للهِ الذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِليْهِ النُّشُورُ ) وروي البخاري 6320 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النَّبِيُّ r أنه قال : ( إِذَا أَوَي أَحَدُكُمْ إِلي فِرَاشِهِ فَليَنْفُضْ فِرَاشَهُ ، ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالحِينَ ) .
(9) - ومن أهم علامات المحبة التي هي شرط من شروط لا إله إلا الله ، طاعة المحبوب ، والانقياد لأمره ، والتصديق بخبره ، وهذا يحصل فقط بكمال المتابعة لنبيه r** قُل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ** (آل عمران/31) فجعل سبحانه وتعالي متابعة رسوله r سببا لمحبتهم وغفران ذلتهم ، فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل :
تعصي الإله وأنت تزعم حبه : هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته : إن المحب لمن أحب مطيع
(10) - ومن علامات المحبة ترديد كلام المحبوب والإقبال على حديثه وإلقاء السمع إليه ، 5050خ فمن حديث عَبْد اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ في الصحيحين قَال : قَال لي النَّبِيُّ r : اقْرَأْ على القرآن ، قُلتُ : يَا رَسُول اللهِ آقْرَأُ عَليْكَ وَعَليْكَ أُنْزِل ؟ قَال : نَعَمْ ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حتى أَتَيْتُ إِلي قوله : فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدًا ، قَال : حَسْبُكَ الآنَ فَالتَفَتُّ إِليْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ) وفي سنن أبي داود 1469 عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري أن رَسُولُ اللهِ r قال : ( ليْسَ مِنَّا مَنْ لمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ ) .
(11)- ومن علامات المحبة محبة بيت المحبوب ، وانشراح الصدر لرؤيته ، وشد الرحال لزيارته ، وهذا هو السر الذي من أجله تعلقت القلوب بالبيت الحرام وكعبته ، حتى هجروا الأوطان من أجل محبتة ، وتحملوا السفر بمشقته ، طمعا في حب الله وعبادته ، ركبوا الأخطار ، وجابوا المفاوز والقفار ، واحتملوا في الوصول إلي البيت مشقة الأسفار ، وسر هذه المحبة هي إضافة البيت إلي نفسه سبحانه وتعالي : ** وَعَهِدْنَا إِلي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ للطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ** (البقرة/128:125) .
(12) - ومن علامات المحبة توافق المحب مع محبوبه في المنطق والكلام ، والتحية والسلام ، فتتوافق السلامات بينهما في نفس الأوقات ، وتتوافق الكلمات بينهما في إخراج العبارات انظر إلي التوافق العجيب بين الحبيب محمد r وحبيبه أبي بكر الصديق ، في ردهما على عمر بن الخطاب ، فقد روي البخاري 2734 أن قريشا في صلح الحديبة ألزمت رسول الله r بأشياء لم يرغب فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقَال عمر للنبي r :
أَلسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا ؟ قَال : بَلي ، قُلتُ : أَلسْنَا على الحَقِّ وَعَدُوُّنَا على البَاطِل ؟ قَال : بَلي ، قُلتُ : فَلمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَال : إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلسْتُ أَعْصِيهِ يا عمر وَهُوَ نَاصِرِي ، قُلتُ : أَوَليْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَال : بَلي ، لكن هل أَخْبَرْتُكَ أَنَّا سنَأْتِيهِ هذا العَامَ ؟ فقَال عمر : لا ، فحثه الرسول على الصبر وقَال مبشرا له : فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ ، قَال عمر بن الخطاب : فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلتُ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَليْسَ هَذَا نَبِيَّ اللهِ حَقًّا فقَال أبو بكر : بَلي ، قال عمر : أَلسْنَا على الحَقِّ وَعَدُوُّنَا على البَاطِل ؟ قَال : بَلي ، قُلتُ : فَلمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَال : أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لرَسُولُ اللهِ r وَليْسَ يعصى رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللهِ إِنَّهُ على الحقِّ قُلتُ : أَليْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَال : بَلي أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ ستَأْتِيهِ هذا العَامَ ؟ قُلتُ : لا ، قَال : فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهـ) فأجاب أبو بكر عمر بجواب رسول الله r حرفا بحرف ، توافقا بين المحب ومحبوبه .
(13) - ومن علامات المحبة بكاء المحب من شدة الفرح بمحبوبه فقد روي مسلم عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللهِ r قَال لأُبَيٍّ : ( إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَليْكَ القرآن قَال : آللهُ سَمَّانِي لكَ ؟ قَال : اللهُ سَمَّاكَ لي ، فَجَعَل أُبَيٌّ يَبْكِي من شدة الفرح ) وفي رواية أحمد : ( لما نزلت سورة البينة لمْ يَكُنْ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الكِتَابِ ، قال جبريل عليه السلام : يا محمد إن ربك يأمرك أن تقرئ هذه السورة أبي بن كعب ، فقال النبي r: يا أبي إن ربي عز وجل أمرني أن أقرئك هذه السورة قَال : آللهُ سَمَّانِي لكَ ؟ قَال : نَعَمْ قَال : قَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ العَالمِينَ ؟ قَال نَعَمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاه ) وبكي أبي بن كعب فرحا وسروا ، فالمحبة شجرة في القلب ، عروقها الذل للمحبوب وساقها معرفته ، وأغصانها خشيته وورقها الحياء منه ، وثمرتها طاعته ، وماء سقياها ذكره ، فمتي خلا الحب عن شيء من ذلك كان حبا ناقصا لم يحقق شرط لا إله إلا الله على الوجه المطلوب ، أكتفي بذلك وأقول سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 10:04 PM   #8
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط السادس الانقياد المنافي للترك
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأستهدي الله بالهدي ، وأعوذ به من الضلالة والردى ، من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شىء قدير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أرسله إلي الناس كافة ، رحمة لهم ورأفة بهم ، والناس يومها على شر حال ، في ظلمات الجاهلية يتقلبون ، وفي الشرك والوثنية غارقون ، دينهم بدعة ، ودعوتهم فرية ، فأعز الله الدين بمحمد صلي الله عليه وسلم ، وألف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمة الله إخوانا ، فأطيعوا الله عباد الله واستنوا بسنة نبيه صلي الله عليه وسلم ، فإن الله عز وجل قال : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80) ، أما بعد ..
فمن شروط لا إله إلا الله الانقياد المنافي للترك ، شروط لا إله إلا الله جمعها الناظم في قوله رحمه الله :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها
وحديثنا إن شاء الله يدور حول الشرط السادس من هذه الشروط ، وهو الانقياد المنافي للترك ، فمن شروط لا إله إلا الله الانقياد لما دلت عليه كلمة التوحيد ، الانقياد المنافي للترك ، قال الله عز وجل : ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) النساء/521 ، وقال تعالى : ( وَمَنْ يُسْلمْ وَجْهَهُ إِلي اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَي وَإِلي اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُور ِ) لقمان/22 أي بلا إله إلا الله ، وتسليم وجهه لربه يعني أن ينقاد لأمره ، وهو محسن أي موحد يعبد الله كأنه يراه ، فمن لم يسلم وجهه لله ، فإنه لم يستمسك بلا إله إلا الله ، لم يستمسك بالعروة الوثقي ، لأن الله قال بعد ذلك : ( وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِليْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَليلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلي عَذَابٍ غَليظٍ ) لقمان/24:23 وفي الصحيح أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) وهذا هو تمام الانقياد والغاية من خلق العباد .
وإذا كان اليقين متعلقا بباب الخبر وتصديقه ، فإن الانقياد متعلق بباب الأمر وتنفيذه ، ذلك لأن الانقياد يتطلب من العباد العبادة ، وهي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل ، وهذا هو الإسلام وتوحيد العبودية ، فتوحيد العبودية هو توحيد الألوهية ، وتوحيد الألوهية في مفهوم السلف يعني أنه لا إله إلا الله ، ولا معبود بحق سواه ، من أجل ذلك دعت الرسل سائر العباد إلي توحيد الطاعة والانقياد ، كما قال سبحانه وتعالي : ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ) (لأعراف:65) ، فأجابوا منكرين توحيد الألوهية وإفرادَ الله بالعبودية ، قائلين : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (الأعراف:70) ، وقال تعالى في بيان أن هذا المنهج هو ما دعا إليه المرسلون أجمعون : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُون ِ) (الأنبياء/25) ، فالإله بمعني المألوه الذي يستحق العبادة والانقياد والانصياع ، وليس الإله بمعني القادر على الخلق والاختراع ، كما يقول ذلك كثير من المتكلمين ، فلو أقر الإنسان بما يستحقه رب العالمين ، من الأسماء والصفات ، ونزهه عن كل العيوب والآفات ، وأقر بأن الله وحده هو خالق الموجودات ، لم يكن مسلما موحدا حتى يشهد بكلمة التوحيد ، ويحقق شروطها ويستوفي أركانها والتي من ضمنها ، الانقياد لرب العباد ، فإن المشركين في الجاهلية كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ، ولكن إشكالهم أنهم كانوا يوحدون الله في الدعاء عند الشدائد والنقمة ، ويشركون به عند الرخاء والنعمة ، يقول تعالى : ( وَلئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلقَهُمْ ليَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّي يُؤْفَكُونَ ) الزخرف/87 ، ( وَلئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ليَقُولُنَّ اللهُ قُل أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِي اللهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَل هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُل حَسْبِي اللهُ عَليْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُون ) الزمر/38 ، روي النسائي في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ ، أن رسول الله يَوْم فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ النَّاسَ إِلا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَال : اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُموهُمْ مُتَعَلقِينَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ ، فكان منهم عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْل ، بعد أن علم أن النبي rأباح دمه ركب عكرمة البَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عاصفة شديدة أيقنوا أنها ستغرق سفينتهم - فَقَال : أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَخْلصُوا - ، أي وحدوا ربكم في الدعاء والاستغاثة وقد كانوا كما تعلمون يلجئون في الرخاء إلي اللات والعزي ومناة الثالثة الأخرى وعند الشدائد يوحدون - فَقَال : أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَخْلصُوا فَإِنَّ آلهَتَكُمْ لا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا فَقَال عِكْرِمَةُ : وَاللهِ لئِنْ لمْ يُنَجِّنِي مِنَ البَحْرِ إِلا الإِخْلاصُ لا يُنَجِّينِي فِي البَرِّ غَيْرُهُ ، فعاد عكرمة إلي عقله وفطرته، وقال معلنا للتوحيد عند نجاته وعودته - اللهُمَّ إِنَّ لكَ على عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ حتى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلاجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا - وبالفعل وفي بوعده - جَاءَ فَأَسْلمَ ومات عكرمة بفضل الله على كمة التوحيد .
فلا إله إلا الله ، أو قضية الألوهية ، لم تكن مثار جدل بين المشركين ورسلهم ، إلا لأنها مبنية على توحيد العبودية وإفراد العباد ربهم بالطاعة والانقياد .
إذا علمت ذلك فاعلم الانقياد لرب العباد ، يتمثل في امتثالك لأحكام العبودية وتنفيذ الأوامر الشرعية ، فالعبادة طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل ، وما أمر الله به على ألسنة الرسل ، يطلق عليه الإرادة الشرعية أو الهداية الدينية ، أو ما أراده الله من المكلفين ، وما أمر به على ألسنة المرسلين ، ليحقق معني العبودية وصلاح البشرية ، والأمر الصادر من الله للعباد ، وكلفهم فيه بالطاعة والانقياد ، له خمس درجات متنوعة :
1- الحكم الأول أو الدرجة الأولي درجة الإلزام ، وهو التي تسمي في الأحكام بالواجب أو الفرض ، فالله عز وجل إذا أمر عباده بأمر ، فإن هذا الأمر ملزم للمسلمين ، ويتحتم عليهم الانقياد له محبين خاضعين ، لأن الإنسان في الأصل عبدُ خلقه الله ، ويلزم من كونه عبدا أن يطيع سيده ومولاه ، فإذا أمرنا الله بأمر فهو على سبيل الحتم والإلزام ، وإذا امتنع العبد عن تنفيده وقع في الحرام ، واستوجب الحساب والعقاب ، والواجب هو الفرض عند جمهور العلماء ، ولا فرق بينهما إلا من جهة الأسماء ، وقد عرفوه بقولهم : هو ما أمر الله به أمرا ملزما يترتب على تركه العقاب ، وقد أمرنا الله في كتابه وفي سنة نبيه صلي الله عليه وسلم ، بأن ننقاد لأمره إذا كان مجردا عن قرينة الاختيار ، وليس للعبد في تركه مجال ، فقال سبحانه وتعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( النور: من الآية63) ، فحذر الله المخالفين لرسول الله من الفتنة والعذاب ، فدل هذا العقاب على أن الأمر الذي خالفوه واجب مفروض ، وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36) ، فبين الله تعالى أنه لا اختيار للعباد إذا أمرهم سوي التنفيذ والانقياد ، وهذا يعني أن الأمر المطلوب حكمه الفرض والوجوب ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد:33) ، فالانقياد شرط لصحة الأعمال وكمالها ، وعدم الانقياد يؤدي إلي إحباط الأعمال وبطلانها .
وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالتْ : قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ لأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ أَوْ خَمْسٍ فَدَخَل على وَهُوَ غَضْبَانُ فَقُلتُ مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُول اللهِ أَدْخَلهُ اللهُ النَّارَ قَال أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ ، وفي رواية ابن ماجة عن البراء بن عاذب أن النبي صلي الله عليه وسلم أمر أصحابه بفسخ الحج إلي عمرة ، فردوا عليه القول ، فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان ، فقالت : من أغضبك أغضبه الله ؟ فقال : ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع ) ، فالحديث دليل على أن أمره صلي الله عليه وسلم ينبغي أن ينفذ بلا عصيان ، ولولا أن أمره للوجوب ما دخل على عائشة غضبان .
وقد ثبت عند البخاري 4875 أن بريرة كانت أمة متزوجة من عبد يقال مغيث وأنجبت له ولدا ، فأعتقتها عائشة رضي الله عنها فخيرها رسول الله صلي الله عليه وسلم بين أن تبقي زوجة للعبد أو تنفصل عنه وتنعم بحريتها ، فاختار حريتها وفضلتها على البقاء مع زوجها وَقَالتْ : لوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مَا بقيتُ مَعَهُ ، فكان يمشي خلفها ويطوف حولها ، ويبكي حتى تَسِيل دُمُوعُهُ على لحْيَتِهِ ويقول بعبرته : عودي إلي يا بريرة ، فتأبي عليه ، فكان رسول الله يقول للعَبَّاسِ بن عبد المطلب : يَا عَبَّاسُ أَلا تَعْجَبْ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا ، فَقَال لهَا النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : يا بريرة لوْ رَاجَعْتِيهِ ، فَإِنَّهُ أَبُو وَلدِكِ ؟ قَالتْ : يَا رَسُول اللهِ أَتَأْمُرُنِي ؟ قَال : إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ ، قَالتْ : فَلا حَاجَةَ لي فِيهِ .
