عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 22-02-2005, 03:59 PM   #1
معلومات العضو
أبو فهد
موقوف

Thumbs up الإبتلاء هو الحكمة التي من أجلها خلق الله عز وجل الإنسان في الحياة الدنيا !!!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد :

28 ـ الإبتلاء هو الحكمة التي من أجلها خلق الله عز وجل الإنسان في الحياة الدنيا:

إن الحكمة هي الابتلاء والحياة الدنيا بسماواتها وأرضها وأنسها وجنها هي أفضل دار ممكنة لتحقيق الابتلاء للإنس والجن ، وليس ذلك تأويلا منا أو استنتاجا من كتاب الله ، ولكن ذلك ما تحدثنا به الآيات المحكمات.

إن الحكمة القصوى والأخيرة من خلق الكون بعامة ، وخلق الآخرة بخاصة هي العطاء أما الحكمة الأولى من خلق الكون بعامة ، وخلق الحياة الدنيا بخاصة فهي الإبتلاء [ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ، ليبلوكم أيكم أحسن عملا . ( سورة هود آية 7).] . والإنسان هو الكائن المبتلي الذي من أجله جعلت دار الابتلاء ابتداء [ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا ، إن خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه ، فجعلناه سميعا بصيرا . ( سورة الإنسان الآيات 1، 2).] . ومن ثم اتفقت غاية وجود السماوات والأرض مع غاية الوجود الإنساني ، فجاءت كيفية الحياة في الأرض بالنسبة للبشر ولبقية الأحياء ، كما جاءت طبائع الأشياء ونواميس العالم محققة لهذه الغاية .

فعلاقة الإنسان بالزمن المتمثلة في مراحله الوجودية التي يعبر فيها موتين وحياتين ، ووجود الموت والحياة على الأرض ، وما يستتبع ذلك من كيفيات معينة في تركيبها ، وفي ماهية البشر ، وتكوينهم الجسدي ، إنما هو لتحقيق هذه الغاية [ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير . الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاًَََ . وهو العزيز الغفور. ( سورة الملك : الآيات 1ـ 2 ). ] .

كما تعلل أيضا حقيقة الابتلاء وجود عالم الغيب وعالم الشهادة بالنسبة للإنسان فوجود عالم مغيب عن الإنسان يعني أنه يحيا تحت غطاء كوني يحجب عنه ما حوله وما فوقه من عوالم غيبية وكائنات خارجة عن مجال إحساسه ومداركه وقواه . وهذا الغطاء الكوني هو الذي يحدد ماهية الإنسان أثناء وجوده البشري على الأرض ، ويفسر قصور أجهزة الإدراك التي يمتلكها ، فهو إن كان مخلوقا عارفاً ومدركاً ، إلا أن إدراكه العلمي اليقيني قاصر على العالم المحسوس فقط ، وما ذلك إلا تحقيقا لحكمة الابتلاء أيضا .

فالابتلاء بمعنى الامتحان والاختبار يقتضي وجود عالم غائب عن الإنسان. فليس من المعقول أن يكون على الأرض ابتلاء ، والإنسان المبتلى يستطيع أن يرى النار وعذابها أو يحسها أو يسمع صراخ المعذبين في القبور ، وليس ذلك قاصرا على الإنسان فقط بل إنه يشمل الجان أيضا باعتباره المخلوق المبتلى مع الإنسان في الأرض . وبرهان ذلك ما رواه البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن العبد إذا وضع في قبره ، وتولى عنه أصحابه ، وأنه ليسمع قرع نعالهم . أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد . فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراها جميعا قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح في قبره . ثم رجع إلى حديث أنس فقال : وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ، فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ( البخاري ـ الصحيح ـ كتاب الجنائز باب 89 ) .

