موقع الشيخ بن باز


 

  لتحميل حلقة الرقية الشرعية للشيخ أبو البراء اضغط هنا


ruqya

Icon36 صفحة المرئيات الخاصة بموقع الرقية الشرعية

الموقع الرسمي للشيخ خالد الحبشي | العلاج بالرقية الشرعية من الكتاب والسنة

تم غلق التسجيل والمشاركة في منتدى الرقية الشرعية وذلك لاعمال الصيانة والمنتدى حاليا للتصفح فقط

الأخوة و الأخوات الكرام أعضاء منتدنا الغالي نرحب بكم أجمل ترحيب و أنتم محل إهتمام و تقدير و محبة ..نعتذر عن أي تأخير في الرد على أسئلتكم و إستفساراتكم الكريمة و دائماً يكون حسب الأقدمية من تاريخ الكتابة و أي تأخر في الرد هو لأسباب خارجة عن إرادتنا نظراً للظروف و الإلتزامات المختلفة

 
العودة   منتدى الرقية الشرعية > الساحات العامة والقصص الواقعية > ساحة الموضوعات المتنوعة

الملاحظات

صفحة الرقية الشرعية على الفيس بوك

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع
New Page 2
 
 

قديم 13-12-2016, 06:34 AM   #1
معلومات العضو
بنت مثقفة

افتراضي قيود وأوهام

قيود وأوهام

التحديات والعوائق لا تزول ولا تفنى، ومنها الحقيقي الذي لا بد من إزالته والتعامل معه بمنهجية شرعية كالذنوب ونقص العلم وضعف العبادة، ومنها الذاتي: وهو ما كان من النفس ودواخلها، ومنها الخارجي: الأسباب التي تخرج عن الإرادة الذاتية، ومنها ما يتعلق بظروف الواقع، ومنها ما يتعلق بأزلية الباطل، ومنها الوهمي، وسوف نجمعها هنا على سبيل الإجمال لا الحصر والتفنيد، وقد تعرضنا ربما لبعضها في (حاجتنا للفاعلية)، وسوف نضعها تحت مشرحة الكتاب والسنة ومآثر أجيال الفاعلية، فنبددها بإذن الله، ونزيل عوالقها، ومن هذه العوائق:
• ضعف الصلة بالله، ومقارفة الذنوب والمعاصي، وهجر المحراب، وزيادة الجفوة مع منابع الإيمان، ولذا فمعين الداعية يبدأ من محرابه وعبادته ? قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ? [المزمل: 2]، وإذا ما نظرت للجيل الأول لم تفتك مشاهد الإيمان والعبودية المحضة؛ لأنها الزاد الحقيقي و? خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ? [البقرة: 197]، والمعين الفريد مهما طال البلاء واستطالت اللأواء ? وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ? [النحل: 127]. قال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله حتى تطلع الشمس ويخبرنا عن السلف: أن ذلك كان هديَهم، فإذا طلعت الشمس، قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله، والتفقه في دينه.[1] وقال ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضطجعًا في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غلبه النوم استند إلى القتب.[2] قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدثنا بشر بن المنذر قال: رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع.[3] وكان يحيي الليل صلاة وقرآنًا وبكاء، وكانت أمه تدخل منزلَهُ، وتتفقدُ موضعَ مصلاه، فتجده رطبًا من دموعه في الليل[4]. قال ابن المنكدر: إني لأدخل في الليل فيهولُني، فأصبحُ حين أصبحُ وما قضيت منه أربي[5]. وعن ابن جريج: صحبت عطاء ثمانيَ عشرةَ سنة، وكان بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من البقرة وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك[6]. عن نسير بن ذعلوق قال: كان الربيع بن خيثم يبكي حتى يبل لحيتَهُ من دموعه فيقول: أدركنا قومًا كنا في جنوبهم لصوصًا[7]. وقد أثر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أطوع الناس لله أشدهم بغضًا لمعصيته، وانظر ما زوّقه سهل التستري عن الصديقين، فقال: أعمال البر يعملها البَر والفاجر، ولا يجتنب المعاصي إلا صدِّيق. وعند النظر لمقولة أبي بكر عن أطوع الناس وهو الصدِّيق، ومقولة سهل التستري عن من هو الصدِّيق تجد الاتفاق بينهما في أنه من اجتنب المعاصي وأبغضها، ويا ليت شعري لو يعلم العاصي أي بعد من الله أبعدت المعصية صاحبها، ويا ليت شعري في الداعية لتعبيد الناس لله، كيف يدعو ويخالف، قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الناس قد أحسنوا القول، فمن قوله فعله، فذلك الذي أصاب حظه، ومن لا يوافق قوله فعله فذاك الذي يوبخ نفسه. وقد قال أحدهم: أسكتتني كلمة عبد الله بن مسعود عشرين سنة: من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبخ نفسه.

• ضعف التأصيل وتأصيل الضعف، والمقصود بضعف التأصيل: الانطلاق في أمور الدعوة دون تأصيل علمي ورجوع لأصول الشريعة، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، والاكتفاء بالآراء والتقليد والقياس بلا تمحيص وعرض على أصول الشريعة ومقاصدها و دون أي مستند شرعي. وأما المقصود بتأصيل الضعف: فحين يقع الإنسان في خطأ ما أو مزلق شرعي فتراه يتكلف الاستدلال ويأتي بما لا يصلح، وقصده أن يظهر بمظهر المتقيد بالشرع.