والشاهد من الحديث في الانقياد لأمر الله ، أن شفاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم في رجوعها إلي زوجها ليست لازمة ولكنها علمت أنه لو أمرها بالرجوع لزوجها للزمها ذلك ، فإن أمره صلي الله عليه وسلم للوجوب ويلزمها الانقياد والطاعة .
وكل فعل أمر ورد في القران أو السنة ، وفيه إلزام بتنفيذ المطلوب ، فإن الحكم فيه يدل على الوجوب كما في قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا ) المزمل/‌20 ، ففعل الأمر أقيموا يدل على أن إقامة الصلاة فرض عين على المسلمين ، وكذلك الأمر في قوله وآتوا الزكاة يدل على أن الزكاة واجب على الأغنياء للفقراء والمساكين ، ولو رأيت الفعل مقترنا بلام الأمر ، فاعلم أن الأمر المطلوب يدل على الوجوب ، ومثاله في قوله تعالى : ( ثُمَّ ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ وَليَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ ) الحج/29 ، فالفعل المضارع يقضوا ويوفوا وكذلك يطوفوا ، اقترنا الأمر فيهما باللام ، فدل الأمر على الحتم والإ لزام ، وهذا يعني أن الوفاء بالنذر والطواف بالبيت حكمهما المطلوب هو الفرض والوجوب .
وإذا وردت آية فيها لفظ كتب عليكم أو كتبنا عليهم ، فإن الحكم فيها الوجوب كقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَليْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة/183 ، ولو ردت آية أو حديث صرح بلفظ فرض أو وجب ، علمنا أيضا أن درجة الحكم هي الوجوب والفرضية ، كما قَال عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ في الحديث الذي رواه أبو داود : أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ : خَمْسُ صَلوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ تعالى ، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلاهُنَّ لوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لهُ على اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ له ) ، وكما جاء في حديث البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : إِذَا جَلسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الغَسْلُ ) .
فالغسل من الجماع حكمه الوجوب لتصريح النبي بذلك ، وكذلك إذا كانت الصيغة التي تدل على طلب الفعل مقترنة بوعيد وتهديد ، كعذاب أو لعن على ترك الفعل أو غضب على عدم امتثال الأمر ، دل ذلك على أن الحكم هو الوجوب ومثال ذلك في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْه قَال : لعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَال ) فترك الرجال التشبه بالنساء أمر ملزم ، وتشبه النساء بالرجال فعل محرم ، ومصدر هذا الإلزام بالوجوب أو الحرام ، هو قرينة اللعن المترتبة على الفعل .
2- الحكم الثاني من أحكام العبودية ، هو المندوب أو المستحب ، فقد تقدم أن الأمر الملزم يسمي بالواجب أو الفرض ، وهو الحكم الأول من أحكام العبودية أو الدرجة الأولي من الأحكام الشرعية ، التي تتطلب من العباد الامتثال والانقياد ، ولكن قد يأمر الله بأمر ولا يريد الإلزام والوجوب ، وإنما يريد أمرا فعله محبوب مندوب ، وهو المسمي في أحكام الإسلام بالمستحب ، فالمستحب هو ما أمر به الشرع لا على وجه الحتم والإلزام ، أو ما ندب الشرع إلي فعله دون إلزام ، أولوم أو لعن أو عقاب ، بل بحث على الطاعة واستحباب ، فيثاب المسلم على فعله ولا يعاقب على تركه ، ومثاله في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلي أَجَلٍ مُسَمًّي فَاكْتُبُوهُ وَليَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْل) البقرة/282 ، فالأمر في الآية بكتابة الدين قد يدل على أنه للوجوب ، ولكن ليس هذا بمقصود ولا مطلوب ، وإنما الحكم أن الأمر بكتابة الدين محبوب مندوب ، ولا يريد الله من أمره لنا الفرض والوجوب ، لأنه قال بعد ذلك : (وَإِنْ كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَليُؤَدِّ الذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَليَتَّقِ اللهَ رَبَّهـ) البقرة/183 ، وهذا ما ذهب إليه الشعبي والحسنُ البصري ومالكٌ والشافعي أن كتابة الدين على الندب والإرشاد لا على الفرض وإلزام العباد .
ومن أمثلة ما استحبه الشرع دون إلزام ، أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، بصلاة ركعتين قبل صلاة المغرب ، فقد روي البخاري من حديث عَبْد اللهِ المُزَنِيّ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أنه قَال : صَلُّوا قَبْل صَلاةِ المَغْرِبِ قَال فِي الثَّالثَةِ لمَنْ شَاءَ ) ، ولا يقصد فيه النبي صلي الله عليه وسلم إلا الندب والاستحباب ، كما ذكر ذلك العلماء ، فقوله لمن شاء دليل على صرف الأمر من الوجوب إلي المندوب .
بالإضافة إلي أنه صلي الله عليه وسلم بين الصلاة المفروضة على المسلم ، ففي الصحيح عَنْ طَلحَةَ بْنِ عُبَيْد الله أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَال يَا رَسُول اللهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللهُ على مِنَ الصَّلاةِ فَقَال الصَّلوَاتِ الخَمْسَ إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا فَقَال أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللهُ على مِنَ الصِّيَامِ فَقَال شَهْرَ رَمَضَانَ إِلا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا فَقَال أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللهُ على مِنَ الزَّكَاةِ ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ شَرَائِعَ الإِسْلامِ قَال وَالذِي أَكْرَمَكَ لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللهُ على شَيْئًا فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَفْلحَ إِنْ صَدَقَ أَوْ دَخَل الجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ ، فوضح النبي صلي الله عليه وسلم الصلاة التي حكمها الوجوب ، وبين أن ما عدا ذلك فهو مستحب ومندوب .
ومن أمثلة المستحب أيضا ما ورد عند مسلم من حديث أبي هُرَيْرَةَ أنه قال : (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ ) فالأمر بالوضوء بعد تناول الطعام الذي مسته النار يدل على الوجوب ، ولكن فعله صلي الله عليه وسلم صرف الأمر من الوجوب إلي المندوب ، فقد روي البخاري عن عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عن أبيه : أَنَّهُ رَأي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فَدُعِيَ إِلي الصَّلاةِ فَأَلقَي السِّكِّينَ فَصَلي وَلمْ يَتَوَضَّأْ ) .
3- أما الحكم الثالث من أحكام العبودية فهو المحرم ومعناه في اللغة الممنوع ، ويقصد به في الأحكام ما نهي عنه الشرع بإلزام ، فإذا ورد النص في الكتاب والسنة بالنهي عن بعض الأشياء ، علمنا أن الله حرم هذه الأشياء كما قال تعالى: ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) (الاسراء:32/33) .
ويعرَفُ الحرام من الأحكام أيضا ، بورود النص بلفظ التحريم كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) (المائدة:3) ، وقال تعالى : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (النور:3) ، فهذا التحريم تكليف من الله للعباد ، يتطلب الامتثال والانقياد ، ويعرف الحرام أيضا بأن تكون الصيغة التي تدل على ترك الفعل مقترنة بوعيد وعقاب أو الحرمانِ من الجنة ودخول العذاب ، أو اللعن أو الغضب أو الذم ، ومثال ذلك ما روي من حديث ابن عباس قال :
( مر رسول الله صلي الله عليه وسلم على قبرين فقال : إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستنزه من يوله وأما هذا فكان يمشي بالنميمة ) ، فقرينة العقاب ، والوعيد بالعذاب دلت على أن الطهارة من البول واجبة ، وأن الغيبة والنميمة محرمة ، وكذلك قوله صلي الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) ، فالوعيد بالمنع من دخول الجنة دليل على تحريم قطيعة الأرحام ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام من حديث أَبِي جُحَيْفَةَ عند البخاري : ( وَلعَنَ الوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ وَآكِل الرِّبَا وَمُوكِلهُ وَلعَنَ المُصَوِّرَ ) فاللعن دليل على حرمة الربا ، وكذلك قوله صلي الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : ( ليْسَ مِنَّا مَنْ لطَمَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِليَّةِ ) فقوله ليس منا ، دليل على أن لطم الخدود وشق الجيوب ودعوة الجاهلية أفعال محرمة في الأحكام الشرعية .
4- أما الحكم الرابع من أحكام العبودية فهو المكروه ، والمكروه هو ما نهي عنه الشرع بغير إلزام ، فهو أقل من درجة الحرام ، فالمكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله ، ومن أمثلة المكروه ، التثاؤب في الصلاة ، فقد كرهه رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث قال : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَحَقٌّ على كُل مُسْلمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَليَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِذَا قَال هَا ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ ) وسبب كراهة التثاؤب ، أن التثاؤب يكون من الشبع وامتلاء البطون ، فينشأ عنه الكسل والفتور والخمول ، ويؤدي في النهاية إلي ثقل الأبدان ، فإذا صلي الإنسان ضحك على صلاته الشيطان ، ومن ثم كان في دفعه ثواب وليس في فعله عذاب ولا عقاب ، ومن أمثلة المكروه في الأحكام ، صبغ الشعر باللون الأسود ، كما ورد في صحيح مسلم أن كما قال النيي صلي الله عليه وسلم عن الشيب :
( غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَاد َ) ، فالشيب أو بياض شعر الرأس واللحية وقار ، والمعهود في السنة أن يصبغ بلون فيه حمرة أو اصفرار ، ومثال المكروه أيضا مباشرة الرجل لزوجته وهي حائض ، بدون ثوب أو حفائض ، وذلك حتى لا تجد النفس ذريعة إلي جماعها والوقاع بها ، فيقع في الحرام ، والأصل في الأحكام أنه يحل له منها كل شيئ إلا الجماع ، وأما فيما دون الفرج فهو مباح له في وقت الحيض ، ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم أدب المؤمنين ، وسد عليهم أبواب العصيان ، وأغلق لهم أسباب الافتتان ، فعن ميمونة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار إلي أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به ) .
5- أما الخامس من أحكام العبودية فهو المباح ، والمباح هو ما خيرنا الشرع في فعله أو تركه ، فلا يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه ، ويسمي المباح أيضا بالحلال أو الجائز ، كقوله تعالى : ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )(المائدة: من الآية1) ، فحرم الله الاصطياد على المسلمين أثناء حجهم أو عمرتهم ، لكن بعد أن يتحللوا من إحرامهم ، أباح لهم الاصطياد ، يصطادوا أو لا يصطادوا فالأمر مباح لهم على وجه التخيير وحرية التدبير ، فقال تعالى : ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) (المائدة: من الآية2) وكذلك الأمر في قوله تعالى : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10) ، فالأمر في قوله تعالى فانتشروا للتخيير وإباحة البيع ، لأنه كان محرما وقت صلاة الجمعة ، فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َ) (الجمعة:9) ، وذلك لأنهم قاموا إلي التجارة والبيع أثناء الخطبة والنبي صلي الله عليه وسلم على المنبر ، فحرم الله عليهم البيع والشراء تحريما مؤقتا أثناء الصلاة ، ثم أباحه لهم إذا قضيت الصلاة وأن ينتشروا في الأرض ويبتغوا من فضل الله .
فهذه أحكام العبودية التي اشتملت على الأوامر التكليفية ، التي تتطلب من العباد الامتثال والانقياد ، والناس فيها على نوعين ، وتنفيذهم لها على مرتبتين ، مرتبة أصحاب اليمين ، ومرتبة السابقين المقربين ، فأما مرتبة أصحاب اليمين ، فأداء الواجبات وترك المحرمات ، مع ارتكاب بعض المكروهات وترك المستحبات ، والتوسع في بعض المباحات ، وأما مرتبة المقربين ، فهي القيام بالواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات زاهدين فيما لا ينفعهم يوم الممات ، متورعين عن بعض المباحات ، خوفا من ربهم حتى صارت المباحات في حقهم طاعاتٍ وقربات بصدق النية وكمال الانقياد في العبادات ، فهذا انقياد الموحدين ، السابقين المقربين ، كان الشخص منهم إذا رفع صوته في حضرة رسول الله صلي الله عليه وسلم أحس كأن مصيبة حلت بقلبه ، وكأن النار أحرقته بذنبه ، روي الإمام مسلم 119 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال : ( لمَّا نَزَل قول الله تعالى :
** يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لهُ بِالقَوْل كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ** (الحجرات/2) جَلسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ – وكان صوته مرتفعا في حضرة النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ - جَلسَ وَقَال : أَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَل النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَال ؟ يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ اشْتَكَي ؟
قَال سَعْدٌ : إِنَّهُ لجَارِي يا رسول الله ، وَمَا عَلمْتُ لهُ بِشَكْوَى قَال : فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لهُ قَوْل رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال ثَابِتٌ : أُنْزِلتْ هَذِهِ الآيَةُ وَلقَدْ عَلمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا على رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ ، فَذَكَرَ ذَلكَ سَعْدٌ للنَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : بَل هُوَ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ ، فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ ) .
وإذا كان الشخص عاملا في مصنع وينقاد لصاحبه أتم انقياد حرصا على وظيفته ، وطمعا في قربه ومحبته ، أليس من الأولي أن ينقاد لربه وخالقه وأن يسلم أمره لمعبوده ومالكه ، انظر إلي مدي انقياد المخلوق للمخلوق وطاعة الأمراء للملوك ، لما بلغ أميرُ المؤمنين عبدُ الملك بن مروان اضطرابُ أهل العراق وكثرة التمرد والنفاق ، جمع أهل بيته وأولي النجدة من جنده ، وقال أيها الناس إن العراق تكدر ماؤها ، وكثر غوغاؤها ، وأملولح عذبها ، وعظم خطبها وظهر ضرامها ، وعسر إخماد نيرانها ، فهل من ممهد لهم بسيف قاطع ، وذهن جامع ، وقلبٍ ذكي وأنفٍ حمي فيخمد نيرانها ويردع غيلانَها وينصِف مظلومها ويداوي الجرح حتى يندمل ، فتصفو البلادُ ويأمن العباد ، فسكت القوم ولم يتكلم أحد ، فقام الحجاج وقال يا أمير المؤمنين : أنا للعراق قال من أنت لله أبوك ، قال أنا الليث الضمضام والهزبر الهشام أنا الحجاج بن يوسف الثقفي قال ومن أين قال من ثقيف كهوف الضيوف ومستعملوا السيوف قال أجلس لا أم لك فلست لها ثم قال أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان : مالي أري الرؤوس مطرقة والوجوه ممزقة ، فلم يجبه أحد فقام إليه الحجاج وقال أنا مجندل الفساق ومطفيء نار النفاق .