والشاهد في هذا الحديث ، أن كل الكائنات الحية على الأرض تسمع صيحة المعذب ، إلاّ الإنس والجن ، لأنهما المخلوقان المبتليان على الأرض ، أما ما عداهما من الأحياء فليسوا واقعين تحت الابتلاء ، ولم يخلقوا له ، ومن ثم فإنهم يعيشون بغير هذا الغطاء الكوني الذي يمنع عن الثقلين معرفة الأمور الغيبية التي تقع في الأرض ، كصراخ المعذبين في القبور ، وكرؤية الملائكة المحيطة بالإنسان ورؤية الشياطين الملتفة حوله لأنه لو حدث ذلك للإنس والجن لآمنوا جميعا ، وما كان هذا فضل منهم ولا مبادرة ولا اجتهاد لمجتهد يستحق عليه الثواب ، ولما تبين الظالم من المحسن حيث سيكون إيمانهم جميعا كنتيجة مباشرة لإطلاعهم على هذه الأمور الغيبية .

ولذلك فإن هذا الغطاء يرفع عن الإنسان بمجرد انتهاء فترة الابتلاء الخاصة بالمخلوق المبتلى فيقال له حين ذاك [ لقد كنت في غفلة من هذا ، فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (سورة ق : آية 22 )]

كذلك لم يكن الله سبحانه وتعالى ليرسل ملائكة للبشر كمنذرين ومبشرين ومعلمين لهذا السبب أيضاً فأرسل سبحانه إليهم بشراً ، حيث أن الملائكة من عالم الغيب وظهورهم للبشر يتعارض مع حقيقة الغطاء الكوني التي جعلها الله للإبتلاء [ وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ، ولو انزلنا ملكا ، لقضي الأمر ثم لا ينظرون . ولو جعلناه ملكا ، لجعلناه رجلا ، وللبسنا عليهم ما يلبسون ( سورة الانعام : الآيات 8 ــ 9 ) ] . فلكي يتم الإبتلاء ، ولكي يختبر الله سبحانه وتعالى البشر بالرسل ، لابد أن يكون الرسل بشرا مثلهم ، يعرضون عليهم حقائق الغيب والآخرة ، ويطلبون منهم أن يؤمنوا بربهم وبهذه الحقائق ، أما إذا أرسل إليهم ملكا من السماء ، لانتفى الإبتلاء ، واستحال قيامة ، ولذلك قال [ ولو جعلناه ملكا ، لجعلناه رجلا ، وللبسنا عليهم ما يلبسون ] . أي أن الله إذا شاء أن ينزل إليهم ملكا رسولا لأنزله في صورة البشر وللبس عليهم حقيقته تحقيقا للابتلاء.

وفي هذا المعنى يقول أيضا سبحانه وتعالى في موضع آخر [ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا ان قالوا : أبعث الله بشرا رسولا ؟ قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( سورة الاسراء : الآيات 94ـ 95) ] . أي أنه يلزم تحقيقا للإبتلاء أن يكون الرسول من نوع المرسلين إليهم.

وقصور العلم البشري عن إدراك المستقبل من لوازم الإبتلاء ، كما يفسر الغطاء الكوني هذا القصور ويعلله [ إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ( سورة طه : آية 15 ) ] . ومنها إخفاء أجل وانتهاء حياة العبد [ وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ( سورة لقمان : آية 34) ] .

ولكن أجهزة الإدراك البشرية ــ وإن كانت قاصرة عن إدراك عالم الغيب ـ إلا أنها مهيأة ومكيفة لإدراك عالم الشهادة ومعرفته معرفة تكاد تكون يقينية . إن ما منحه الله للإنسان من إمكانات المعرفة وأجهزة الإدراك ، إنما هو للإبتلاء أيضا [ ولا تقف ما ليس لك به علم ، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا سورة الاسراء : آية 36 ) ] . كما يقول أيضا مبينا أن الله جعل الإنسان سميعا بصيرا تحقيقا للإبتلاء [ أن خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه ، فجعلناه سميعا بصيرا ( سورة الإنسان : آية 2) ] . كما جعل الله سبحانه وتعالى الجوانب العاطفية والشهوية والميول والأهواء والرغبات ، وحب الأموال والقوة والجاه والسلطان ، وكل مايجلب السراء والمتع والبهجة جعل كل ذلك للإنسان من جانب ، جعل في الطبيعة من المخلوقات المسخرة لتحقيق هذه المباهج والمتع ، وجعل كل ذلك لإقامة الإبتلاء على الأرض .