• الانشغال بالأهل والضيعات، قال الحق: ? إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ? [التغابن: 15]، وقال: ? إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ? [التغابن: 14]، وهذه التحذيرات لا يلزم منها فسقهم أو كفرهم وعنادهم، ولكن قد يصدون عن الطريق إما لمتعة وإما لاستمالة القلب بالحاجة للفرد وهكذا، وقد سبق الحديث عن ضرورة الزوجة الصالحة مع الداعية لأنها بلا شك ستكون خير معين، وستنهج نهج أم الدحداح - رضي الله عنها -، وأما ما كانت ذات أهداف تحتية، وربما حتى أبناؤها تقولبوا على ذلك فلا شك أنها سينشغل بهم عن الخيرية المهداة لنا. (فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له، يبقى أسيرًا لها تحكم في وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لاسيما إذا درت بفقره إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها فإنها تحكم فيه حينئذ، حكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه..)[8]. عن جعفر قال: وسمعت مالكًا يقول: ينطلق أحدهم فيتزوج ديباجةَ الحرم، قال: وكان يقال في زمان مالك ديباجةُ الحرم أجملُ الناس، وخاتونَ امرأةَ ملك الروم، أو ينطلق إلى جارية فقد سمتها أبواها وترفوها حتى كأنها زبدةُ فيتزوجها، فتأخذ بقلبه فيقول لها: أي شيء تريدين؟ فتقول: خمارًا حسني، وأي شيء تريدين؟ فتقول: كذا وكذا، قال مالك: فتمرط والله دينَ ذلك القارئ ويدع أن يتزوج يتيمةً ضعيفةً فيكسوها فيؤجر[9]. ومثل ذلك الانشغال بالدنيا، وجمع المال، والوظيفة، والولد، وفي الحديث عند أحمد "إن الولد مجبنة مبخلة"، ولفظ ابن ماجه: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمهما إليه وقال: "إن الولد مبخلة مجبنة"، ونفس اللفظ عند البيهقي والحاكم في المستدرك بزيادة "محزنة" وفي الطبراني زيادة "مجهلة"، والحديث صححه الإمام الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي في التلخيص. وقال الإمام الحافظ العراقي: إسناده صحيح، ومعنى قوله "مجبنة" أي أن الولد سبب لجبن الأب فإنه يتقاعد من الغزوات بسبب حب الأولاد والخوف من الموت عنهم. ومعنى قوله "مبخلة" أي أن الولد سبب للبخل بالمال، ومعنى قوله "مجهلة" لكونه يحمل على ترك الرحلة في طلب العلم والجد في تحصيله لاهتمامه بتحصيل المال له. ومعنى "محزنة" لأنه يحمل أبويه على كثرة الحزن لكونه إن مرض حزنا، وإن طلب شيئًا لا قدرة لهما عليه حزنا، ذكر ذلك الإمام المناوي في فيض القدير. قال عبد الله: حدثني أبي حدثنا سيار حدثنا جعفر قال: سمعت مالكًا يقول: بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة كذلك يخرج هم الدنيا من قلبك[10]. وقال تعالى: ? فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ? [النور: 36- 37]. قال سفيان بن عيينة: من أصلح ما بينه وبين الله: أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه[11].

• الأنثوية، ويتعللون بقول الحق: ? إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ? [آل عمران: 36]، وعند النظر فلم تُمنع مريم من العمل بل اتخذت ما يلائمها، ولم تمتنع البتة، (ولقد فهمت المرأة المسلمة وظيفتها في العبودية لله تعالى، ومهمتها في الكون والحياة، ومن ثم استجابت لنداء القرآن الكريم، ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كالرجل سواء بسواء، فضحّت وبذلت وخرجت مراغمة لقومها لعقائدهم، ومهاجرة بدينها، متغربة في البلاد في سبيل الله، محتملة الأخطار متجشمة الأسفار صابرة على المتاعب الجسام، ولن تغيب عن البال هجرتين إلى الحبشة حيث كانت رقية رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج عثمان رضي الله عنه أول من هاجر من المسلمين مع زوجها، وتبعتها أخواتها المسلمات مهاجرات مثل أم سلمة المخزومية وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأسماء بنت عميس، وليلى بنت أبي جثمة، وغيرهن هاجرن مع أزواجهن، فرارًا بدينهن، وتضحية في سبيله)[12].

• كبر السن وكثرة الصوارف قال تعالى: ? وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ? [الحجر: 99] قال الحسن البصري: لم يجعلالله للعبد أجلا في العمل الصالح دون الموت. في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن ورقة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن يُدْرِكْنيِ يومُك أنصرْكَ نصرًا مؤزرًا مع كبر سنه وذهاب بصره، وقد تمنى أن يكون فيها جذعًا قويًا فيكون نفعُهُ أكبرَ وأثرُهُ أكثرَ. وعن أنس: أن أبا طلحة الأنصاري قرأ سورةَ براءة، فلما أتى على هذه الآية: ? انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ? قال: أرى ربَّنا عز وجل سيستنفرنا شيوخًا وشبابًا، جهزوني أي بني، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله عنه، فنحن نغزو عنك، فأبى فجهزوه فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرةً يدفنونه فيها إلا بعد سبعةِ أيام فلم يتغير فدفنوه فيها[13]. والنماذج المعاصرة شاهدة ومنها عمر المختار (أسد الصحراء) شيخ الستين عامًا وهو يقارع الطليان (1858-1931)، وكذلك أحمد ياسين معاق يخترق قلوب الصهاينة (1936-2004). والكثير من النماذج التي لم يصرفها شيخوخة وإعاقة وولد وزوجة وغيرها.