قال ومن أنت قال أنا قاصم الظلمة ومعدن الحكمة الحجاج بن يوسف ، معدن العفو والعقوبة وآفة الكفر والريبة قال إليك عني فلست لها ، ثم قال من للعراق فسكت القوم وقام الحجاج وقال أنا للعراق فقال إذن أظنك صاحبها والظافر بغنائمها وإن لكل شيء يا ابن يوسف آيةً وعلامة ، فما آيتك وما علامتك ؟
انظر إلي مدي انقياد المخلوق للمخلوق ، وانقياد الحجاج للملوك ، قال الحجاج آيتي وعلامتي : العقوبة والعفو والاقتدار والبسط والازورار والادناء والابعاد والجفاء والبر والتأهب والحزم وخوض غمرات الحروب بجنان غير هيوب فمن جادلني قطعته ومن نازعني قصمته ومن خالفني نزعته ومن دنا مني أكرمته ومن طلب الأمان أعطيته ومن سارع إلي الطاعة بجلته فهذه آيتي وعلامتي وما عليك يا أمير المؤمنين إلا أن تبلوني في الانقياد ، فان لم أكن للاعناق قطاعا وللأموال جماعا وللأرواح نزاعا فاستبدلني يا أمير المؤمنين ، فان الناس كثير ومن يقوم بهذا الأمر عدد قليل قليل ، فقال عبد الملك أنت لها فما الذي تحتاج إليه قال قليل من الجند والمال ، فدعا عبد الملك صاحب جنده فقال هيىء له من الجند شهوته ، وألزِمْهُم طاعتَه وحذِّرْهم مخالفته ثم دعا الخازن فأمره بمثل ذلك .
فخرج الحجاج قاصدا نحو العراق فصعد المنبر ونهض قائما فكان أول شيء نطق به أن قال والله إني لأري رؤسا قد أينعت وحان وقت قطافها وإني لصاحبها ، وإني لأري الدماء تترقرق بين العمائم واللحي ، ثم قال : يا غلام اقرأ كتاب أمير المؤمنين فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان إلي من بالكوفة من المسلمين سلام عليكم ، فلم يرد أحد من الجالسين فقال الحجاج أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون ، أهذا أدبكم الذي تأدبتم به أما والله لأودبنكم أدبا غير هذا الأدب ، اقرأ يا غلام فقرأ حتى بلغ قوله سلام عليكم فلم يبق أحد إلا قال وعلى أمير المؤمنين السلام .
فهذا انقياد المخلوق للملوك فأولي بالمسلم العاقل أن ينقاد لملك الملوك ، ويكفينا ما رواه البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلا مَنْ أبي قَالُوا يَا رَسُول اللهِ وَمَنْ يَأبي قَال مَنْ أَطَاعَنِي دَخَل الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبي ) .
واعلم أن الانقياد المنافي للترك يُلزِمُكَ باتباع السنة ويمنعك من إظهار البدعة ، فإن الله عز وجل قال : ( لقَدْ مَنَّ اللهُ على المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَليْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) آل عمران /164 ، وقال : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُوْلي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلي اللهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل ) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كان رسول الله صلي الله عليه وسلم في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
وقد سمي الإسلام إسلاما لأن من دخل فيه استسلم لله وأحسن الانقياد وأسلم وجهه لرب العباد ، واتبع كل ما جاء عن الله ورسوله من أحكام , وقد كان السلف الصالح يتبعون السنة ويجتنبون البدعة ، ويعذر بعضهم بعضا ، أما الآن فإلي الله المشتكي من تغير الزمان وانتكاسه ، وتقلبه وانعكاسه ، ودثور السنة وخمولها ، وظهور البدعة وشمولها ، وما يحدث بين الإخوان والجماعات من التناكر والتحاسد ، والتدابر والتباعد ، وما يقارب هذه الأفعال ويدانيها ، ويناسبها ويضاهيها ، فإنها مصيبة ظهرت في سائر الأقطار وبلية انتشرت في سائر القرى والأمصار ، فنسأل الله للجميع الهداية ، ونسأله الحماية من هوى النفس الذي يزيغ بقلب الإنسان ، ونعوذ به من وسواس الشيطان .
ومن حديث العرباض بن سارية قال صلي بنا رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد فإنه من يعيش منكم فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها ) .
فعليك بالانقياد للسنة وترك البدعة فإن البدعة هي كل ما أحدث على غير مثال سابق ، فالبدعة التي تتعلق بالمعاملات وشؤون الدنيا كاختراع الآلات ووسائل النقل والمواصلات ، كالطائرات والسيارات ، وأدوات الطهي وغيرها من الأجهزة والمصنوعات ، إلي غير ذلك مما يرجع إلي مصالح الفرد والجماعات ، فهذه في نفسها لا حرج فيها ولا إثم في اختراعها ، أما بالنسبة للمقصد من اختراعها وما تستعمل فيه ، فإن استعملت في الخير فهي خير ونعماء ، وإن قصد بها شر فهي شر وبلاء ، وقد تكون البدعة في الدين بدعة عقائدية أو بدعة في منهج العبودية ، سواء كانت البدعة قولية أو فعلية ، كبدعة نفي التقدير وما سبق في أم الكتاب من أنواع التدبير ، وكبدعة بناء المساجد على القبور ، وإقامةِ القباب على المقبور ، وقراءةِ القرآن على الأموات ، والتباهي بإقامة السُّرَادِقَات ، والاحتفال بالموالد والمزارات ، وإحياءِ ذكري الصالحين والوجهاء ، والاستغاثة بهم في المدد والدعاء ، فهذه وأمثالها كلها ضلال لقول النبي صلي الله عليه وسلم إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، لكن منها ما هو شرك أكبر يخرج من الإسلام ، كالاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه ، والذبحِ لغير الله وتقديمِ النذر إليه ، إلي أمثال ذلك مما هو عبادة مختصة بالله ، ومنها ما هو ذريعة إلي الشرك بالله ، كالتوسل إلي الله بجاه الصالحين والحلفِ بسيد الأنبياء والمرسلين ، وقول الشخص ما شاء الله وشئت ، ما لي إلا الله وأنت ، وغير ذلك من الألفاظ الشركية والأمور البدعية .
واعلم أيها المسلم أن الدين قد كمل فلا يحتاج إلي زيادة أو نقصان ، وإنما يحتاج إلي شرحٍ وبيان وفتوةٍ ببرهان ، والقرون الفاضلة هم خير الناس وأفضل الناس وأولاهم بالمتابعة ، والبدعة اتهام لدين الله بالنقص والمذمة ، لأنه إن ادعي صاحبُها أنها واجبة أو مستحبة ، فلا يكون الدين صحيحا أو كاملا إلا بها ، فالرسول صلي الله عليه وسلم ما ستر شيئا مما أمر الله به المسلمين في أمور الدين ، ولم يدع إلي تلك البدعة ، ولما قال تعالى : ( اليَوْمَ أَكْمَلتُ لكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَليْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لكُمْ الإِسْلامَ دِينَا ) (المائدة/3) علمنا أنه إما أن يكون الله تعالى هو الصادق في إكمال دينه أو أن المبتدع هو الصادق في نقصانه ؟
ولما استحال الأمر الثاني ثبت الأمر الأول ، ولو سُئل المبتدع عن بدعته ، هل علمها رسول الله أم جهلها ؟ فإن ادعي علم الرسول بها ، فسيقال : إذا علمها ولم يثبت أنه دعي إليها بل سكت عنها ، فنحن أولي بالسكوت عنها ، وإذا قال : جهلها ادعي أنه أعلمُ من رسول الله صلي الله عليه وسلم بما ينفع الناس ، ولا ينفع المبتدعَ في ترك السنة والتمسكَ بالبدعة حسنُ النية ، فقد ثبت أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنكر على المتشددين في العبادة ، فعند البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
( جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلي بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم فَلمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَدْ غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَال أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلّي الليْل أَبَدًا ، وَقَال آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ ، وَقَال آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم إِليْهِمْ ، فَقَال : أَنْتُمُ الذِينَ قُلتُمْ كَذَا وَكَذَا ، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لهُ لكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَليْسَ مِنِّي ) ، وعند البخاري أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا ليْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ ) .
ومن هنا فإن البدعة مرفوضة بكل سبيل ، مهما بالغ صاحبها في التحليل والتعليل ، فلا بد في كل طاعة من قيام الدليل ، ولا يمكن التأخي بين الأمور البدعية وبين الأدلة القرآنية والنبوية ، فالسلف اتخذوا كتاب الله إماما وآياته فرقانا ، ونصبوا الحق بين أعينهم عيانا ، وسنن رسول الله صلي الله عليه وسلم جنة وسلاحا ، واتخذوا طريق الحق منهاجا ، وجعلوه نورا وبرهانا .
وهذه وصية الخطاب بن المعلى لولده يعظه فيها باتباع السنة والعمل بالأحكام ، وهي وصية نافعة جامعة في معاني الإسلام ، فقال : يا بني عليك بتقوى الله وطاعته ، واجتناب محارمه ، باتباع سنته ومعالمه ، حتى تصحَ عيوبُك ، وتقرَّ عينُك ، فانها لا تخفي على الله خافيه ، إياك وهذر الكلام ، وكثرة الضحكك والمزاح ، ومهازلة الإخوان ، فإن ذلك يذهب البهاء ، ويوقع الشحناء ، وينمي الخيلاء ، وعليك بالرزانة والوقار ، من غير علو أو استكبار ، وقابل صديقك وعدوك بوجه الرضي ، وكَفِّ الأذي ، من غير ذلة لهم ، ولا هيبة منهم ، وكن في جميع أمورك في أوسطها ، فإن خير الأمور أوسطها ، وقلل الكلام وأفش السلام ، ولا تكثر المراء ، ولا تنازع السفهاء ، فإن تكلمت فاختصر ، وإن مزحت فاقتصر ، وغض الطرف عن الفكاهات وأنواع المضاحكات وطول الحكايات ، ولا تحدث الناس عن إعجابك بولدك ولا جاريتك ، ولا عن فرسك ولا عن سفيك ، ولا تُعْلمْ أهلك وولدَك فضلا عن غيرهم عدد مالك ، فإنهم إن رأوه قليلا هنت عليهم ، وإن كان كثيرا لم تبلغ به رضاهم ، وأخفهم من غير عنف ، ولن لهم من غير ضعف .
وإذا وعدت فحقق وإذا حدثت فاصدق ، وتخير محاسن القول بالحديث المقبول وإذا حدثت بسماع ، فانسبه إلي أهله ، ولا تمسك في الإنفاق إمساك المثبور ، ولا تبذر تبذير السفيه المغرور ، وإياك وإخوان السوء فإنهم يخونون من رافقهم ، يحزنون من صادقهم ، قربهم أعدي من الجرب ورفضهم استكمال للأدب ، والإخوان إثنان فمحافظ عليك عند البلاء ، وصديق لك في الرخاء ، فاحفظ صديق البلاء وتجنب صديق العافية ، فإنهم أعدي الأعداء ، وذَمُّ الجاهل إياك أفضلُ من ثنائه عليك ، وعليك بمعرفة الحق من أخلاق الصدق ، واعلم أن السماجة سفاهة ، وأن السكران شيطان ، وكلامُه هذيان ، والشعر من السحر والتهديد من الهجر ، والشح شقاء والشجاعة بقاء .
يا بني إن زوجة الرجل سكن له ، ولا عيش له مع منازعتها ، فإذا هممت بنكاح امرأة فسل عن أهلها ، فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الطيبة ، واعلم أن النساء أشد اختلافا من أصابع الكف ، فمنهن المعجبة بنفسها ، ومنهن المزرية ببعلها ، إن أكرمهتا نسبت الفضل لنفسها ، لا تشكر على جميل ، ولا ترضي منه بقليل ، لسانها عليه سيف صقيل ، قد كشفت ستر الحياء عن وجهها ، فلا تستحي من عيوبها ، وجه زوجها مكلوم ، وعِرضُه مشتوم ، يصبح كئيبا ويمسي كئيبا ، شرابه مر وطعامه مر ، نهاره ليل ، وليله ويل ، تلدغه مثلُ الحية العقارة ، وتلسعه مثلُ العقرب الجرارة ، إن قال زوجها لا قالت نعم ، وإن قال نعم قالت لا ، كأنها مولدة لمخازيه ، محتقرة لما هو فيه ، ومنهن الورهاء الحمقاء ، الماضغة للسانها ، الآخذة في غير شأنها ، قد قنعت بحبه ورضيت بكسبه ، تأكل كالحمار الراتع ، تنتشر الشمس ولما يسمع لها صوت ، ولم يكنس لها بيت ، طعامها بائت وعجينها حامض وماؤها فاتر ، ومتاعها مزروع وماعونها ممنوع وخادمها مضروب وجارها مغلوب ، ومنهن العطوف الودود المباركة الولود ، المحبوبة في جيرانها ، المحمودة في سرها وإعلانها ، كريمة التبعل كثيرة التفضل ، خافضة صوتها ، نظيفة في بيتها ، خيرها دائم وزوجها ناعم ، محبوبة مألوفه ، وبالعفاف موصوفة ، جوهرة مثمرة ، وذكرها مفخرة ، حريصة على عرضها ، أمينة على بيتها ، تحفظ زوجها في غيبته ويأنس بها في حضرته ، فلتكن زوجتك من هذا الصنف تسعد بها في دنياك وأخراك .
فاللهم اسقنا من حوض نبيك المورود وشرفنا بلوائه المعقود وشفعه فينا في اليوم المشهود وارحمنا به إذا صرنا تحت أطباق اللحود عباد الله : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 10:07 PM   #9
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط السابع القبول المنافي للرد
الحمد لله الذي كان ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء ، كان ولا إنسَ ولا جان ولا طائرَ ولا حيوان وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، هو المتفرد بوحدانيته والدائم في أبديته ، تقدس في صمدانيته ، ليس له سمي ولا وزير ، ولا شبه ولا نظير ، انفرد بالخلق والتصوير ، وانفرد بالمشيئة والتقدير ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، له الرفعة والحمد والثناء ، وله الفوقية والعلو والاستواء ، أول بلا ابتداء ، دائم بلا انتهاء ، لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام ولا يشبهه الأنام ، حي لا يموت قيوم لا ينام ، له الأسماء الحسني وله الصفات العلى ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد الأنبياء والمرسلين ، اصطفاه ربه لرسالته واختاره لبريته ، فبين السبيل وأنار الدليل ، صلي الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه السابقين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين ، ** يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ** (النساء/1) ** يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ** (آل عمران/102) ، أما بعد ..
فإن منهج لا إله إلا الله يغير معالم الحياة ، لا إله إلا الله تعني أنه لا معبود بحق إلا الله ، فلا يخضع العبد عن حب إلا لربه ، وهمه في الحياة ابتغاء قربه ، يخافه ويرجوه ، ويحبه ويدعوه ، روي البخاري بسنده أن النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال لمُعاذِ بْنِ جَبَلٍ رضِي الله عنه : ( مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلبِهِ إِلا حَرَّمَهُ اللهُ على النَّارِ ) .