كما جعل الله في طبيعة الإنسان كذلك الألم والشقاء والمرض والجوع والحزن والخوف من جانب ،وجعل في الجانب الاخر من الحياة في الأرض ومن أحداثها وناموسها ما يسبب له ذلك كله ، وذلك للإبتلاء أيضا ، أما عن طبيعة البشر وما هيتهم التي جعلها الله بهذه الكيفية حيث يؤدي كل ذلك إلى قيام هذه الحقيقة الكبرى فيخبر عنها القرآن بقوله [ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل امسومة والانعام والحرث ، ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب (سورة آل عمران : آية 14 ) ] . كما يقول أيضا [ واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وإن الله عنده أجر عظيم ( سورة الانفال : آية 28 ) ] . وأما عن طبيعة الأرض وما عليها وكونها مخلوقة تتوافق مع طبيعة البشر في تحقيق ابتلائهم فيقول الحكيم العليم [ إناجعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( سورة الكهف : آية 7 ) ] .

كما تفسر لنا حقيقة الإبتلاء الحكمة التي من أجلها زودت النفس البشرية بالميل إلى الشر والخير سواء [ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ( سورة الشمس : الآيات : 7 ــ 10 ) ] . ومن ثم فحياة الإنسان من أولها إلى أخرها تهدف في جزئياتها وكلياتها للإبتلاء وتؤدي إليه [ لقد خلقنا الإنسان في كبد ( سورة البلد : آية 5) ] .

ولقد كانت مشكلة الشر ، هي المشكلة العويصة المستعصية أمام كل نسق فلسفي في أي فكر بشري ، وما رأينا نسقا من هذه الأنساق يقدم لنا الحل المقنع والنهائي مثل النسق القرآني القائم على حقيقة الإبتلاء . فوجود الخير والشر في الحياة الدنيا يعترضان سبيل الإنسان ، إنما هو بأمر الله وقدره ومشيئته ، تحقيقا لهذه الحكمة أيضا [ ونبلوكم بالخير والشر فتنة . وإلينا ترجعون ( سورة الأنبياء : آية 35 ) ]
ذلك أن وجود الشيطان ـ سواء شيطان الأنس أو الجن ـ كداعي للشر في الحياة ، فوق أنه كان كذلك نتيجة فشله في ابتلائه ن فقد جعله الله كذلك ومكنه من الوسوسة والإيعاز بالشر للفتنة والإبتلاء أيضا ودليل ذلك قوله تعالى [ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، وإن الظالمين لفي شقاق بعيد( سورة الحج : 53 ) . ]

والفتنة هي الابتلاء الشديد ، أي أن الله سبحانه مكّن الشيطان من وسوسته وإيعازه بالشر في قلوب الناس جميعاً حتى يتبين الذين في قلوبهم مرض ويتبين المؤمنون . أما الذين في قلوبهم مرض فيفتنهم الشيطان بإيعازه ووسوسته وأما الذين أمنوا فليس للشيطان عليهم سلطان بدليل قوله تعالى : [ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ، فأتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ، وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو في شك ، وربك على كل شيء حفيظ ( سورة سبأ : الآيات 20ـ 21 )]

أي أن ما جعله الله من إمكانات للشيطان إنما جعله له لابتلاء الناس والجن ، حتى يستبين المؤمن من الكافر ومن ثم ذكر الله في آخر الآية أنه على كل شيء حفيظ لأن ما أعطاه للكافر أو الشيطان من قوة وسلطان إنما هو بأمره تحقيقا ً للابتلاء ، وذلك يؤكد ما سبق أن ذكرناه عن حقيقة الشيطان من أنه صار كذلك نتيجة لابتلائه ، كما أن الله شاء ذلك للابتلاء به .

فإذا تسألنا عن الحكمة التي من أجلها جعل الله الإنسان خليفة وجدناها أيضا الابتلاء قال تعالى : [ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتكم إن ربك سريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم ( سورة الأنعام : آية 165.).] كما يقول عز وجل أيضا : [ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون (سورة يونس : آية 14. )] فبين أن توارث السلطان وإمامة البشرية وخلافة الله فيها إنما هو للابتلاء حيث ينظر الله كيف يعملون حيال ذلك.