• الانشغال بالنقد والتجريح، وهذا يبتلى به القاعد ولاشك، ووالله لو كان له عمل لشغله عن إخوانه، ولو له دين ومروءة لكفت لسانه عنهم، ولو كان له علم ينشغل به لرفعه من الأرض، وحدّه من محارم الله. قال الحسن البصري في وصف أناسٍ مثل هؤلاء لما وجدهم قدِ اجتمعوا في المسجد يتحدثون: إن هؤلاء ملوا العبادة ووجدوا الكلامَ أسهلَ عليهم وقلَّ ورعُهم فتحدثوا، وقال الوليد بن مزيد: سمعت الأوزاعي يقول: إن المؤمنَ يقولُ قليلًا، ويعملُ كثيرًا، وإن المنافقَ يتكلمُ كثيرًا، ويعملُ قليلًا[14]. قال النسابةُ البكريُّ لرؤبةَ بنِ العجاج: ما أعداء المروءة؟ قال: تخبرني، قال: بنو عمِّ السوء: إن رأوا حسنًا ستروه، وان رأوا سيئًا أذاعوه[15]. قال السري السقطي البغدادي: ما رأيت شيئًا أحبطَ للأعمال، ولا أفسدَ للقلوب، ولا أسرعَ في هلاك العبد، ولا أدومَ للأحزان، ولا أقربَ للمقت، ولا ألزمَ لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبدِ لنفسه، ونظرِهِ في عيوب الناس[16]. وحين (يبادر الفرد للخير، وقد يخفق فيه ويؤدي هذا لمؤاخذة شديدة، لو لم يكن للمبادر فضل سوى الانتصاب بين الأموات لكفى)[17].

• التشتت في تحديد المكان المناسب، والتردد بين عمل وعمل، وكل ذلك يكون تحت ذريعة الحاجة، ولو أنه ذهب لما يتقنه وما هو متخصص فيه لزاد أثره، وزان عمله، وهذا ظاهر في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وظف الطاقات بشكل سليم، فينبغي على من تشتت أن يدرك نفسه لأنه ذريعة القعود والخذلان، وليبحث عن ذاته. قال ابن القيم: وهاهنا أمرٌ ينبغي التفطنُ له: وهو أنه قد يكون العملَ المعيَّنُ أفضلَ منه في حق غيره، فالغني الذيبلغ له مالٌ كثيرٌ ونفسُه لا تسمحُ ببذل شيء منه فصدقتُه وإيثارُه أفضلُ له من قيام الليل وصيام النهار نافلة، والشجاع الشديد الذي يهاب العدوُّ سطوتَهُ: وقوفُهُ في الصف ساعة، وجهادُهُ أعداءَ الله أفضلُ من الحج والصوم والصدقة والتطوع. والعالمُ الذي قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرقَ الخير والشر: مخالطتُهُ للناس وتعليمُهم ونصحهم في دينهم أفضلُ من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح ووليُّ الأمر الذي قد نصبه الله للحكم بين عباده: جلوسُهُ ساعةً للنظر في المظالم وإنصافِ المظلومِ من الظالم وإقامةِ الحدود ونصرِ المحقِّ وقمعِ المبطل أفضلُ من عبادة سنين من غيره، ومن غلبت عليه شهوةُ النساء فصومه له أنفعُ وأفضلُ منذكر غيره وصدقته[18]. وهذا مثالٌ من السلف الصالح يوضح تفاوتَ الطاقاتِ والقدراتِ: عن بكر بن عبد الله قال: من سره أن ينظر إلى أعلم رجل أدركتاه في زمانه فلينظر إلى الحسن فما أدركنا أعلمَ منه، ومن سره أن ينظرَ إلى أورع رجل أدركتاه في زمانه فلينظر إلى ابن سيرين إنه ليدعُ بعضَ الحلال تأثمًا، ومن سره أن ينظر إلى أعبد رجل أدركتاه في زمانه فلينظر إلى ثابت البناني فما أدركنا أعبد منه إنه ليظل اليوم المعمعاني[19]. الطويل ما بين طرفيه صائمًا يروح ما بين جبهته وقدمه، ومن سره أن ينظر إلى أحفظ رجل أدركناه في زمانه وأجدرِ أن يؤدي الحديثَ كما سمع فلينظر إلى قتادة[20].

• انتظار اجتماع الأمة، وتوحد جماعاتها، واتفاق كلمتها. و(إن من الكياسة والفطنة ألا نضيع العمر في طلب الإجماع على مسائل لا تقبل بطبعها وحدة الرؤية والطريقة والوسيلة)[21]. ولكن علينا نبذ الخلافات، ودرء الصراعات، وتأخير المساءلات؛ لأنها عادة ما تؤول لأتون الفتنة، وعصا التفرق، و(الخلاف الشخصي إذا طال أمده تحول إلى خلاف فكري)[22]. وباتت الدعوات للأنفس والأحزاب على حساب الدين والأمة.

• الخوف من المجتمع أو من آثار العمل، وربما كان التوجس الأمني أحدها وغير ذلك، ولو سكن العظماء لهذه المخاوف لما أدركنا عامنا هذا وثمة مسجد تقام فيه الجماعة قال تعالى: ? إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ? قال ابن القيم: ومتى شهد العبدُ أن ناصيتَه ونواصي العباد كلِّها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ولم يرجهم ولم ينزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرفُ فيهم سواهم، والمدبر لهم غيرُهم، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقرُهُ وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، متى شهد الناسَ كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يعلق أملَهُ ورجاءَهُ بهم، فاستقام توحيدُهُ وتوكلُهُ وعبوديتُهُ، ولهذا قال هود لقومه: ? إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ?[23]. إن من غفلتِكَ عن نفسك، وإعراضِك عن الله، أن ترى ما يسخطُ اللهَ فتتجاوزه، ولاتأمرَ فيه ولا تنهى عنه، خوفاً ممن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً[24]. روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلا لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لايُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْيُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ[25]. لذا فالخوف ذريعة وحيلة وهمية في نفس الوقت تقود للسكون والقعود، وكأن من لوازم الفاعلية أن تكن خالية من المخاطر، شحيحة من تقديم التضحيات، وهذا لعمري هو الباطل بحقه، بل لم تقم الدعوات الصادقة على جماجم الرجال، ترويها دماء الشهداء، ويسقون من تصبب عرق العلماء، ويقتبسون نورهم من ظلمة حجر الأغلال. ولذا (علينا أن نفرق بين خسائر نتجت من جراء عقبات الطريق وتكاليفه الطبيعية، وبين خسائر حدثت نتيجة مغامرات غير محسوبة)[26].