واعلم عبد الله أن لا إله إلا الله لها شروط وردت في كتاب الله وفي سنة رسوله r ، فلا يصح قول اللسان ولا يصلح ركن من أركان الإيمان إلا بها : أولها العلم المنافي للجهل ، ثم اليقين المنافي للشك ، ثم الإخلاص المنافي للشرك ، ثم الصدق المنافي للكذب ، تم المحبة التي تنافي البغض ، ، ثم الانقياد الذي ينافي الترك ، ثم القبول الذي ينافي الرد والثامن من هذه الشروط هو الكفر بما يعبد من دون الله ، وقد أحسن من جمعها وعدها وحصرها في هذين البيتين فقال :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها
وحديثنا بإذن الله في محاضرة اليوم عن الشرط السابع من شروط لا إله إلا الله ، وهو القبول المنافي للرد ، القبول لما اقتضته هذه الكلمة ، القبول الذي يحرك القلب واللسان والأبدان ، وقد قص الله تعالى في القرآن ، نباء من قبل قبلها ، وانتقامَه ممن ردها ، وعذابَه لمن كفر بها ، كما قال تعالى : ( وَكَذَلكَ مَا أَرْسَلنَا مِنْ قَبْلكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَال مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَال أَوَلوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَي مِمَّا وَجَدْتُمْ عَليْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) .
وكذلك أخبرنا الله تعالى بما أعده لمن قبل كلمة التوحيد من أنواع الثواب ، وما أعده لمن ردها من ألوان العذاب فقال تعالى عن الكافرين يومَ الحساب :
( وَقَالُوا يَاوَيْلنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الفَصْل الذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الذِينَ ظَلمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إلي صِرَاطِ الجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَل هُمْ اليَوْمَ مُسْتَسْلمُونَ وَأَقْبَل بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ اليَمِينِ قَالُوا بَل لمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لنَا عَليْكُمْ مِنْ سُلطَانٍ بَل كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَليْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلكَ نَفْعَلُ بِالمُجْرِمِينَ ) – ما سبب إجرامهم ، وما علة تعذيبهم ، سببه هو استكبارهم عن قول لا إلا إله الله – ( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيل لهُمْ لا إِلهَ إِلا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) – يهزأون برسول الله ويصفونه بالسحر والجنون – ( وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لتَارِكُوا آلهَتِنَا لشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ) - فكذبهم الله عز وجل ورد ذلك عليهم وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال – ( بَل جَاءَ بِالحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلينَ إِنَّكُمْ لذَائِقُو العَذَابِ الأَليمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) – ثم استثني الله عباده المخلصين الذين صدقوا المرسلين وقبلوا لا إله إلا الله خاضعين مؤمنين فقال تعالى – ( إِلا عِبَادَ اللهِ المُخْلصِينَ أُوْلئِكَ لهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ على سُرُرٍ مُتَقَابِلينَ يُطَافُ عَليْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لذَّةٍ للشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) – أكرمهم الله وشفا صدورهم وأراحهم وري غليلهم في الكافرين – ( فَأَقْبَل بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَال قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لمِنْ المُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لمَدِينُونَ قَال هَل أَنْتُمْ مُطَّلعُونَ فَاطَّلعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ قَال تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لتُرْدِينِي وَلوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لكُنتُ مِنْ المُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلا مَوْتَتَنَا الأُولي وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ لمِثْل هَذَا فَليَعْمَل العَامِلُونَ ) .
وقال سبحانه وتعالي عن الكافرين وردهم دعوةَ الأنبياء المرسلين ، وتكذيبهم بتوحيد رب العالمين ورسالة خاتم النبيين : ( وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَال الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَل الآلهَةَ إِلهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا على آلهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ أَؤُنزِل عَليْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَل هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَل لمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ) .
وفي صحيح البخاري 77 عَنْ أَبِي مُوسَي الأشعري أن النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَي وَالعِلمِ كَمَثَل الغَيْثِ الكَثِيرِ – والغيث الكثير هو المطر الغزير- أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ – والأجادب هي الأرض الجافة التي لا تنبت زرعا ولا تشرب ماءا - فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا - وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخرى ، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً ، فَذَلكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلمَ وَعَلمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لمْ يَرْفَعْ بِذَلكَ رَأْسًا وَلمْ يَقْبَل هُدَي اللهِ الذِي أُرْسِلتُ بِهِ .
والقبول الذي ينافي الترك يحتم عليك الرضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا ، فلا تعترض على أمر الله ولا تخالف سنة رسول الله ، وتتخذ الإسلام منهجا لك في الحياة ، روي البخاري 507 من حديث أَنَس بْن مَالكٍ أَنَّ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أكثروا عليه السؤال حتى أَحْفَوْهُ المَسْأَلةَ فَغَضِبَ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَصَلي الظُّهْرَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ ثم صَعِدَ المِنْبَرَ ، فَذَكَرَ السَّاعَةَ ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَال مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَل عَنْ شَيْءٍ فَليَسْأَل ، فَلا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا ، فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي البُكَاءِ وَأَكْثَرَ رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنْ يَقُول سَلُونِي – يقول أنس فَجَعَلتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالا فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي - فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ ، وكان إِذَا لاحَي الرِّجَال – أي خاصمهم أو جادلهم- يُدْعَي لغَيْرِ أَبِيهِ ، فشك في أبيه - فَقَال مَنْ أَبِي يا رسول الله ؟ قَال : أَبُوكَ حُذَافَةُ ، ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُول سَلُونِي ، فَبَرَكَ عُمَرُ على رُكْبَتَيْهِ ، وقَال رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَسَكَتَ رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، ثُمَّ قَال عُرِضَتْ على الجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الحَائِطِ فَلمْ أَرَ كَالخَيْرِ وَالشَّرِّ .
وري البخاري بسنده عن أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رَضِي الله عَنْه أن رسول الله أعْطي رِجَالا من قريش المِائَةَ مِنَ الإِبِل حِينَ كثرت الغنائم مِنْ أَمْوَال هَوَازِنَ وأَفَاءَ اللهُ عَليه مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَال ، فَقال بعض الأَنْصَارِ : يَغْفِرُ اللهُ لرَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا و، َسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ ، فعلم رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِمَقَالتِهِمْ فَأَرْسَل إلي الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ ، وَلمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ ، فَلمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال : مَا حَدِيثٌ بَلغَنِي عَنْكُمْ ، فَقَال فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ : أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُول اللهِ فَلمْ يَقُولُوا شَيْئًا ، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا يَغْفِرُ اللهُ لرَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ ، فَقَال النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إِنِّي أُعْطِي رِجَالا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلفُهُمْ ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَال وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إلي رِحَالكُمْ ، فَوَاللهِ لمَا تَنْقَلبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلبُونَ بِهِ ، قَالُوا يَا رَسُول اللهِ قَدْ رَضِينَا ، فَقَال لهُمُ النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : سَتَجِدُونَ أُثْرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حتى تَلقَوُا اللهَ وَرَسُولهُ ، فَإِنِّي على الحَوْضِ .
فالرضا أساس القبول ولازمه القناعة والطاعة والتسليم ، فالرضا بالله ربا وهو أن لا يكره ما يجري به القضاء ويشكره على النعماء والسراء وصبر على البلاء والضراء ، والرضا بالإسلام دينا أن يخضع لأمر الله ونهيه ، فيذم ما ذمه الله ويكره ما كرهه الله ، لموافته رضاه في كل شيء شرعه الله ، على تفصيل العلم الذي جاءنا عن رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فما كان من خير وبر أمر الله به على الوجوب ، أو الاستحباب والمندوب ، رضي به العبد ونفذه على الوجه المطلوب ، وما كان من شر نهي عنه وحذرنا منه ، فعلى العبد أن يمتنع ويرتدع ، ويعلم أنه إذا اقترف سوءا فإنه يعترف بذنبه وخطيئته ، ويستوجب العقوبة بعدل الله وحكمته ، ويسارع لله في تقديم توبته ، وأنه لن يخالف أمرا من شريعته ، أما الرضا بمحمد صلي الله عليه وسلم نبيا ورسولا ألا يحدث في دين الله أمرا يخالف سنة نبيه صلي الله عليه وسلم قولا وفعلا ، ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمرا لأمره ومنتهيا عن نهيه .
واعلم عبد الله أن أساس القبول أو الرد كائن في القلب ، فالقلب له نية أصيلة وإرادة مختارة ، وله دوره الفعال في تحديد المصير وعواقب التدبير ، فإرادة القلب مصدر أفعال الإنسان ، وأساس النيات والرغبات ، والقصود والاختيارات والحركات والسكنات ، سواء الداخلية في ذات الإنسان أو الخارجية في حركة الأبدان ، ولما كان الإيمان قول وعمل ، قول وعمل في باطن الإنسان و قول وعمل في ظاهره ، فإن أصول القبول الذي ينافي الرد أربعة أركان ، قبول القلب وهو عمله وعمله ، وقبول اللسان وهو قوله ونطقه ، وقبول الجوارح بالخضوع والانقياد ، أما أصول الرد التي تنفي القبول ، فهي أربعة أنواع من الكفران ، وهي ضد أركان الإيمان في الإنسان ، كفر الجهل والتكذيب وكفر النفاق وكفر الجحود وكفر العناد والاستكبار .
فقول القلب هو علمه وقبول القلب حصول العلم فيه ، فالقلب أساس المعرفة والتمييز ويقوم بإدراك نوعين من العلوم : أولها العلم بالأسماء وحدود الأشياء ، وثانيها العلم بمنهج الرسل والأنبياء ، فالله عز وجل قد شاء ، أن يخرج الإنسان من بطن أمه صفحة بيضاء ، لا يعلم شيئا من الأسماء ، فيتعلم حدود الأشياء على فترات ، ويكتسب المعرفة على مدار الأوقات ، كما علم الله آدمَ الأسماء في لحظات ، فقال تعالى في حقه : ( وَعَلمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلهَا ) وقال أيضا في ولده : ( وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلمُونَ شَيْئًا وَجَعَل لكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لعَلكُمْ تَشْكُرُونَ ) النحل / 78 .
ومن عدل الله وحكمته ومن فضله ورحمته أنه لا يكلف إنسانا في طفولته ، ولكن بعد تحصيل القلب للعلم وإدراك المعرفة والفهم ، كلف الله بالأحكام الشرعية ، ومنهج العبودية ، الذي يعود عليه بالصلاح في دنياه ، والفلاح في أخراه ، فقال تعالى : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًي فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَي وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَي قَال رَبِّ لمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَي وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَال كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلكَ اليَوْمَ تُنسَي) طه / 123: 126 .
فالقبول بلا إِلهَ إِلا اللهُ يعني أن المسلم سيخضع لله عن حب وتعظيم ، وطاعة وتسليم ، يسلم نفسه لمعبوده ويعمل في تحقيق مطلوبه ، فلو أرسل الله رسالة لعبيده الصادقين في عبادته ، بين فيها أحكام شريعته ، وأصول طاعته ، وبين فيها ماذا نفعل حتى نصل إلي قربه ومحبته ، وماذا نترك حني نفوز بجنته ، فلو كان العبد صادقا في شهادته أنه لا إِلهَ إِلا اللهُ وأن محمدا رسول الله ، لبذل كل ما في استطاعته واجتهد بكل طاقته لكي يطلع على هذه الرسالة ويتمكن من قراءتها ويدقق في مادتها ، طالما أن هذه الرسالة فيها النجاة من غضب الله ، وفيها القرب من حبه ورضاه ، فكلمة التوحيد عقد بينك وبين الله ، التزمت به يوم قلت أشهد ألا إِلهَ إِلا اللهُ وأن محمدا رسول الله وهو خير عقد يجب على المسلم أن يوفي فيه بالتزاماته ويؤدي ما عليه من واجباته ، لقول الله تعالى في محكم آياته : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (المائدة:1) ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) (البقرة: من الآية177) .
وإذا كان كل عقد بين البشر له قواعد وأحكام ، وكان كل إنسان قبل أن يوقع على أي عقد يقرأ شروطه بإمعان وإتقان ، فحري بالمسلم الصادق في إسلامه ، أن يعرف مضمون العقد الذي بينه وبين الله ، عندما شهد ألا إله إلا الله ، ولذلك أوجب الله علينا السؤال فقال : ( فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (النحل: من الآية43) .
فإن أرسل الله إلي الناس رسالته وأدركوا بعقولهم حجته ، ثم أعرضوا عنها وتملصوا منها ووقعوا في الجهل بتكذيبهم وإعراضهم ، كان كفرهم كفرَ جهلٍ وتكذيب ، كما قال سبحانه وتعالي : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُل أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حتى إِذَا جَاءُوا قَال أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ القَوْلُ عَليْهِمْ بِمَا ظَلمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ ) النمل /84 ، وقال جل جلاله : ( بَل كَذَّبُوا بِمَا لمْ يُحِيطُوا بِعِلمِهِ وَلمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالمِينَ ) يونس / 39 .
قال تعالى : ( كُلمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلهُمْ خَزَنَتُهَا أَلمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلي قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقَالُوا لوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) .
فهؤلاء الكفار لولا أن الحجة بلغتهم ما أعترفوا بذنبهم أو أقروا بحمقهم ، فبسبب ردهم وعدم قبولهم وقعوا في الكفر برسالة السماء وإن جهلوا محتواها ولم يفهموا معناها ، ولذلك كان كفر الجهل والتكذيب هو أول أنواع الكفر بالله ، فتجد العبد يعرض عن الله عند أول سماعه للدليل ، ويكذب بالحق حتى لو ورد في التنزيل ، يغلق قلبه وعقله ويوقف نظره وفكره ، روي البخاري من حديث ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ إلي كِسْرَي مَعَ عَبْد ِاللهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلي عَظِيمِ البَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إلي كِسْرَي فَلمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ ، مزقه دون تفكر أو سؤال أو نظر واستدلال ، وقد ورد في الحديث أن عبد الله بن عباس قال : فَدَعَا عَليْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُل مُمَزَّقٍ .
فالإنسان مسئول عن السبب في جهله ، فإن كان الجهل من كسبه وفعله ، وإعراضه وكبره وعدم قبوله للحق ورده ، فهو محاسب على كل معصية وقع فيها بجهله ، سواء كانت المخالفة مخالفة عظيمة تؤدي إلي الخلود في النار ، أو كانت المخالفة كبيرة تحت مشيئة الواحد الجبار ، إن شاء غفرها لعبده وإن شاء عذبه بذنبه .
أما إذا انقطعت به الأسباب وانسدت في وجهه الأبواب ، ولم يتمكن من معرفة ما نزل في الكتاب بعد الطلب والبحث والسؤال ولم يعص الله فيما قال : ( فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (النحل: من الآية43) ، فهو باتفاق معذور بجهله لا يؤاخذ على ذنبه لأن الجهل ليس من كسبه ، بل هو من تقدير الله وفعله ، وقد قال سبحانه وتعالي : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا ) .
أما الركن الثاني في الإيمان والقبول بلا إله إلا الله ، فهو عمل القلب ، فصلاح الإنسان مبني على صلاح القلب ، وصلاح القلب مبني إدراك العلم وتحصيله ، ثم اعتقاد الحق وقبوله ، فإن تظاهر الإنسان بالقبول في فعله ولم يقبل الحق في قلبه ، ظهر النوع الثاني من أنواع الكفر وهو كفر النفاق ، فكفر النفاق ينشأ عن انتفاء عمل القلب مع الإقرار باللسان وانقياد الجوارح في ظاهر الإنسان ، لقوله تعالى :
( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللهُ مَرَضًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيل لهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ المُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) وقال تعالى : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلي الصَّلاةِ قَامُوا كسالي يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَليلا ) وقال أيضا : ( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَل مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كسالي وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ ) وقال تعالى في إثبات كفرهم ودوام عذابهم أبد الآبدين : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَل مِنْ النَّارِ وَلنْ تَجِدَ لهُمْ نَصِيرًا ) .
أما الركن الثالث من القبول بلا إله إلا الله وتحقيق أركان الإيمان فهو قول اللسان ، وقبول اللسان هو شهادته بلا إله إلا الله ، شهادته بالحق وقول الصدق ، يقول تعالى : ( وَلا يَمْلكُ الذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلمُونَ ) الزخرف/86 ، يقول المفسرون في معني إِلا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ أي شهد بلا إله إلا الله بكلمة الإخلاص والتوحيد فإن لم يشهد اللسان بها مع علمه بصدقها ، ظهر النوع الثالث من أنواع الكفر وهو كفر الجحود ، فكفر الجحود له ركنان ، وجود علم القلب وامتناع اللسان ، ككفر فرعون ، فإنه استيقن في الجنان بصدق بموسي وهارون ، وجحد باللسان أن يوافقهم فيما يقولون ، فقال تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ ) النمل/14 ، وقال جل جلاله : ( وَلقَدْ آتَيْنَا مُوسَي تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأل بَنِي إِسْرَائِيل إِذْ جَاءَهُمْ فَقَال لهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَي مَسْحُورًا قَال لقَدْ عَلمْتَ مَا أَنزَل هَؤُلاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنْ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ) .
ومن أمثلة كفر الجحود كفر اليهود ، فإنهم كانوا يعرفون النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ كمعرفتهم لأبنائهم ، وكانوا قبل مبعثه يفخرون على العرب باتباعهم له وانتمائهم ، يقول تعالى : ( الذِينَ آتَيْنَاهُمْ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ ليَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلمُونَ ) ، ( وَلمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ على الذِينَ كَفَرُوا فَلمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلعْنَةُ اللهِ على الكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَل اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّل اللهُ مِنْ فَضْلهِ أَنْ يُنَزِّل اللهُ مِنْ فَضْلهِ على مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَللكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ) .
روي البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللهم عَنْه أنه قَال : بَلغَ عَبْد الله بْنَ سَلامٍ مَقْدَمُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ المَدِينَةَ فَأَتَاهُ وقال له : إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاثٍ لا يَعْلمُهُنَّ إِلا نَبِيٌّ ، قَال : مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الوَلدُ إلي أَبِيهِ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إلي أَخْوَالهِ ؟ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ ، قَال عَبْد الله بْنُ سَلامٍ : جِبْرِيلُ ؟ قَال : نَعَمْ ، قَال : ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلائِكَةِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ :
( قُل مَنْ كَانَ عَدُوًّا لجِبْرِيل فَإِنَّهُ نَزَّلهُ على قَلبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًي وَبُشْرَي للمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلهِ وَجِبْرِيل وَمِيكَال فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ للكَافِرِينَ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلي المَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الحُوتٍ ، وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الوَلدِ فَإِنَّ الرَّجُل إِذَا غَشِيَ المَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لهُ ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لهَا ، قَال : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، ثُمَّ قَال : يَا رَسُول اللهِ إِنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ إِنْ عَلمُوا بِإِسْلامِي قَبْل أَنْ تَسْأَلهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ ، فَجَاءَتِ اليَهُودُ وَدَخَل عَبْدُ اللهِ البَيْتَ ليختبئ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ ؟ قَالُوا : أَعْلمُنَا وَابْنُ أَعْلمِنَا وَأَخْبَرُنَا وَابْنُ أَخْيَرِنَا ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلمَ عَبْدُ اللهِ ؟ قَالُوا : أَعَاذَهُ اللهُ مِنْ ذَلكَ ، فَخَرَجَ عَبْد الله إِليْهِمْ فَقَال : أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، فَقَالُوا هو شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَوَقَعُوا فِيهِ وَانْتَقَصُوهُ ، قَال : فَهَذَا الذِي كُنْتُ أَخَافه يَا رَسُول اللهِ .
ومن أمثلة كفر الجحود كذلك كفر هرقل ملك الروم ، فعند البخاري من حديث ابن عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْل أَرْسَل إِليْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلسِهِ وَحَوْلهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَال : أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُل الذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَال أَبُو سُفْيَانَ فَقُلتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا ، فَقَال أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ ، ثُمَّ قَال لتَرْجُمَانِهِ قُل لهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُل ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ ، يقول أبو سفيان : فَوَاللهِ لوْلا الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا على كَذِبًا لكَذَبْتُ عَليه ، ثُمَّ كَانَ أَوَّل مَا سَأَلنِي عَنْهُ أَنْ قَال : كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلتُ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ ، قَال : فَهَل قَال هَذَا القَوْل مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلهُ قُلتُ : لا ، قَال : فَهَل كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلكٍ ؟ قُلتُ : لا ، قَال : فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟
فَقُلتُ : بَل ضُعَفَاؤُهُمْ ، قَال : أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ قُلتُ : بَل يَزِيدُونَ ، قَال : فَهَل يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُل فِيهِ ؟ قُلتُ : لا ، قَال : فَهَل كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْل أَنْ يَقُول مَا قَال ؟ قُلتُ : لا ، قَال : فَهَل يَغْدِرُ ؟ قُلتُ لا ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا ، يقول أبو سفيان : وَلمْ تُمْكِنِّي كَلمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الكَلمَةِ ، قَال هرقل : فَهَل قَاتَلتُمُوهُ ؟ قُلتُ : نَعَمْ ، قَال : فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلتُ : الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ ، قَال : مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قُلتُ : يَقُولُ اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلةِ .
فَقَال للتَّرْجُمَانِ : قُل لهُ سَأَلتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلتُكَ هَل قَال أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْل ، فَذَكَرْتَ أَنْ لا فَقُلتُ لوْ كَانَ أَحَدٌ قَال هَذَا القَوْل قَبْلهُ لقُلتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيل قَبْلهُ ، وَسَأَلتُكَ هَل كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لا ، قُلتُ فَلوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلكٍ قُلتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلكَ أَبِيهِ ، وَسَأَلتُكَ هَل كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْل أَنْ يَقُول مَا قَال فَذَكَرْتَ أَنْ لا ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لمْ يَكُنْ ليَذَرَ الكَذِبَ على النَّاسِ وَيَكْذِبَ على اللهِ ، وَسَأَلتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمِ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُل ، وَسَأَلتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلكَ أَمْرُ الإيمان حتى يَتِمَّ ، وَسَأَلتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُل فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لا ، وَكَذَلكَ الإيمان حِينَ تُخَالطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ ، وَسَأَلتُكَ هَل يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لا وَكَذَلكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ ، وَسَأَلتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلوْ أَنِّي أَعْلمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِليْهِ لتَجَشَّمْتُ لقَاءَهُ ، وَلوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لغَسَلتُ عَنْ قَدَمِهِ .
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ الذِي بَعَثَ بِهِ إليه ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ : بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولهِ إلي هِرَقْل عَظِيمِ الرُّومِ سَلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدَي أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ أَسْلمْ تَسْلمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَليْتَ فَإِنَّ عَليْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ – والأريسيون هم عامة الناس من الفلاحين والحرفيين والبسطاء وَ ( يَا أَهْل الكِتَابِ تَعَالوْا إلي كَلمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلمُونَ ) .
قَال أَبُو سُفْيَانَ : فَلمَّا قَال مَا قَال وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا ، فَقُلتُ لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلكُ بَنِي الأَصْفَرِ ، فَمَا زِلتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حتى أَدْخَل اللهُ على الإِسْلامَ ، وقد جمَعَ هِرَقْلُ عُظَمَاء َالرُّومِ فِي وَقَال لهم : يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَل لكُمْ فِي الفَلاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلي الأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلقَتْ ، فَلمَّا رَأي هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنَ إِيمَانِ ، جحد رسول الله وكلمة التوحيد وقَال رُدُّوهُمْ على ، إِنِّي قُلتُ مَقَالتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ على دِينِكُمْ ، وَقَدْ رَأَيْتُ فَسَجَدُوا لهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَكَانَ ذَلكَ آخِرَ شَأْنِه وجحوده وكفره .
ومن أمثلة كفر الجحود أيضا كفرُ أبي طالب عم النبي صلي الله عليه وسلم حيث قال له رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ عند الوفاة : يَا عَمِّ قُل لا إِلهَ إِلا اللهُ كَلمَةً أَشْهَدُ لكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ ، فَقَال أنا على مِلةِ عَبْد ِالمُطَّلبِ وَأبي أَنْ يَقُول لا إِلهَ إِلا اللهُ ، وقد كان يعلم صدق رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فهو القائل :
ولقد علمت بأن دين محمد : من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة : لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فكفر الجحود مبني على عدم قبول اللسان مع اعتقاد الجنان ، فإذا وجد علم القلب وامتنع اللسان ، انتفي أيضا عمل القلب على الإيمان ، لوجود الكبر والكفران ، وكذلك امتنعت حركة الأبدان عن الطاعة والإيمان .
أما الركن الربع من القبول بلا إله إلا الله وتحقيق أركان الإيمان فهو عمل الجوارح وطاعة الأبدان ، فالجوارح هي أدوات الاستطاعة التي تحول عمل القلب إلي فعل خارجي مرئي ملموس ، يكتسبه الإنسان ويحاسب عليه ، وعمل الجوارح مقسم على الحواس ، السمع والبصر وبقية الحواس ، وعمل الجوارح في الطاعة من علامات القبول ، أما إذا امتنع الإنسان بجوارحه عن تنفيذ أمر الله بإصرار ، ووقر في قلبه العلو والاستكبار ظهر النوع الرابع من أنواع الكفر ، وهو كفر العناد والاستكبار ، فكفر العناد مبني على علم القلب بلا إله إلا الله ، وإقرار باللسان أنه لا معبود بحق سواه ، وامتناع الجوارح من الطاعة والاستسلام ، ورد ما جاء عن الله من أحكام ، وذلك لامتناع عمل القلب عن القبول والإيمان ، ووجود العناد والكبر ، والعزم على عدم الفعل ، ومثال كفر العناد والاستكبار ، كفرُ إبليس لعنه الله ، ومن لم يحكم بما أنزل الله ، وكفرُ المواظبِ على ترك الصلاة .
فإن الله تعالى : ( قَال يَا إِبْليسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لمَا خَلقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ العَالينَ ) فحصر السبب في أمرين وجعل العلة في سببين ، إما كبرياء أو استعلاء ، ( فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْليسَ أبي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَال يا إبليس مَا لكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَال لمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لبَشَرٍ خَلقْتَهُ مِنْ صَلصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَال فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَليْكَ اللعْنَةَ إلي يَوْمِ الدِّينِ ) .
وقال تعالى فيمن لم يقبل حكم الله ولم يرض بحكم رسول الله : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا ) ، روي البخاري أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزبيرَ بن العوام رضي الله عنه 2187 فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ التِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل ، اختلفا على قناة الماء التي تروي أرضهما ، فَقَال الأَنصارى سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ فَأبي عَليْهِ – وكانت أرض الزبير قبل أرضه والماء يمر أولا على نخله - فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ للزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِل المَاءَ إلي جَارِكَ ، فَغَضِبَ الأَنصارى وَقَال أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ - أي حكمت لصالحه من أجل قرابته - فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وغضب ، فقَال اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلي الجَدْرِ – اسق حتى يغطي الماء أصول نخلك ويبلغ إلي مقدار الكَعْبَيْنِ ولا عليك منه - فاسْتَوْعَي للزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الحُكْمِ ، فَنزل قول الله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا ) ،
وقال تعالى فيمن حكم غير شرع الله واستكبر عن تطبيق منهج الله : ( وَمَنْ لمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَل اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمْ الكَافِرُونَ ) ( وَمَنْ لمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَل اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمْ الظَّالمُونَ ) ( وَمَنْ لمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَل اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ ) .
فالحاكم أو الإمام أو الذي زعم الإقرار بالإسلام ، إن لم يقبل الشرع ومنهج الإسلام ، وينفذ ما جاء فيه من أحكام ، مع وجود قدرته وقيام استطاعته ، فقد شابه إبليس في عناده وحماقته ، وامتناعه عن السجود للمعبود ، واعلم أن الحكم بغير ما أنزل الله له درجات متفاوته ، تتردد بين الكفر الأكبر الذي ينقض أصل الإيمان والكفر الأصغر ينقض كمال الإيمان ، فيجب التنبه إلي ذلك ، فقوله تعالى : ( وَمَنْ لمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَل اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمْ الكَافِرُونَ ) يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم ، فإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في واقعة معينة ، وعدل عنه لحاجة في نفسه مع اعترافه بذنبه ومعصيته لربه وأنه مستحق للعقوبة بوزره ، فهذا كفر أصغر لا يخرج عن الملة ، وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله ، فهذا كفر أكبر يخرج عن الملة ، وإن جهل حكم الله ، وأخطأ في إدراك شرع الله ، فهو مخطئ له حكم المخطئين .
فمن نحي شرع الله بالكلية ، بعد علمه بكمال الأحكام الإلهية ، وقدم شرعا من انتاج العقول البشرية سواء كانت شرقية أو غربية ، فقد وقع في كفر العناد والاستكبار .
أما تارك الصلاة ، فكفره من جنس كفر إبليس ، قال تعالى : ( وَإِذَا قِيل لهُمْ اسْجُدُوا للرحمن قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) الفرقان ، وقال تعالى : ( وَإِذَا قِيل لهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ للمُكَذِّبِينَ ) المرسلات ، وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) وقال صلي الله عليه وسلم : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) فتارك الصلاة ممن انتسب إلي الإسلام علم بقلبه وأقر بلسانه ولكنه امتنع بجوارحه ، وهذا يدلنا على انتفاء إرادته وامتناع قلبه ، لوجود التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح ، فلو كانت في نيته طاعة الله وعزم بإرادته على السجود لله لظهر ذلك في عمل الجوارح وقام إلي أداء الصلاة ، ولكن امتناعه عن الصلاة مع وجود القدرة عليها يحتم فساد قلبه وخلوه من الإيمان .
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( إلا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) ، والله عز وجل يقول : ( إِنَّ الذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلهُ يَسْجُدُونَ ) الأعراف/206 ، وقال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ لا تَسْجُدُوا للشَّمْسِ وَلا للقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الذِي خَلقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لهُ بِالليْل وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) فصلت/38:37 ، فالمانع المباشر لعدم السجود كما ذكره الله هو الإباء والاستكبار ، فإياك أخي المسلم من التقصير في الصلاة فإنها عمادُ الدين وحياةُ المؤمنين .
ومن علامات القبول الذي ينافي الرد في تحقيق شروط لا إله إلا الله ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا يمكن لعبد يقبل كلمة التوحيد ويرضي بالمنكر ولا يأمر بالمعروف ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبني على الاستطاعة والقدرة كما روي البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ( مَنْ رَأي مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لمْ يَسْتَطِعْ فَبِلسَانِهِ فَإِنْ لمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلبِهِ وَذَلكَ أَضْعَفُ الإيمان ) فأضعف الإيمان أن ينكر بالجنان عند عجز اللسان والأبدان ، ولا يجوز أن يخلو ذلك من قلب إنسان شهد ألا إله إلا الله ، فالإنكار القلبي يجب أن يكون كاملا ودائما بالنسبة لكل منكر ، وهو يبقي القلب في حساسية دائمة ضد المنكر والعصيان ، ويبقي عزمه على التغيير عند الإمكان ، أما الإنكار القولي أو الفعلي فيكون حسب الاستطاعة وما يسر الله للإنسان .
فالقبول الذي ينافي الترك يحتم علينا أن نتزين بشريعة الإسلام ، ودين الرسل الكرام ، دين التوحيد والعبودية وإفراد الله بالألوهية ، فشريعةُ الإسلام أفضلُ شِرْعَة دينُ النبي الصادقِ العدنان _ هو دينُ رب العالمين وشرعُهُ وهو القديمُ وسيدُ الأديان - هو دينُ آدمَ والملائِكِ قَبله هو دينُ نوحٍ صاحبِ الطوفان - وله دعا هودُ النبيُ وصالحُِ وهما لدين الله معتقدان - وبه أتي لوطٌ وصاحبُ مَدْيَنٍ فكلاهما في الدين مجتهدان - هو دينُ إبراهيمَ وابْنَيْهِ معا وبه نجا من نفحة النيران - وبه حَمَي اللهُ الذبيحَ من البلا لما فَداه بأعظَمِ القربان - هو دينُ يعقوبَ النبيِّ ويُونُسَ وكلاهما في الله مبتليان - هو دينُ داودَ الخليفةِ وابنِهِ وبه أَذَل له ملوكَ الجان - هو دينُ يَحْيَي مَعَ أبيه وأمه ، نعم الصبيُّ وحبذا الشيخان - وله دعا عيسي بنُ مريمَ قومَهُ لم يَدْعُهُمْ لعبادة الصلبان - والله أنطقَهُ صبيا بالهدي في المهدِ ثم سما على الصِّبيان - وكمالُ دينِ اللهِ شرعُ محمدٍ صلي عليه منزلُ القرآن - الطيبُ الذاكي الذي لم يجتمعْ يَوْمَا على زللٍ له أبوان - الطاهرُ النِّسْوَانِ والولدِ الذي من ظَهْرِهِ الزهراءُ والحَسَنان - وأولو النبوةِ والهدي ما مِنْهُمُ أحدُ يهوديُّ ولا نصراني - بل مسلمون ومؤمنون بربهم حنفاءُ في الإسرار والإعلان – دُنْ بالشريعة والكتابِ كِليْهِما فَكِلاهُمَا للدين واسطتان - وكذا الشريعةُ والكتابُ كِلاهُمَا بجميعِ ما تِأْتِيهِ محتفظان - والبعثُ بعدَ الموتِ وَعْدٌ صادقٌ بإعادة الأرواح في الأبدان - وصراطُنا حقٌ وحوضُ نبينا صدقٌ له عددُ النجومِ أواني - يُسقَي بها السُنِّيُ أَعْذَبَ شربة وَيُذادْ كلُّ مخالفٍ فتان - وكذلك الأعمالُ يومئذٍ تُري موضوعةً في كفةِ الميزان - يَوْمَ القيامةِ لو عَلمْتَ بهوله لفَرَرْتَ من أهلٍ ومن أوطان - يومٌ تشققتِ السماءُ لهوله وتشيب فيه مفارقُ الولدان - يومٌ عبوسٌ قمطريرٌ شَرُّهُ في الخلق منتشرٌ عظيمُ الشأن - والجنةُ العليا ونارُ جهنمٍ داران للخصمين دائمتان - فإذا دُعِيتَ إلي أداء فريضةٍ فانشطْ ولا تكُ في الإجابة واني - قم بالصلاة الخمسِ واعرفْ قدرَها فلهنَّ عندَ الله أعظمُ شان - لا تمنعن زكاة مالك ظالما فصلاتنا وزكاتنا أختان - والوتر بعدَ الفرض آكدُ سنة والجمعةُ الزهراءُ والعيدان - مع كل بَرٍ صَلها أو فاجرٍ ما لم يكن في دينه بِمُشان - وصيامُنا رمضانَ فرض واجبٌ وقيامُنا المسنونُ في رمضان - والحجُ مُفْتَرَضٌ عليكَ وشَرْطُهُ أَمْنُ الطريق وصحةً الأبدان .
عباد الله اتقوا الله وجددوا إيمانكم بلا إله إلا الله ، وصلي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 31-08-2014, 10:10 PM   #10
معلومات العضو
حكيـــمة
مشرفة عامة لمنتدى الرقية الشرعية

Post شرح شروط لا إله إلا الله للشيخ الرضواني

الشرط الثامن الكفر بما يعبد من دون الله
الحَمْدُ للهِ الذِي أَنزَل على عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلمْ يَجْعَل لهُ عِوَجَا قَيِّمًا ليُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحَاتِ أَنَّلهُمْ أَجْرًا حَسَنا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنذِرَ الذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلدًا مَا لهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا فَلعَلكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِنْ لمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا إِنَّا جَعَلنَا مَا على الأَرْضِ زِينَةً لهَا لنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَإِنَّا لجَاعِلُونَ مَا عَليْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، شهادة تضمن الإسعاد يوم يقوم الأشهاد ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، الداعي إلي سبيل الرشاد ، صلي الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قمعوا أهل العناد ، وحكموا سيوفهم في رقاب أهل الفساد ، فلم يجرؤ أحد في زمانهم على إلحاد ، بتمثيل أو تعطيل أو حلول أو اتحاد ، أبعدنا الله عن ذلك أيما إبعاد ، وحمانا منه على مر الدهور والآباد ، أما بعد ..
فحديثنا بإذن الله في محاضرة اليوم عن الشرط الثامن والأخير من شروط لا إله إلا الله ، وهو الكفر بما يعبد من دون الله ، فشروط لا إله إلا الله التي وردت في كتاب الله وفي سنة رسوله r ثمانيةُ شروط ، لا يصح قول اللسان ولا يصلح ركن من أركان الإيمان إلا بها : أولها العلم المنافي للجهل ، ثم اليقين المنافي للشك ، ثم الإخلاص المنافي للشرك ، ثم الصدق المنافي للكذب ، تم المحبة التي تنافي البغض ، ثم القبول الذي ينافي الرد ، ثم الانقياد الذي ينافي الترك ، والثامن من هذه الشروط هو الكفر بما يعبد من دون الله ، وقد أحسن من جمعها وعدها وحصرها في هذين البيتين فقال :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع : محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما : سوي الإله من الأشياء قد ألها
وآخر هذه الشروط هو الكفر بالطاغوت يقول تعالى : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَي لا انفِصَامَ لهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَليمٌ اللهُ وَليُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلي النُّورِ وَالذِينَ كَفَرُوا أَوْليَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إلي الظُّلُمَاتِ أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالدُونَ ) .
فالتوحيد في أساسه لا يتحقق إلا بنفي وإثبات ، نفي صفات الألوهية عما سوي الله ، وإثباتها لله وحده ، فلا يتم التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله ، فلو نفيت الألوهية عما سوي الله عز وجل ولم تثبتها لله وحده لم تكن موحدا ، ولو أثبت صفات الألوهية لله ، ولم تنفها عمن سواه لم تكن موحدا ، فالنفي المحض تعطيل محض ، والإثبات المحض لا يمنع مشاركة الآخرين في الحكم ، ولذلك لو قلنا مثلا : فلان غني قوي ، فهنا أثبتنا له القوة والغني ، لكن من الجائز أن يشاركه غيره في وصف القوة والغني ، ولكن لو قلنا لا قوي ولا غني إلا فلان ، فهنا وحدناه بهذين الوصفين ، وأفردناه عمن سواه ، فالله عز وجل قرن النفي بالإثبات ورتب ذلك في الآيات ، فلا بد في صحة الإيمان بلا إله إلا الله ، من نفي عبادة ما سوي الله ، أو الكفر بما يعبد من دون الله ، وإثبات عبادة الله وحده ، وهذه حقيقة التوحيد التي جاءت بها رسالة السماء ، ودعت إليها الرسل والأنبياء ، فالعروة الوثقي هي كلمة التوحيد ، وسميت كلمة التوحيد بالعروة الوثقي ، لأن العاقل إذا شهد بها عن فهم دقيق وإيمان عميق ، لا يرضي بغير الله معبودا حتى لو مشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمه أو عصبه ، وما يصده ذلك عن توحيد الله عز وجل ، كما روي البخاري من حديث خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ t قَال : ( شَكَوْنَا إلي رَسُول اللهِ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لهُ فِي ظِل الكَعْبَةِ ، قُلنَا لهُ : أَلا تَسْتَنْصِرُ لنَا ؟ أَلا تَدْعُو اللهَ لنَا ؟ قَال : كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلكُمْ يُحْفَرُلهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ ، فَيُجَاءُ بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ على رَأْسِهِ ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلكَ عَنْ دِينِهِ وَاللهِ ليُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حتى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلي حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللهَ ، أَوْ الذِّئْبَ على غَنَمِهِ وَلكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ .
والعروة في اللغة هي ما يشد به الثوب وغيره ، بحيث يتداخل بعضها في بعض دخولا لا ينفصم ولا ينفك إلا بفصم طرفه ، فإذا انفصمت منه عروة انفصم جميعه ، والمرء إذا شهد ألا إله إلا الله فقد عقد العقدة العظمي والعروة الوثقي لكلمة التوحيد ، التي لا انفصام لها إلا بالشرك بالله أو عدم الكفر بما يعبد من دون الله ، وقد فسر النبي صلي الله عليه وسلم العروة الوثقي بالتوحيد الذي هو عمود الإسلام في تعبيره رؤيا عبد الله بن سلام ، ففي الصحيح عَنْ خَرَشَةَ ابْنِ الحُرِّ أنه قَال : كُنْتُ جَالسًا فِي حَلقَةٍ فِي مَسْجِدِ المَدِينَةِ وَفِيهَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ وَهُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ ، فَجَعَل يُحَدِّثُهُمْ حَدِيثًا حَسَنًا ، فَلمَّا قَامَ ، قَال القَوْمُ :
مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلي رَجُلٍ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ فَليَنْظُرْ إلي هَذَا الرجل ، فَقُلتُ : وَاللهِ لأَتْبَعَنَّهُ فَلأَعْلمَنَّ مَكَانَ بَيْتِهِ ، فَتَبِعْتُهُ فَانْطَلقَ حتى كَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ المَدِينَةِ ، ثُمَّ دَخَل مَنْزِلهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَليْهِ فَأَذِنَ لي ، فَقَال : مَا حَاجَتُكَ يَا ابْنَ أَخِي ، فَقُلتُ لهُ : سَمِعْتُ القَوْمَ يَقُولُونَ لكَ لمَّا قُمْتَ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلي رَجُلٍ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ فَليَنْظُرْ إلي هَذَا ، فَأَعْجَبَنِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ ، قَال : اللهُ أَعْلمُ بِأَهْل الجَنَّةِ ، وَسَأُحَدِّثُكَ مِمَّ قَالُوا ذَاكَ إِنِّي بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَال لي : قُمْ ، فَأَخَذَ بِيَدِي ، فَانْطَلقْتُ مَعَهُ ، فَإِذَا أَنَا بِجَوَادَّ عَنْ شمالي ، الجواد الطريق ، قَال : فَأَخَذْتُ لآخُذَ فِيهَا ، فَقَال لي : لا تَأْخُذْ فِيهَا فَإِنَّهَا طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَال ، قَال : فَإِذَا جَوَادُّ مَنْهَجٌ على يَمِينِي يعني أنه رأي عن يمينه طرقا مستقيمة ، فَقَال لي : خُذْ هَاهُنَا ، أي سر في هذا الطريق ، يقول عبد الله بن سلام : فَأتي بِي جَبَلا ، فَقَال ليَ : اصْعَدْ ، قَال : فَجَعَلتُ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَصْعدَ خَرَرْتُ على اسْتِي – وقعت على مقعدتي - ، حتى فَعَلتُ ذَلكَ مِرَارًا ، ثُمَّ انْطَلقَ بِي حتى أتي بِي عَمُودًا رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَأَسْفَلُهُ فِي الأَرْضِ ، فِي أَعْلاهُ حَلقَةٌ ، فَقَال ليَ : اصْعَدْ فَوْقَ هَذَا – العمود - ، قُلتُ : كَيْفَ أَصْعَدُ هَذَا وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ ؟ ، قَال : فَأَخَذَ بِيَدِي فَزَجَل بِي – أي دفعني ورماني والزجل بالشيء هو الرمي به ، يقول عبد الله بن سلام : فَإِذَا أَنَا مُتَعَلقٌ بِالحَلقَةِ ، ثُمَّ ضَرَبَ العَمُودَ فَخَرَّ ، وَبَقِيتُ مُتَعَلقًا بِالحَلقَةِ حتى أَصْبَحْتُ .
قَال عبد الله بن سلام : فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَصَصْتُهَا عَليْهِ ، فَقَال : أَمَّا الطُّرُقُ التِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَال ، وَأَمَّا الطُّرُقُ التِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ اليَمِينِ ، وَأَمَّا الجَبَلُ – الذي كنت تحاول صعوده فكنت تقع ولم تستطع - فَهُوَ مَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ ، وَلنْ تَنَالهُ ، فلن تموت شهيدا - وَأَمَّا العَمُودُ – الذي رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَأَسْفَلُهُ فِي الأَرْضِ - فَهُوَ عَمُودُ الإِسْلامِ - وَأَمَّا العُرْوَةُ – أو الحلقة التي في أعلاه - فَهِيَ عُرْوَةُ الإِسْلامِ وَلنْ تَزَال مُتَمَسِّكًا بِهَا حتى تَمُوتَ .
فالعروة الوثقي هي عرة الإسلام وكلمة التوحيد ، والمسلم بقوله لا إله إلا الله قد عهد عهدا على نفسه وعقد في قلبه عقدا ، أنه سيسلم لربه ، ولن يطيع أحدا في معصيته ، ولن يتحاكم إلا إلي شرعه .
وقد بين رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أن الكفر بما يعبد من دون الله ، شرط من شروط لا إله إلا الله ، فقد روي الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي مَالكٍ الأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ أنه قَال : سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ : مَنْ قَال لا إِلهَ إِلا اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ على اللهِ .
ومن أوليات الكفر بما يعبد من دون الله ، ألا توالي أعداء الله وأعداء المؤمنين الذين يبغضون دين المسلمين ، ويسارعون في إيذائهم ومعاونة أعدائهم كما قال تعالى : ( لا يَتَّخِذْ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْليَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلكَ فَليْسَ مِنْ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وَإلي اللهِ المَصِيرُ ) .
لما أراد رسول الله فتح مكة وعزم على ذلك أمر أصحابه بكتمان الأمر حتى لا تعلم قريش ، فسرب حاطب بن أبي بلتعة الخبر إليهم رغبة في أن تكون له يد عندهم ، وروي البخاري من حديث على رَضِي الله عَنْه أنه قال : بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ بنَ العوام وَالمِقْدَادَ بنَ الأسود فَقَال : انْطَلقُوا حتى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ – وهي مكان في الطريق بين مكة والمدينة - فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً – والظعينة المرأة الراكبة- مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوه مِنْهَا ، قَال على رضي الله عنه : فَانْطَلقْنَا تَعَادَي بِنَا خَيْلُنَا حتى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ ، قُلنَا لهَا : أَخْرِجِي الكِتَابَ ، قَالتْ : مَا مَعِي كِتَابٌ ، فَقُلنَا : لتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لنُلقِيَنَّ الثِّيَابَ ، قَال : فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلتَعَةَ إلي نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ المُشْرِكِينَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟
قَال : يَا رَسُول اللهِ لا تَعْجَل على ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلصَقًا فِي قُرَيْشٍ ، يَقُولُ : كُنْتُ حَليفًا وَلمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ مَنْ لهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْليهِمْ وَأَمْوَالهُمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي ، وَلمْ أَفْعَلهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلا رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ ، فَقَال عُمَرُ : يَا رَسُول اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ ، فَقَال : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لعَل اللهَ اطَّلعَ على مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَال اعْمَلُوا مَا شئتمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لكُمْ فَأَنْزَل اللهُ عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْليَاءَ تُلقُونَ إِليْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُول وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِليْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَل سَوَاءَ السَّبِيل ) الممتحنة/1 .
ويقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) .
فالله عز وجل نهي عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم ، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن وبما يستطيعون من المكر والخديعة ويودّون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم وقوله تعالى :
( لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) (آل عمران: من الآية118) ، أي من غيركم من أهل الأديان ، وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره ، قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن ههنا غلاما من أهل الحيرة من النصارى حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتبا فقال : قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين ، يقول ابن كثير : وهذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشي أن يفشوها إلي الأعداء من أهل الحرب ، فما بالنا في هذا العصر ونحن نطلع الغربيين والشرقيين على أسرارنا ونفرح بمشاركتهم في أمورنا ، ونسارع في مرضاتهم ونقلد سلوكياته ، ونسير خلفهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، فيا أهل لا إله إلا الله أين الولاء لله والبراء من أعداء الله ، أين الكفر بما يعبد من دون الله ؟ إن الله تعالى يقول :
( أَلمْ تَرَ إلي الذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِل إِليْكَ وَمَا أُنزِل مِنْ قَبْلكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ) ،فأنكر الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله في القرآن ، وعلى الأنبياء السايقين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات وفض المنازعات إلي غير منهج الله الذي نزل في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم .
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية أن رجلا من الأنصار ورجلا من اليهود تخاصما فيما بينهما ، فقال اليهودي : بيني وبينك محمد وما يحكم به ، وقال الأنصارى : بيني وبينك كعب بن الأشرف وما يحكم به ، وقيل أنها نزلت في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام والعبودية ، وأرادوا أن يتحاكموا إلي حكام الجاهلية ، والآية عامة وذامة لكل من تحاكم إلي غير الشريعة الإسلامية ، وعدل عن الكتاب والسنة إلي ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هنا ، ولهذا قال تعالى : ( أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلي الطَّاغُوتِ ) ( وَإِذَا قِيل لهُمْ تَعَالوْا إلي مَا أَنزَل اللهُ وَإلي الرَّسُول رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ) ، يعرضون عنك إعراض المستكبرين ، ويفعلون أفعال المشركين ، وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْل المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلي اللهِ وَرَسُولهِ ليَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلئِكَ هُمْ المُفْلحُونَ ) .
وحال هؤلاء المنافقين يشبه حال الكثيرين ممن يدعون العلم والإيمان في هذه الأزمان ، إذا قيل لهم تعالوا إلي ما أنزل الله وإلي الرسول رأيتهم يصدون وهم مستكبرون ، ويعتذرون بأنهم لا يعرفون ولا يعقلون ، وهؤلاء هم المعطلون ، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، يقولون بزعمهم إنما قصدنا التوفيق بين القواطع العقلية والفلسفة والكلامية ، وبين الأدلة النقلية التي وردت في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، ثم يجعلون الفلسفة الكلامية هي الأساس في الأصول الاعتقادية التي يحكمون بها على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه وعطلوه وطلبوا له وجوه التأويلات البعيدة والتكلفات الشديدة التي تلوي أعناق النصوص .
ثم قال الله تعالى في ذم المنافقين : ( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ) ، إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب أصابتهم بسبب ذنوبهم وحمقهم ، واحتاجوا إليك جاءوك يعتذرون إليك ويحلفون بالله لديك ، ما أردنا بذهابنا إلي غيرك ، وتحاكمنا إلي أعدائك إلا الإحسان والتوفيق ، والمداراة والمصانعة ، لا اعتقادا منا في صحة حكمهم ، وصواب رأيهم ، فقال تعالى في شأنهم :
( أُوْلئِكَ الذِينَ يَعْلمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) هؤلاء هم المنافقون ، يخادعون رسول الله ولا يعلمون أن الله يعلم ما في قلوبهم وسيحاسبهم على أفعالهم ، فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فقال الله عز وجل لنبيه في شأن المنافقين وخذلانهم للمؤمنين :
( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلا بَليغًا ، أمر الله رسوله صلي الله عليه وسلم فيهم بثلاثة أشياء : أولها الإعراض عنهم إهانة لهم وتحقيرا لشأنهم وتصغيرا لأمرهم ، ثانيها : تخويفهم عقوبة الله وشدة بأسه ونقمته ، إن أصروا على التحاكم إلي غير رسوله صلي الله عليه وسلم وما أنزل عليه ، وثالثها قوله وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي يبلغ تأثيره إلي قلوبهم ليس قولا لينا لا يتأثرون به ، ويقول تعالى :
( وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا ليُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لهُمْ الرَّسُولُ لوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) يرشد الله تعالى المنافقين أنهم لو كانوا صادقين في دعواهم الإيمان ووقع منهم الخطأ والعصيان ، لأتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم ليستغفر لهم عند ربهم ، ويتوبوا من ذنبهم ، فإنهم إذا فعلوا ذلك لو جدوا الله توابا رحيما ، ثم قال تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا ) .
روي البخاري أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزبيرَ بن العوام رضي الله عنه 2187 فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ التِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل ، اختلفا على قناة الماء التي تروي أرضهما ، فَقَال الأَنصارى سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ فَأبي عَليْهِ – وكانت أرض الزبير قبل أرضه والماء يمر أولا على نخله - فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ للزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِل المَاءَ إلي جَارِكَ ، فَغَضِبَ الأَنصارى وَقَال أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ - أي حكمت لصالحه من أجل قرابته - فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وغضب ، فقَال اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلي الجَدْرِ – ويعني اسق حتى يغطي الماء أصول نخلك ويبلغ إلي مقدار الكَعْبَيْنِ ولا عليك منه - فاسْتَوْعَي للزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الحُكْمِ ، فَنزل قول الله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا ) .
فالتحاكم إلي الطاغوت مناف للايمان وزيادة في الكفر والفسوق والعصيان ، فلا يصح الإيمان بالله الا بالكفر بما يعبد من دون الله ، والبراءة من الكافرين والولاية للمؤمنين ، فلا تجتمع البراءة والولاية أبدا ، فالولاية للمؤمنين عزة ونصرة ، والولاية للكافرين ذلة وخسة .
وقد كان المشركون في الجاهلبية يعلمون أن شهادة ألا إله إلا الله ، تستلزم الكفر بما يعبد من دون الله ، وأن الإقرار بها يحتم كامل المولاه لله ولرسوله ، ولذلك لما طلب رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلم َمن عمه أن ينطق بكلمة التوحيد وهو يحتضر ، لم يطاوعه قلبه على أن ينطق بلا إله إلا الله لعلمه بلوازمها ، فانتصر لدين الآباء المشركين وأبي أن يؤمن بخاتم الأنبياء والمرسلين ، ولم يشهد ألا إله إلا الله ، فهم كانوا يعلمون شروطها ولوازمها 1360 جاء في الصحيح من حديث سَعِيد بْن المُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ لمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْل بْنَ هِشَامٍ وَعَبْد َاللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ ، قَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ لأَبِي طَالب : ٍ يَا عَمِّ قُل لا إِلهَ إِلا اللهُ كَلمَةً أَشْهَدُ لكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ ، فَقَال أَبُو جَهْلٍ وَعَبْد ُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ : يَا أَبَا طَالبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلةِ عَبْد ِالمُطَّلبِ ، فَلمْ يَزَل رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَعْرِضُهَا عَليْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلكَ المَقَالةِ حتى قَال أَبُو طَالبٍ آخِرَ مَا كَلمَهُمْ : هُوَ على مِلةِ عَبْد ِالمُطَّلبِ وَأبي أَنْ يَقُول لا إِلهَ إِلا اللهُ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، أَمَا وَاللهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ مَا لمْ أُنْهَ عَنْكَ ، أسوة بإبراهيم لما استغفر لأبيه المشرك الذي قال له :
**أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لئِنْ لمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَليًّا قَال سَلامٌ عَليْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَي أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ** (مريم/48:46) فلما علم الصحابة أن رسول الله سيستغفر لعمه على الرغم من عقيدته الشركية ، بدؤوا يستغفرون لآبائهم المشركين الذين ماتوا في الجاهلية ، عند ذلك منعهم الله عز وجل وبين لهم أن ذلك لا يجوز في حقهم ، وأن إبراهيم ما استغفر لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه بأنه سيشهد ألا إله إلا الله وأن إبراهيم نبي الله ، فَلمَّا تَبَيَّنَ لهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنزل الله عز وجل :
مَا كَانَ للنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكِينَ وَلوْ كَانُوا أُوْلي قُرْبَي مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلمَّا تَبَيَّنَ لهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَليم وَمَا كَانَ اللهُ ليُضِل قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ ** (التوبة/115:113)
إبراهيم عليه السلام تبرأ من أبيه لما أصر على الشرك بالله وامتنع عن التوحيد ، فبعد أن كان والده قريبا حبيبا أصبح بسبب شركه بعيدا غريبا ، بل سأل إبراهيم ربه ألا يخزيه فيه يوم يبعثون ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون ، فقال : **وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُون يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون إِلا مَنْ أتي اللهَ بِقَلبٍ سَليمٍ ** (الشعراء/89:87) ماذا سيحدث لآزر والد إبراهيم يوم القيامة ؟
يحوله إلي ضبع من أقذر المخلوقات وساخة ونجاسة فمن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ في الصحيح أن النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : يَلقَي إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعلى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لهُ إِبْرَاهِيمُ أَلمْ أَقُل لكَ لا تَعْصِنِي فَيَقُولُ أَبُوهُ فَاليَوْمَ لا أَعْصِيكَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَي مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ فَيَقُولُ اللهُ تعالى إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ على الكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمُ انظر مَا تَحْتَ رِجْليْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلقَي فِي النَّارِ .
فيمسخ الله أباه ويُسْخِطُه في صورة قبيحة وريحة منتنة ، يحوله ضبعا متلطخا يتمرغ في نتانته ، فلا يخزي إبراهيم في أبوته ولا يبقي في النار على صورته ، جعله سبحانه مشابها للضبع في قذارته وحماقته ، يذكر ابن حجر أن الحكمة في مسخه ضبعا أن الضبع من أحمق الحيوانات وآزر كان من أحمق المخلوقات ، فبعد أن ظهرت له الآيات البينات الواضحات على توحيد الله ، أصر آزر على الشرك ، رفض توحيد الله وأصر على تعظيم من سواه فاستحب الكفر على الإيمان ووقع في الظلم والعصيان .
ولذلك قال تعالى لنبيه وللمؤمنين : **قَدْ كَانَتْ لكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أَبَدًا حتى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْل إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ وَمَا أَمْلكُ لكَ مِنْ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَليْكَ تَوَكَّلنَا وَإِليْكَ أَنَبْنَا وَإِليْكَ المَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلنَا فِتْنَةً للذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ** (الممتحنة/5:4) .
فكلمة لا إله إلا الله ، تقلب العدو إذا شهد بها إلي حبيب ، وتحول القريب إذا كفر بها إلي غريب ، لأنها فرقان بين الحق والباطل ، ونور يخرج من القلب إلي اللسان يضيئ الأركان في سائر الأبدان .
والرسول صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يشفع لعمه في الآخرة ، ليس في الخروج من النار ، ولكن في تخفيف العذاب عنه هتي يكون عذابه أهون أهل النار عند البخاري 6076 فمن حديث النُّعْمَانِ بن بشير رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال : إِنَّ أَهْوَنَ أَهْل النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ لرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلي مِنْهَا دِمَاغُهُ .
ويريد بذلك عمه أبو طالب لما ورد من حديث 5740 الحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلبِ أنه قَال : يَا رَسُول اللهِ هَل نَفَعْتَ أَبَا طَالبٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لكَ قَال نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ ، لوْلا أَنَا لكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَل مِنَ النَّارِ .
وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلي محمد يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت والدليل على ذلك قوله تعالى : ( وَلقَدْ بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَي اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَليْهِ الضَّلالةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) .
وأصول الطواغيت التي تعبد من دون الله محصورة في أصلين من أبواب الضلال : الأصل الأول عبودية الهوى وما يتعلق به من أصناف الدنيا وأنواع المشتهيات ، والأصل الثاني عبودية الشيطان وما يبثه في قلب الإنسان من شبهات .
فالأصل الأول يدخل تحته ما تجاوز به العبد حده وتجاوز به وصفه ، كمن عظم نفسه ودعا الناس إلي إطرائه ومدحه حتى يصل به الهوى إلي إدعاء ربوبيته ، ودعوتهم لعبوديته ، كما فعل فرعون وهامان ومن قبلهما النمرود بن كنعان ، كل واحد منهم ألبس نفسه رداء الربوبية ولم يكتس بثوب العبودية ، ولم يعلم أنه عبد في ملك سيده مستخلف في أرضه أمين على ملكه ، قد ابتلاه فيما أعطاه ، وامتحنه فيما خوله واسترعاه ، فلم يرد الملك إلي المالك ونسب لنفسه أوصاف الخالق ؟ فتكبر على الخلق بنعم الله ، وتعالي عليهم بما منحه وأعطاه ، لينازع ربه في وصف الربوبية ، ويشاركه في العلو والكبرياء ، وعظمة الأوصاف والأسماء ، فأصبح طاغوتا يستوجب الشقاء والحرمان ، ودوام العذاب في النيران ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَل في الحديث القدسي :
( الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ r في الحديث الذي رواه الإمام مسلم قَال : ( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) فإن لم تكن عبدا لربك تعتقد أنك وما خولك وملكك خالصا له خاضعا لأمره ، فإنك تطمع إلي تأليه نفسك والخروج عن وصفك ، فتدعي لنفسك ما ادعاه فرعون من أوصاف الربوبية .
فرعون بلغت به الوقاحة إلي أن قال : ( وَقَال فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لي صَرْحًا لعلى أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلعَ إلي إِلهِ مُوسَي وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلكَ زُيِّنَ لفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيل وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ ) ، ( وَنَادَي فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَال يَاقَوْمِ أَليْسَ لي مُلكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحتى أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلوْلا أُلقِيَ عَليْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلنَاهُمْ سَلفًا وَمَثَلا للآخِرِينَ ) ، وقد قال تعالى : ( كَذَلكَ يَطْبَعُ اللهُ على كُل قَلبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فإياك إياء من العلو والاستكبار لأن الله تعالى هو الملك الجبار : ( تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الارْضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ ) (القصص/ 83) .
وهذا النمرود بن كنعان حاج إبراهيم في ربه ( أَلمْ تَرَ إلي الذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ المُلكَ إِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَال أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَال إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ ) ، فهؤلاء الظالمون اتبعوا أهواءهم وعظموا وصفهم حتى ادعوا الألوهية مع علمهم أنهم لا دوام لهم في الحياة إلا بإذن الله ، فكان الهوى هو طاغوتهم الذي عبدوه من دون الله :
( أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَليْهِ وَكِيلا ) ، ( أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلهُ اللهُ على عِلمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَل على بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، فالله عز وجل يبتلي العباد ، بأنواع الفتن ليمحص المؤمنين من أهل الفساد والعناد ، فمن حديث حُذَيْفَةَ بن اليمان أن النَّبِيَّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال : ( تُعْرَضُ الفِتَنُ على القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حتى تَصِيرَ على قَلبَيْنِ على أَبْيَضَ مِثْل الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه ) ، فالهوى طاغوت يعبد من دون الله ويتعلق بأنواع الدنيا من المشتهيات كما قال تعالى :
( زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْل المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ ) ، فهذه الأصناف السبعة هي أنواع المشتهيات ، فإن لم تكن وسائل لطاعة الله والفوز في أخراه فهي طواغيت عبدت من دون الله وقد قال رسول الله : ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ ) .
ويدخل تحت الأصل الأول وهو عبودية الهوى وما يتعلق به من أصناف الدنيا وأنواع المشتهيات ، من عبد من دون الله وهو راض بهذه العبودية ، كما يفعل كثير من شيوخ الصوفية الذي يزعم الولاية والإيمان ثم يوصي قبل موته أن يقيموا مسجدا على قبره ، ويجتمعوا عليه في مولده ثم بعد ذلك يعبد من دون الله ، وكذلك من ادعي شيئا من علم الغيب فإنه طاغوت يعبد من دون الله ، فإن الله قد ابتلانا بقصر مداركنا ومحدودية علمنا وضن علينا بعلم الغيب ، فقال تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا ليْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) ، وقال الله تعالى : ( قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) .
فالسحر والكاهنة من الجبت والطاغوت والله تعالى يقول : ( أَلمْ تَرَ إلي الذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ للذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَي مِنْ الذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ) ، فلا نصدق كاهنا ولا عرافا ، فمن حديث أبي هريرة أن النبي قال : ( من أتي عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) ، وعن عائشة قالت : سئل رسول الله عن الكهان فقال ليسوا بشيء فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا فقال رسول الله تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة .
فيدخل تحت الطاغوت الذي يجب أن تكفر به ، كشرط من شروط لا إله إلا الله ، كل من ادعي معرفة الغيب كالكاهن والذي يضرب الودع والحصي ، والذي يخط بالأرض في الرمال ، والمنجم الذي يدعي العلم بالأبراج والنجوم ، وغيرهم ممن يتكلم في معرفة الأمور الغائبة ، كالدلالة على شي مسروق أو التعرف على مكان الضالة ونحوها أو الإخبار عن أمور تحدث في المستقبل ، كمجئ المطر أو رجوع الغائب أو هبوب الرياح ، ونحو ذلك مما استأثر الله عز وجل بعلمه ، فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا من طريق الوحي وترابط الأسباب ، كما قال الله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (الجن:27) .
أما الأصل الثاني من أصول الضلال ، والطاغوت الذي يعبد من دون الله ، فهي عبودية الشيطان وما يبثه في قلب الإنسان من شبهات ، فإبليس لما امتنع عن السجود لآدم ، وتملكه العلو والاستكبار ، وأظهر الاعتراض والاستنكار على رب العزة والجلال ، حسدا وحقدا على آدم وذريته ، كيف فضلهم الله بمنزلة أعلى من مكانته ؟ لعنه الله وطرده من رحمته ، وأيقن إبليس بهلاكه وشقوته ، وأنه لا محالة ممنوع من جنته ، ( قَال رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلي يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ( قَال أَرَأَيْتَكَ هَذَا الذِي كَرَّمْتَ على لئِنْ أَخَّرْتَنِي إلي يَوْمِ القِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَليلا ) ، ( وَقَال لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ، وَلأُضِلنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَليُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَليُغَيِّرُنَّ خَلقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَليًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ، أُوْلئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) ، فكان من عدل الله أنه أمهله ، ( قَال فَإِنَّكَ مِنْ المُنْظَرِينَ ، إلي يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ ) فازداد الشيطان حقدا على الإنسان ، وأكد أنه لن يسأم في إغوائه ودعوته إلي العصيان : ( قَال رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لهُمْ فِي الأرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ المُخْلصِينَ ، قَال هَذَا صِرَاطٌ على مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبَادِي ليْسَ لكَ عَليْهِمْ سُلطَانٌ إِلا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الغَاوِينَ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ، لهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لكُل بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) .
وقد بين الله أن سلطان الشيطان عن أولياء الله مرفوع ، وأن كيده مدفوع ، فلما نزل الخبيث إبليس وضع لنفسه عرشا على الماء ، يشبه نفسه باستواء الله على عرشه في السماء ، وجعل نفسه إلها لأتباعه من العصاة ، وحبب إلي نفسه من جنسه أسوأ الدعاة ، وجلس على عرشه ليبعث في الأرض سراياه ، كما روي مسلم بسنده عَنْ جَابِر ٍبن عبد الله t أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : ( يَبْعَثُ الشَّيْطَانُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ) ، وفي رواية أخرى قال صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ عَرْشَ إِبْليسَ على البَحْرِ فَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً ) وفي رواية ثالثة قال صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ إِبْليسَ يَضَعُ عَرْشَهُ على المَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَال ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حتى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَال فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ ) .
وانظر أيها المستمع البصير ، وأمعن النظر ورتب التفكير ، في عدل الله وحكمة التدبير ، كيف أوجد الله في كل إنسان منا نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ، ليس لأحدهما غلبة على الآخر ، نازع يدعوه إلي الطاعة وفعل الخير وهو نازع التقوى والرغبة في الآخرة بالطاعة والإيمان ، وآخر يدعوه إلي المعصية وفعل الشر وهو نازع الهوى والرغبة في الدنيا بالمخالفة والعصيان ، والإنسان حر بينهما في الاختيار ، كما قال رب العزة والجلال :
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ومن هنا كان الأصل الأول من أبواب الضلال وأصول الطواغيت التي تعبد من دون الله ، وهي عبودية الهوى وما يتعلق به من أصناف الدنيا وأنواع المشتهيات ، فلما أذن الله للشيطان أيضا أن يوسوس للإنسان ، واتفق الشيطان مع نازع الشر في الإنسان ، كلاهما يدعوان إلي الكفر والعصيان ، كان الأصل الثاني من أبواب الضلال وأصول الطواغيت في الإنسان التي تعبد من دون الله عبادة الشيطان ، كما ظهرت في الإنسان حكمة الله ، وبلغ كمال العدل في الأشياء منتهاه ، فجعل الله تركيب الإنسان على مستوي الكمال ، ظاهرا وباطنا على قمة الاعتدال ، فقال رب العزة والجلال : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ ، الذِي خَلقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) فكلف الله بكل إنسان ملكا قرينا ، وأمره أن يلازمه ملازمة الشيطان للإنسان ، لا يفارقه إلا إذا فارق الدنيا دار الامتحان ، وأمره أيضا أن يدعوه إلي الخير ويحضه عليه ، كما أن الشيطان يدعوه إلي الشر ويحضه عليه ، فيستوي بذلك مقدار الدواعي في الإنسان ، وتعتدل الكفتان في الميزان ، ولا يكون لأحد من أهل الخسران حجة على الله يوم القيامة .
فالله كما هداه النجدين ، وركب فيه نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ، ليس لأحدهما غلبة على الآخر ، وكل بالإنسان أيضا قرينين هاتفين مرغبين بلمتين ، ليس لأحدهما سلطان على إرادة الإنسان ، فبات مقدرا لكل منا بحكمة الله وعدل الميزان ، قرينان داعيان ، هاتفان مرغبان ، إما في الخير وإما في الشر ، ولم يستثن الله أحدا من ذلك حتى نبينا صلي الله عليه وسلم ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رَسُولُ الله قال : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَقَدْ وُكِّل بهِ قَرِينُهُ مِنَالجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ المَلائِكَةِ ، قَالُوا : وَإِيَّاكَ يَا رَسُول الله ، قَال : وَإِيَّايَ وَلكِنَّ الله أَعَانَنِي عَليْهِ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِحَقٍّ ) .
والله عز وجل أمرنا بأن نكفر بما يعبد من دون الله كشرك من شروط لا إِلهَ إِلا الله روي الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي مَالكٍ الأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ أنه قَال : سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ : مَنْ قَال لا إِلهَ إِلا اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ على اللهِ .
فأمرنا بألا يتبع الإنسان هواه وتخذ الهوى إله يعبد من دون الله ، وأمرنا بألا نتبع الشيطان فإنه يدعو إلي الفسوق والعصيان ، وأعظم دعواه أن يشرك الإنسان بالله ، ولذلك حذرنا الله من الشرك كأعظم ذنب يقع فيه العبد ، وأخذ العهد علينا والميثاق ألا نقع في هذا الظلم العظيم ، فقال تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلي شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلكُنَا بِمَا فَعَل المُبْطِلُونَ وَكَذَلكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلعَلهُمْ يَرْجِعُونَ )
فالله عز وجل يخبرنا أنه أخذ العهد والميثاق الغليظ على الإنسان قبل بداية حياته ليقرره أنه مستخلف فقط ، أمين في ملك الله للابتلاء والامتحان ، ليعرفوا جميعا حق الله على العباد ، وحق العباد على الله ، فحق الله عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحقهم عليه ألا يعذبهم إذا فعلوا ذلك ، أشهدهم على أنفسهم وسألهم جميعا ألست بربكم ؟ قالوا بلي ، إظهارا منه لما انفرد به من معاني الربوبية ، وأنه منفرد بالخلق والأمر لا إله إلا هو ولا رب سواه ، وهو وحده مالك الملك لأنه وحده خالق الكل ، منفرد بإنشاء العالم وتركيبه على هذه الهيئة البديعة ، فالله لن يقبل منهم أن يتخذوا شريكا له في خلقه أو منازعا له على ملكه ، ولن يقبل المساس بتوحيده أبدا ، فقال :
( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ افْتَرَي إِثْمًا عَظِيمًا ) فلكون الشرك ظلما عظيما ، أخذ الله العهد والميثاق على الإنسان قبل نزوله إلي الأرض ، فإن وسوس الشيطان للإنسان بأن الله له شريك في السماوات والأرض أو له معين في شيء من الخلق فقد وقع في الظلم العظيم وتجاوز حدوده ، ولن يفلح وقتها احتجاج بالنسيان أو إغواء الشيطان ، أو اتباع للآباء في سالف الزمان لأن الله بين لنا في القرآن أنه لن يعذبهم إلا إذا أرسل الرسل مذكرين بالعهد مرارا وتكرارا فقال : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا ) .
فوجب على الإنسان أن يراعي في قوله وعمله الخوف من الله وحده لا من سواه ، لأن صاحب الأمانة وولي النعمة هو الله ، وما سواه لا يملك شيئا بل هو مجرد أمين في الحياة ، فقال تعالى : ( قُل ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا في الأرْضِ وَما لهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لهُ مِنهُمْ مِنْ ظَهِير ) ، فالله أعلمهم جميعا بأنه منفرد بالملك والربوبية له العلو في الشأن والقهر والفوقيه ، لا يقبل شريكا معه في العبوديه ولا يقبل أن يتشبه به أحد في وصف الربوبيه ، فلما أشهدهم الله على أنفسهم بالتوحيد ونبذ الشرك ، أقروا أمام خالقهم بأن المنفرد بالملك هو الله ، وأنه خالقهم ومدبر أمرهم لا حول ولا قوة لهم إلا بربهم ، وأنهم لا ينسبون شيئا من ملكه لهم أو لغيرهم ، إلا على سبيل استخلافهم فيه وابتلائهم ، فالأمر لله في كونه على سبيل الربوبية وتصريف خلقه ، والأمر لله في شرعه على سبيل العبودية وتطبيق حكمه ، الفضل له والملك له ، والحمد له ، والشكر له ، وهم على هذا العهد قائمون ، يوحدون ولا يشركون ويشكرون ولا يكفرون ، صابرون مؤمنون ، إلي أن يعيدهم يوم القيامة إليه ، ويكرمهم بالجنة لديه وهذا حقهم عليه إذا لم يشركوا به شيئا ، وعدا عليه بعدله ، وتفضلا منه بكرمه كما ذكر ذلك في سائر كتبه فقال :
( وَعْدًا عَليْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيل وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيم ) فبين بعدها أن هذا الوعد سيناله من اتصف من المستخلفين في ملكه بمثل هذه الصفات : ( التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرْ المُؤْمِنِينَ )
فهذا آخر شرط من شروط لا إله إلا الله وهو الكفر بما يعبد من دون الله ، نسأله الله أن نكون من الموحدين المخلصين الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نقلاً عن موقع الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 10:44 AM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com