كما تعلل حقيقة الابتلاء أيضا كون الأنس والجن أحراراً فإذا تسألنا عن الحكمة التي من أجلها جعل الله السلوك الخلقي نابعاً من ذات الفاعل ، وجدنا أن ذلك أيضاً للابتلاء ، فالابتلاء بمعنى الامتحان والتمحيص هو دخول الإنسان موقفاً معيناً من شأنه أن تكون نتيجته فعلا خلقيا اختياريا للكائن المبتلى ، حتى يتحمل الجزاء المترتب على سلوكه وعلى الآثار الناجمة من موقفه الحر من التجربة الإبتلائية .

وكما أن ذات الإنسان الفرد مخلوقة بماهية تسمح بقيام حقيقة الابتلاء وسريانها عليه في حياته كلها ، وذلك باعتبارها الغاية القصوى لوجوده فيها ، فإن وجوده الأسري والاجتماعي والدولي والحضاري يؤدي إلى ذلك أيضاً .

فالظواهر والنظم الاجتماعية القائمة بين الناس وبهم في مجتمعاتهم، ترجع أساسياتها وعللها إلى مشيئة الله في قيام حقيقة الابتلاء بالإنسان، وقيام وجوده البشري [ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ، ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ، أليس الله بأعلم بالشاكرين ( سورة الأنعام : آية 53.)]

ومن ثم خلق الله الناس مختلفين آجالاً وأرزاقاً وجاهاً وسلطاناً وجمالاً وذكاء وحكمة وقوة وأبناء [ وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ، إن ربك سريع الحساب وإنه لغفور رحيم (سورة الأنعام آية 165.)]. فيبن أن وجود الفوارق والدرجات بين الناس في كل شيء إنما هو للابتلاء .

وقد جعل الله الإنسان كائناً اجتماعيا ليبتلي الناس حيث أن العلاقات القائمة بينهم على اختلافها ، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات تشكل مواقف وتجارب حقيقية لابتلائهم بعضهم ببعض . فيبتلي الرسل بأممهم والأمم بالرسل ، ويبتلي الحاكم بالمحكوم والمحكوم بالحاكم . ويبتلي القوي بالضعيف والضعيف بالقوي والزوج بالزوجة والأباء بالأبناء وهكذا . يقول الله تعالى : [ وما أرسلنا قبلك من المرسلين ، إلاّ أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، وجعلنا بعضكم لبعض فتنة .. أتصبرون ؟ وكان ربك بصيراً (سورة الفرقان : آية 20.)].

ونقرأ كذلك في كتابه الحكيم [أهم يقسمون رحمة ربك ؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا . ورحمة ربك خير مما يجمعون ( سورة الزخرف : آية 32 ) ] . فاختلاف مستويات المعيشة بين الناس في المجتمع الواحد ، الناجم عن اختلاف قدراتهم العقلية والحسية والجسدية الموروثة ، قد شاءها الله تحقيقا للحكمة التي شاء أن يخلق العالم والإنسان لها .

لقد شاء الله سبحانه أن يعيش الناس في أمم وشعوب وقبائل [ يا أيها الناس : أنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ( سورة الحجرات : آية 13 ) ] . كما بين سبحانه أنه لم يشأ أن يكون الناس أمة واحدة ، بل زودهم بما يجلهم مختلفين في السلوك كنتيجة مستلزمة من حقيقة الإبتلاء ، كما جعلهم مختلفين ألوانا ، ولغة ، وأرضا ، وعادات وتقاليد . كل ذلك شاءه سبحانه للإبتلاء [ . . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ( سورة المائدة : آية 48 ) ] . فبين أن ما ركب في طبيعة البشر حتى صاروا أجناسا مختلفين إنما هو للإبتلاء .

فهذا الإختلاف بينهم في الأمور الجبرية التي خلقهم الله عليها وأمدهم بها أولا ، ثم في السلوك الخلقي الإختياري لهم هو الذي جعلهم أمما مختلفين [ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ، وتمت كلمة ربك لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( سورة هود : آية 118 ـ 119 ) ] .