قالوا السعادةُ في السكون
وفي الخمول وفي الجمود
في العيش بين الأهل لا
عيشُ المهاجر والطريد
في المشي خلف الركب في
دعة وفي خطو وئيد
في أن تقول كما يقال
فلا اعتراض ولا ردود
قلت: الحياةُ هي التحركُ
لا السكونُ ولا الهمود
وهي التلذذ بالمتا
عب لا التلذذُ بالرقود
هي أن تذود عن الحياض
وأي حر لا يذود؟
هي أن تحسَّ بأن كأسَ
الذل من ماء صديد

• انتظار من يوقظه، فهو يحتج بأنه لم يُمكّن، ولم يُفتح له! ويأتي هذا من بعض من استظل بمظلة معينة يتفيأ تحتها ويسير خلفها، لا يبتدئ عملاً، ولا يتبنى مشروعاً، وربما نسي أقول الحق تبارك وتعالى: ? وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ? [مريم: 95]، وبأنه سيدفن وحدَه ويبعثُ يوم القيامة وحده وسيقفُ بين يدي الله وحده، فيومئذ: ? يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ? نسي هذا أنه في مضمار مسابقة. وقد لام الله تعالى القاعدين فقال سبحانه: ? رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ? [التوبة: 87]. (وأصناف الناس في شأن الهمة أربعة أصناف:
أحدهم: رجل يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته.
ثانيهم: رجل فيه الكفاية لعظائم الأمور، ولكنه يبخس نفسه، ويضع همه في سفاسف الأمور.
ثالثهم: رجل لا يكفي لعظائم الأمور، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده.
رابعهم: رجل لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها) [27].
قال إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد: ولقد صحبته عشرين سنةً صيفاً وشتاءً وحراً وبرداً وليلاً ونهاراً، فما لقيته في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس[28]. قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاعُ اللهُ فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعةِ صلاةٍ وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعةُ صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لجَنَازة، أو قاعداً في المسجد، وكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله[29]. ذكر جرير بن عبد الحميد: أن سليمان التيمي لم تمر ساعةٌ قطُّ عليه إلا تصدقَ بشيء، فإن لم يكن شيءٌ، صلى ركعتين[30]. ونحن هنا لا نضعف جانب العمل الجماعي، وضرورة الالتحام والتعاون، لكن المصيبة أن يقعد الفرد ويتكلس على نفسه بحجة أنه لم يجد عملاً جميعاً، وهو يحمل علماً وفقهاً، ولو سألته عن محيطه كمسجد وأقربائه بل أهل بيته، لن تجد له أي برنامج معهم، ولو على سبيل المواعظ أو توظيف المناسبات، والله المستعان. (إن كرم العضو واندماجه دون وعي في الجماعة قد يحوله إلى إمّعة أو سلعة للتجارة، وقد يجعله أداة لتكريس الانحراف، ما لم يجمع إلى ذلك اليقظة التامة نحو وظيفته الكاملة داخل جماعته وخارجها. إن من مصلحة أي جماعة أن تربي العضو الذي يجمع إلى الطاعة التبصر والوعي والإلمام بالمخاطر والمشكلات التي تعاني منها جماعته؛ فذاك هو الضمان الوحيدة لاستمراره وحيويته وبقائه ضمن إطارها)[31].

• الحساسية من النقد والتقويم. رحم الله عمر رضي الله عنه حيث قال: رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا! وهذا عمر بن عبد العزيز - الخليفة الراشد، التابعي العالم، الزاهد التقي، الإمام القرشي - يقول لمولاه مزاحم: إن الولاةَ جعلوا العيونَ على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي، فإن سمعت مني كلمةً تَربأُ بي عنها، أو فعلاً لا تحبُّه، فعظني عنده، وانهني عنه[32]. قال بلال بن سعد لصاحبه: بلغني أن المؤمن مرآةُ أخيه، فهل تستريبُ من أمري شيئاً؟[33]. قال ميمون بن مهران: قولوا لي ما أكرهُ في وجهي، لأن الرجلَ لا ينصحُ أخاه حتى يقولَ له في وجهه ما يكره .قال بعض السلف: من حق العاقلِ أن يضيفَ إلى رأيه آراءَ العلماء، ويجمعَ إلى عقلِهِ عقولَ الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقل الفردُ ربما ضل.

• تأطير المكان، وتضييق الخناق على النفس، وبعض من توهم الخير في بقعة دون أخرى قعد في الاثنتين فلا عمل هنا ولاهنا؛ وهذه حيلة شيطانية تأتي من مداخل ومزاعم عديدة، منها أن تلك الأرض خصبة للدعوة، وهذه أجفى ويستدل بهجرة المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، وحين نناقشه قائلين: وهل قعد رسول الله في مكة؟ أم كان يعمل وفق المتاح والحاجة، فكان يبني القاعدة الصلبة بتؤدة وطمأنينة فيصنع قادة المستقبل ويعمل على تزكية النفوس، وتنظيم الصف الداخلي، لا يكل ولا يمل مع أن قريشاً قد استلت سيفها من غمده وأهوت به على كل عنق مؤمنة، ومع ذلك تبهرك الحماسة التي كان عليها الداعية العظيم - صلى الله عليه وسلم -. إذا السر ليس في مكان، ولا زمان معيّن. قال ابن تيمية: ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرضٌ يكون فيها أطوعَ لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقامُ الإنسان فيها أفضلَ وإنما يكون الأفضلُ في حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والخضوع والحضور، وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة! فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس العبد عمله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء، وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا
• حب العلو والرئاسة فحين يرى أنه لم يتبوأ مركزاً في الدعوة، يتعاظمُ أن يكون تابعاً لغيره أنفةً وترفعاً وكبراً، وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي والدارمي عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ[35]. قال الفضيل بن عياض: ما أحب أحد الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكرَ الناسُ أحداً عنده بخير، ومن عشق الرياسة فقد تُودِّع من صلاحه[36]. قال عبيد الله بن الحسن العنبري: لأن أكون ذنباً في الحق: أحبُّ إلي من أن أكون رأساً في الباطل[37]. قال ذلك حين رجع عن أقوال له خالفت السنة، فقيل له في ذلك وأنك لم تعد في مكانتك السابقة لما كنت على تلك الأقوال.

• تفشي الباطل وانتشار المنكرات قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام، جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر، إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار...وقوله صلى الله عليه وسلم: ثم يعود غريباً كما بدأ، أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى: ? مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ? [المائدة: 54] فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك. وكذلك بدأ غريباً ولم يزل يقوى حتى انتشر، فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ثم يظهر حتى يقيمَه الله عز وجل كما كان عمر بن عبد العزيز لما وَلِيَ قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر، فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريباً[38].

• الشك في الطريق، وهذا هو الذي خشيه خبير الفتن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حينما قال له أبومسعود الأنصاري رضي الله عنه: أوصني، قال: إن الضلالةَ حقَّ الضلالةِ أن تعرفَ ماكنت تنكر وتنكرَ ما كنت تعرف، وإياك والتلونَ في الدين فإن دينَ الله واحد.[39]عن محمد بن سيرين قال: قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون وتنكروا ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غيرَ خائف[40]. وعن إبراهيم النخعي كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله[41]. وقال مالك: الداء العضال التنقل في الدين[42].

• الاعتماد على هزائم القوى المعادية، والتعلق بقشة (التفاؤل المذموم)، ومن الخطأ أن (نعتقد بأن الأخطاء التي وقعت فيها التيارات العلمانية والقومية والاشتراكية قد دفعت بأعداد ضخمة من الناس نحو الاعتقاد بأن الإسلام هو الملاذ الأخير؛ وهذا يعني من جهة ثانية إنه إذا ما ارتكب الدعاة أخطاء فادحة في أساليبهم لطرح دعوتهم، ومعالجة مشكلات بلادهم فإن كثيراً من الكسب الشعبي سوف يتحول إلى غيرهم بصورة بطيئة؛ ليكسب الآخرون أتباعاً وأنصاراً لم يتعبوا في جمعهم، وربما لم يخاطبوهم! هذه الحقيقة تفتح أعيننا على أمرين، الأول: عدم الفرح بانتصارات لم نخض معاركها، وإنما هي نتائج لمعارك خاسرة خاضها غيرنا. والثاني: اليقظة الشديدة تجاه أحاسيس (رجل الشارع) وتقويمه للأنشطة الدعوية المتاحة؛ إذ إن حكمه السلبي سوف يعني على الأمد البعيد انحسار تأثير الجهود الدعوية، واتجاه الناس نحو دعوات أخرى أكثر جاذبية)[43]. وبالتالي لا نكن كلابس ثوبي زور، وأن نبقى نتطلع لهزيمة القوم من السماء، ونعتد بكل سقطة فيهم لصالحنا مالم تكن ثمة جهود تؤهل لبناء مجتمع ذو مناعة وممانعة أصيلة ومرنة.

• استبطاء النتائج، والضجر من الصبر، والملل من العطاء، مع ضيق في النفس واستعجال لقطف الثمر قبل بدوّها، ويبدو هذا فيمن ابتعد عن قراءة سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ? [العنكبوت: 0]، وربما أنه جاهل بسنن الله جل وجلاله. (إن وعد الله تعالى بالتمكين لا يتخلف، لكنه لن يتحقق أبداً على أيدي أقوام لا يستحقونه، ولا يفهمون سننه، ولا يضحون من أجله)[44]. قال ابن القيم: وطالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة، بل وإلى كل علم وصناعة ورئاسة، بحيث يكون رأساً في ذلك مقتدى به فيه، يحتاج أن يكون شجاعاً مقداماً، حاكماً على وهمه، غيرَ مقهورٍ تحت سلطانِ تخيله، زاهداً في كل ما سوى مطلوبه، عاشقاً لما توجه إليه، عارفاً بطريق الوصول إليه، والطرقِ القواطعِ عنه، مقدامَ الهمة، ثابتَ الجأش، لايثنيه عن مطلوبه لومُ لائم ولا عذل عاذل، كثيرَ السكون، دائمَ الفكر، غير مائل معلذة المدح ولا ألم الذم، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته، لا تستفزه المعارضاتُ، شعاره الصبرُ وراحته التعب[45]. قال ابن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت[46]. وهذا الإمام القدوة شيخ الإسلام ثابت البناني يقول: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة[47]. روى منصور بن إبراهيم قال: قال فلان: ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد، وعن بعضهم قال: صحبت الربيع عشرين عاماً ما سمعت منه كلمة تعاب[48]. قال مالك: كان إمام الناس عندنا بعد زيد بن ثابت عبد الله بن عمر، مكث ستين سنة يفتي الناس[49]. قال الإمام القدوة ربيعة بن يزيد: ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً[50]. كان المحدث الثقة بشر بن الحسن يقال له: (الصفي) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة[51]. وقيل لكثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط، وقد أم أهل حمص ستين سنة كاملة فقال: ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله[52]. قال إبراهيم الحربي عن الإمام أحمد: ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً وحراًوبرداً وليلاً ونهاراً فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس[53]. وقال أبو الوفاء بن عقيل: إني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة. قال ابن القيم: يا مخنث العزم أين أنت والطريق، طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، واضطجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسفُ بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيدُ الحصورُ يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، تزهى أنت باللهو واللعب[54].

• الاتكالية وإلقاء المسؤولية على عاتق الغير، والشعور بأن الدعوة والعمل لدين الله من فضول الأعمال. ومن مظاهر التهرب من المسؤولية:
1- التخاذل: اعتذارات ومسوغات.
2- التخذيل: ? الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ? [النساء: 37].
3- التهوين: يقلل دواعي العمل.
4- التهويل: تضخيم المعوقات.
5- التواضع الكاذب: والمصيبة من لسان حاله: إن هذه الأعمال لا يصلح لها غيري، ومع ذلك فلن أقوم بها)[55]. قال ابن القيم: ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثرُ الديّانينَ لا يعبأون منها إلا بما شاركهم فيه عمومُ الناس، وأما الجهادُ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها، وأقل الناس ديناً، وأمقتهم إلى الله: من تركه ذه الواجباتِ، وإن زهد في الدنيا جميعِها، وقلَّ أن ترى منهم من يُحمرُ وجهُه ويمعره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه، وأصحابُ الكبائر أحسن حالا عند الله من هؤلاء[56]. قال الشاطبي: يقال: أنه - أي فرض الكفاية - واجب على الجميع على وجه من التجوز، لأن القيام بذلك الفرضِ قيامٌ بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلا لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادراً على الولاية فهو مطلوبٌ بإقامتها، ومن لا يقدرعليها مطلوب بأمر آخر، وهو إقامةُ ذلك القادر وإجبارُه على القيام بها، فالقادر إذن مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به[57].

6- تقسيم الناس وفق هواه، واعتقاده نفعية الدعوة في صنف دون صنف، وقد عاتب الله نبيه في ذلك : ? وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ? [عبس: 8 - 10]، وهذا العتاب مفاده أن الاختيار ليس لك أيها الداعية، فمؤشرات لن تعدو أن تكون أوهام وربما بنيتها على ضعف تصور وقصور بشري ملازم لك، فلا عليك سوى البذل والدعوة والنتائج على الله تبارك وتعالى. إن أي دعوة تهمل شريحة من المجتمع تعتبر ناقصة ومآلها إلى الانحسار، وقد تميزت الدعوة الإسلامية باحتوائها جميع طبقات المجتمع، وتوظيفِ جميع طاقات، فليس في المجتمع المسلم عنصرٌ مهملٌ أو مبعد أو مركون مهما كان. وإن من كمال الدين وعالميته مخاطبته للجميع وتوظيف جميع أفراد الأمة فلا اعتبار للصور والهيئات والأشكال: عن حارثة بن وهب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتَضَعّف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُل جوّاظ مستكبر متفق عليه[58].وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة متفق عليه.[59] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب أشعثَ مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره[60]. وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا[61].

7- الفهم السقيم لمقاصد الشريعة، والتعاطي الخاطئ مع مضمونها. قال تعالى: ? عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدي الواجب من الأمر والنهي وغيرهما، ولكن في الآية فوائد عظيمة: أحدها: أن لا يخافَ المؤمنُ من الكفار والمنافقين، فإنهم لن يضروه إذا كان مهتدياً. الثاني: أن لا يحزنَ عليهم ولا يجزعَ عليهم، فإن معاصيَهم لا تضره إذا اهتدى، والحزنُ على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران في قوله: ? وَاصْبِرْ وَمَاصَبْرُكَ إِلا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ?. الثالث: أن لا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله: ? لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ?، فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم فيآية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية، فإن الإنسان قد يتألمُ عليهم ومنهم، إما راغباً وإما راهباً. الرابع: أن لا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم: عليك نفسك لا يضرُّك من ضل إذا اهتديت، كما قال: ? وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ? الآية، وقال: ? وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ?، وقال: ? فَإِنِ انْتهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاعَلَى الظَّالِمِينَ ?، فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يعتدون حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكارُ على الكفار والمنافقين الفاسقين والعاصين. الخامس: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصبر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصد، فإن ذلك داخلٌ في قوله: ? عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ?، وفي قوله: ? إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ?، فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيها المعنى الآخر، وهو: السادس: إقبال المرء على مصلحة نفسه علماً وعملاً، وإعراضه عما لا يعنيه،كما قال صاحب الشريعة: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه، ولاسيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة. وكذلك العمل فصاحبه إما معتدٍ ظالمٌ، وإما سفيهٌ عابثٌ، وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ويكون من باب الظلم والعدوان. فتأملُ الآية في هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء، وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة: علماؤها وعبادها وأمراؤها ورؤساؤها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن، محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به، وهوالإسراف المذكور في قولهم: ? رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ?. وإزاء هذا العدوان تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق، أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في هذه الأمور كلها، فما أحسن ما قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: غلوٍّ أوتقصيرٍّ. فالمعين على الإثم والعدوان بإزائه تاركُ الإعانة على البر والتقوى، وفاعل المأمور به وزيادةٍ منهيٍّ عنها بإزائه تاركُ المنهي عنه وبعضِ المأمور به، والله يهدينا الصراط المستقيم ولا حول ولا قوة إلا بالله[62].

8- اعتقاد الخيرية في العزلة، والبعد عن العامة، وهذا وهم خطير يصيب فئاماً من الناس بأوهام كثيرة، فربما يحدث نفسه بضرورة العلم الذي يلزم للدعوة، أو ضرر الناس على عبادته وإصلاح أهل بيته، وربما أتته العبرات تناديه بضرورة الزهد والورع عن الدنيا وحظ النفس في قلوب الخلق، وكل هذا من لوازم الداعية، ومتطلباته الأساسية، و(إن اعتزال الناس بين الفينة والفينة يصقل الروح، ويجدد الرواء، ومن يفعل ذلك فربما يكون في وقت عزلته في خدمة الناس أكثر مما لو اختلط بهم؛ ومن الملاحظ أن الناس حين يصيبهم كرب أو أزمة فإنهم كثيراً ما يلجؤون إلى أولئك (المحتشمين) ينشدون لديهم الرأي والتعاطف والعون)[63]. فاجعل بينك وبين دعوتك مسافة ليكن تأثيرك أعظم؛ ولكن عادة ما تأخذ هذه العزلة في جسد القاعد وقتاً فترتاح وتابى الانصراف، وربما استرسل معها حتى ازدان قعوده وتجمل له في صورة الخلوة والورع. يروي لنا التابعي الكوفي، الفقيه النبيل عامر الشعبي: أن رجالاً خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريباً يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا:أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا[64]. قال ابن الجوزي: وعلى الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة وإتباع جنازة وعيادة مريض، إلا أنها حالةُ الجبناء. فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام[65].

حسبوا بأن الدين عزلةُ راهب
واستمرءوا الأوراد والأذكارا
عجباً أراهم يؤمنون ببعضه
وأرى القلوب ببعضه كفارا
والدين كان ولا يزال فرائضاً
ونوافلاً لله واستغفارا
والدين ميدان وصمصام وفر
سان تبيد الشر والأشرارا
والدين حكم باسم ربك قائم
بالعدل لا جوراً ولا استهتارا

9- الخوف على الوجاهة والمستوى الاجتماعي. وهذا عائق عند البعض، والحقيقة أنها فرصة للبذل والتقديم لدين الله، قالت فاطمة بنت عبد الملك تصف زوجَها عمرَ بن عبدالعزيز: كان قد فرغ للمسلمين نفسَهُ، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومَهُ بليلته[66].

10- اشتراط المؤهلات الأكاديمية والتجربة الطويلة والاعتداد بسنوات الخبرة، وهذا لاشك إن قلنا أننا نريدك مفتي الأمة وعالمها ومجددها، أما الاعتذار عن تعليم علم أو تذكير بخير، أو عمل ميداني لإغاثة المسلمين فهذا العائق لاشك أنه واهٍ ومردود، قال تعالى: ? يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ? [مريم: 12]. عن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: "أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"[67].

11- مجالسة الكسالى والقاعدين. فرّ منهم فرارك من المجذوم، ومن جالس الأجرب جرب معه، وهؤلاء لا تجدهم إلا في مستنقعات الفراغ وأوحال الأنانية. قال بعض أصحاب عمر بن عبد العزيز القدامى لعمر: لو تفرغت لنا فقال: وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله[68].

12- اتهام الذات بالفشل؛ ونشأة ذلك من ردة فعل من عمل سابق، أو مبادرة فشلت، أو توجه لا يلائمه، وهذا لا يلزم منه أن يحكم على نفسه بالفشل والسوء. (وكذلك الحال بالنسبة لكثير من الناس، فقد يتوجه لمجال لا يلائم ميوله، ولا يناسب مواهبه، ومن هنا فلن تجد له إبداعاً، ولا تفوقاً. فإذا حوّل إلى ما يناسبه، ووجه إلى ما يلائمه أبدع أيما إبداع؛ فلا يعني كوننا لا نبدع في كل شيء أننا لا نصلح لأي شيء)[69].

وأختم بكلام فريد لسيد - رحمه الله -: (والدعاة إلى الله يعلمون أن مصائر البشرية كلها - في الدنيا وفي الآخرة - منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم، فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم، ويترتب ثوابهم أو عقابهم في الدنيا والآخرة.

إنه الأمر الهائل العظيم.. أمر رقاب الناس.. أمر حياتهم ومماتهم.. أمر سعادتهم وشقائهم.. أمر ثوابهم وعقابهم.. أمر هذه البشرية، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة. وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة. وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف بالتبليغ فلم يبلغ!

فأما رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل.. وهم لم يبلغوها دعوة باللسان وفقط، ولكن بلغوها -مع هذا- قدوة ممثلة في العمل، وجهاداً مضنياً بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق.. سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين؛ بما أنه المبلغ الأخير، وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات.. فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان، إنما أزالها كذلك بالسنان ? حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ? [الأنفال: 39] وبقي الواجب الثقيل على من بعده.. على المؤمنين برسالته.. فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه. ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة تبعة إقامة حجة الله على الناس؛ وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا إلا بالتبليغ والأداء.. على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدى.. فالرسالة هي الرسالة؛ والناس هم الناس.. وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات.. وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة؛ وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة.. الموقف هو الموقف؛ والعقبات هي العقبات، والناس هم الناس. ولا بد من بلاغ، ولا بد من أداء.. بلاغ بالبيان، وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعية لما يبلغون.. وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة؛ وتفتن الناس بالباطل وبالقوة.. وإلا فلا بلاغ ولا أداء..إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله.. وإلا فهي التبعة الثقيلة. تبعة ضلال البشرية كلها؛ وشقوتها في هذه الدنيا، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله، وعدم النجاة من النار.. فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟!)[70].

وقد ذكرنا مع كل قيد ووهم ما يفل عقدته بإذن الله، ونؤكد أيضاً في مقاومة هذا العوائق بالتالي:
• الاستعانة بالله ومتابعة الدعاء بالهداية والسداد كما صح ذلك عن رسول الله. وقد قال ابن مسعود: إذا أراد الله بعبد خيراً سدده وجعل سؤاله عما يعينه وعلّمه فيما ينفعه[71]. وقد ذكر الماوردي[72]: أن الأقدار الغلابة لا تأتي بالمغالبة، وقد قصد أن هداية الله للإنسان تقيه الانبتات دون مسير وثمرة، ثم قال رحمه الله: ونحن نسأل الله تعالى أكرم مسئول، وأفضل مأمول، أن يحسن إلينا التوفيق فيما منح، ويصرف عنا الرغبة فيما منع؛ استكفافا لتبعات الثروة، وموبقات الشهوة. وهذا لعمري من أبلغ الدعاء وأوجزه.

• دفع الذنوب وخواطرها، فإن لها شؤم على الفرد والمجتمع، قالت عائشة رضي الله عنها: أقلّوا الذنوب، فإنكم لن تلقوا الله بشيء أفضل من قلة الذنوب. والإنسان خطاء وجُبل على الذنب والخطأ ولكن المؤمن ديدنه الأوبة والاستغفار، فلا يأتيه الشيطان إلا مساً دون تمكن ولا يستقله رحولاً بل يطوف كالثعلب، ولكن سرعان ما يفوق المؤمن ويسترجع قوته ? إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ? [الأعراف: 201]، فالمؤمن الحصيف يتبع السيئة الحسنة مباشرة كما في الخبر "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها.." الحديث؛ فهي بلا شك تذهبها وتزيلها قال جلّ من قائل سبحانه: ? إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ? [هود: 114]. وقد قال أبو عبيدة - رضي الله عنه -: التهلكة: أن يذنب العبد ذنباً ثم لا يعمل بعده خيراً حتى يهلك.

• ترك الأوهام وعدم الالتفات للعقبات، وقد قالوا أصدق ما قالت العرب قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : قيمة المرء فيما يحسن، وذكر ابن تيمية أن ذلك بحق العامة، وأما الخاصة فقيمة المرء عندهم فيما يطلب. والمحدق يجد البون بين اللفظين، وبالتالي فإن العامل حين يطلب ويقاوم ويصارع دون الرضوخ لأي عائق تكن قيمته سامية ومرتبته سامقة وخطوته سابقة.

• العيش في بيئات المصلحين. وهذا السر في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يأكل الذئبُ القاصية". رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وقد كان السلف الصالح لا يراهنون على إخوانهم أبداً حتى وصل بهم الأمرُ أن يقرنوهم بالصلاة في أهميتها وعظمها. عن محمد بن واسع قال: ما بقي في الدنيا شيءٌ ألذُّ به إلا الصلاةَ جماعة ولقيا الإخوان[73]. وقال الحسن البصري: لم يبق من العيش إلا ثلاثٌ: أخٌ لك تصيب من عشرته خيراً، فإن زغت عن الطريق قومك، وكفافٌ من عيش ليس لأحد عليك فيه تبعة، وصلاةٌ في جمع تُكفى سهوَها، وتستوجب أجرَها[74]. قال الحسن البصري عن المؤمن: هو مرآةٌ، إن رأى منه ما لا يعجبه: سدده وقومه ووجهه، وحاطه في السر والعلانية[75]. وقال عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجبَ حقه...[76]. ولذا فإن من معاني البيئات الصالحة المصلحة دفع الإنسان لمعالي الأمور والأخذ بيده إذا أصابه الفتور، بخلاف بيئة التثبيط والتحبيط وقد قال طلحة رضي الله عنه: لا تشاور بخيلاً في صلة، ولا جباناً في حرب. وقد صدق الفاروق رضي الله عنه: لا تصاحب الفاجر فيعلمك من فجوره.

• توطين النفس على العمل مع الطوارئ والأزمات والاستعداد للعمل في أي بيئة، وهذا يجعل في النفس مرونة في التعاطي مع الأحداث الراهنة وإعادة التأطير الإيجابي لأي معضلة.

• الاطلاع والقراءة في سير الأنبياء وآثار السلف وقصص الفاعلين فإن لها أنموذجاً وهدياً للعامل، يقيس عليها نفسه، ويرفع إليها سقفه. قال الإمام ابن حزم عن نفسه: (كانت فيّ عيوب فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء في الأخلاق، وآداب النفس حتى أعان الله عز وجل)[77].

• البداية المحرقة والحاضرة؛ قال عمر رضي الله عنه: التؤدة في كل شيء خير إلا ما كان من أمر الآخرة. ومن لازمها التدرج بلا ريب، وهي لا تعني الاستعجال بطبيعة الحال، ففاعلية لا انفعالية، وقد يصيب بعض الأخيار القعود والإحباط حين يرى القوم بذلوا وقدموا فنالوا وحصّلوا فيكلّ ويملّ ويجفل! وابن القيم يرسم هذه الوصية القيّمة: "فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج، كم خاض بحراً ملحاً حتى وقع بالعذب! وكم تاه في مهْمهٍ قفرٍ حتى سمى بالدليل! وكم أنضَّ مراكب الجسم! وفض شهوات الحس! وواصل السرى - ليلاً ونهاراً - وأوقد نار الصبر في دياجي الهوى" [78].


التعديل الأخير تم بواسطة رشيد التلمساني ; 13-12-2016 الساعة 12:33 PM.
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
New Page 2
 
 

قديم 13-12-2016, 12:34 PM   #2
معلومات العضو
رشيد التلمساني
مراقب عام و مشرف الساحات الإسلامية

افتراضي

موضوع قيم و طرح مهم
بارك الله فيك و نفع بك

 

 

 

 


 

توقيع  رشيد التلمساني
 لا حول و لا قوة إلا بالله
    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


بحث عن:


الساعة الآن 02:33 AM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
By Media Gate - https://mediagatejo.com