ذلك هو أساس المجتمع البشري المحلي والعالمي على الأرض يرتكز على حقيقة الإبتلاء ، فبالنسبة لحياة المجتمع الواحد والذي يقوم أساسا على أساس صفة الإجتماعية في الإنسان الفرد بحيث تستحيل عليه الحياة الإنفرادية ، وما يستتبع ذلك من ظواهر ونظم إجتماعية ، فإنه يؤدي أيضا لقيام حقيقة الإبتلاء بين أفراده وجماعاته من ناحية ، ثم بينه وبين بقية المجتمعات الأخرى على الأرض من ناحية أخرى .

ومن ثم يمكن القول أن المجتمع البشري كما يريده الله سبحانه ـ حسب النظرة القرآنية وتحقيقا لغاية الحياة البشرية ـ لابد أن تتفاوت فيه مستويات الناس في كل شيء . فهو قائم على درجات بين الناس في الأرزاق والقدرات بأنواعها ، ولكنه لا يقوم على الطبقات حيث الجميع من أصل واحد ، ولكن هذه الفروق إنما جعلها الله تعالى للإبتلاء . فالقرآن الكريم يثبت هنا حتمية استمرار هذه الفروق واستحالة إلغائها استحالة مطلقة .

إن إلغاء الفوارق بين مستويات الناس إلغاء تاما ، بحيث يكون دخل كل منهم كدخل الآخر ، ومسكن كل منهم كمسكن الآخر ، وملبسه كملبس الآخر ، وغير ذلك مجرد أحلام وأوهام لا يمكن أن تتحقق على الأرض لأنها دار ابتلاء ، وهي إن تحققت خرجت عن الخط المرسوم لها لتحقيق غايتها . إن هذه الأحلام لا تتحقق إلا في دار النعيم ، وأي مذهب يتحدث عن ذلك يحاول أن يثبت إمكانية تحقيقه فهو مذهب مخادع مخاتل ، وفلسفته لا تقوم على أسس حقيقية واقعية من طبائع البشر والحياة .

إن الإسلام بتشريعه الإجتماعي و الإقتصادي و السياسي إنما هو أفضل نظام يقلل من هذه الدرجات والفوارق بين مستويات الناس إلى أقل حد ممكن ، حتى ينال كل إنسان حقه الذي قدره له الله تعالى ليحي حياة كريمة تتناسب مع كونه خليفة لله عز وجل . وذلك لا يتحقق إلا بإقامة خلافة الله في الأرض بتطبيق شرعه الذي شرعه للناس . ولكن إلغاء الفوارق تماما مستحيل لأن البشر يولدون بها وقد شاء الله تعالى ذلك للإبتلاء ، فمن الذي يمنع نفاذ مشيئته ؟؟ .

إن حقيقة الإبتلاء حقيقة كبرى ، تملأ جوانب الكتاب الكريم من أوله إلى آخره ، وتتخلل آياته وسوره ، كما تتناولها السنة في عديد من الأحاديث .

وهي حقيقة هامة وخطيرة ، بل أنها أخطر الحقائق التي يتحدد بها موقف الإنسان من الكون ، وتثبت أبعاده وأهدافه ومراميه ، فيها يزول كل إبهام أو غموض حول حقيقة الإنسان ، وتمنحي بها كل شبهه حول علاقته بربه .

وهي الحلقة الوسطى التي تربط وجودية الغيبيين بالوجود البشري الحالي حيث تجعل رحلة الإنسان الوجودية ، منذ خلقه إلى خلوده في الآخرة ، متصلة مترابطة معقولة ، ويعلل سابقها لاحقها ويفسر غائبها شاهدها .

هذه الحقيقة التي من أجلها خلق الله الكون والإنسان ، وجعل الحياة والموت ، تعلل الوجود الإنساني الأرضي ، وكيفية هذا الوجود ، كما أنها تحدد مصير الإنسان الأبدي ، وكيفية هذا المصير .

وعلى أساس هذه الحقيقة الكبرى أنشأ الله سبحانه وتعالى الحياة وخلق الإنسان بما عليهما .

إن الحياة البشرية ليست إلا عديدا من التجارب الإبتلائية تتولد الواحدة من سابقتها وتولد في نفس الوقت لاحقتها ، فا لحياة في النهاية ليست سوى تجربة ابتلائية كبيرة يجتازها الفرد والجماعة والمجتمع والجيل والأمة خلال أجل كل منهم .

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة