عرض مشاركة واحدة
New Page 2
 
 

قديم 22-02-2005, 04:01 PM   #2
معلومات العضو
أبو فهد
موقوف

افتراضي

29 ـ التجربة الإبتلائية بالضراء والسراء:

الابتلاء لغة هو الامتحان و التمحيص و الاختبار ‘ وحقيقته كما تثبتها الآيات القرآنية أن الله سبحانه و تعالى يجري على العبا د أمورا و أحدثاً وأفعالاً هي في حقيقتها أفعال جبرية ليس للعبد فيها أدنى اختيار وذلك ليبتليهم. فدخول العبد التجربة الإبتلائية ،لا يمكن إلاّ أن يكون جبريا ومن ثم فالتجربة الإبتلائية التي يمر بها الإنسان عموماً تتضمن حقيقتين كبيرتين عن الفعل الإنساني والفعل الإلهي .

ويتضح ذلك جليا من معرفة حقيقة الابتلاء وكيف يبتلي الله سبحانه وتعالى العباد. فالابتلاء بمعنى الاختبار و الامتحان مثل [ ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين. (سورة البقرة : آية 155. )] وفي قوله أيضا [ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور. ( سورة آل عمرآن: آية 116 ) ]. فهاتان الآيتان تثبتان الابتلاء بالآلام: الجوع والفقر والموت والمصائب والأذى من الظالمين واضطهاد الكافرين للمؤمنين المستضعفين والتنكيل بهم كما تثبتان كل ما يجلب الألم للإنسان كما تثبتان حدوث هذه الأمور له حدوثا اضطراريا ليس للإنسان حياله دفعا أو اختياراً فهو سبحانه الذي يبتلي المؤمنين بالآلام كنتيجة لأفعال الظالمين الذين ابتلاهم أيضا بالسلطان والقوة لينظر هل يصبر المؤمنون أم يجزعون ودليل ذلك قوله [ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة...أتصبرون.]. وقوله في الآية السابقة [ وبشر الصابرين.] كما يقول الله تعالى في الحديث القدسي [ ما لعبدي المؤمن عندي جزاء، إذا قبضت صفيه أهل الدنيا، ثم احتسبته، إلا الجنة.(صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ) ].

وكما يبتلي الله بالآلام، يبتلي أيضاً بالمتعة والنعيم وكل ما يجلب الرفاهية للإنسان فإذا كان [ المال والبنون زينة الحياة الدنيا. ( سورة الكهف : آية 46.)]. فما جعلهما الله كذلك إلاّ ابتلاء للناس [ إنما أموالكم وأولادكم فتنة وان الله عنده أجر عظيم .( سورة الأنفال : آية 28.)].

إن الصابرين على ما يمرون به من تجارب ابتلائية مؤلمة أو الشاكرين على ما يصيبهم من تجارب ابتلأئية ممتعة إنما يثبتون أنهم مؤمنون حقيقة وفعلا لا قولاً ورياء ، كما أنهم يرتفعون في الدرجات والمقامات عند الله. ودليل البلاء للرقعة والترقي إلى أقصى درجات ومراتب الكمال البشري المقدر للإنسان على الأرض ما رواه مصعب بن سعد عن أبيه قال [ قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء ؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان صلبا اشتد بلاؤه وعن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه. فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي ما عليه خطيئة. (الشيخ منصور علي ناصف / التاج الجامع للأصول ج 5، ص 168.)]. وفي هذا المعنى ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت [ ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ( رواه الإمام أحمد في مسنده)].

فالبلاء رفعة للمؤمن لأنه يتدرج مع المرء صعودا كلما نجح في تجربة ابتلائية زيد له في التي تليها من حيث الشدة والنوع وهكذا ، كما تزيد العلوم على الدارس في معهده من حيث العمق والصعوبة والتعقيد والكم كلما نجح في مرحلة دراسية وانتقل على مرحلة أخرى. ومن ثم فإن الكمال الإنساني يرتبط ارتباطا وثيقا بالحكمة من خلق الإنسان وهي الإبتلاء.

وكما يكون البلاء للتمحيص والتثبيت والرفعة يكون أيضا للتطهير بل إن التطير هو الوسيلة التي يرتفع بها المؤمن في الدرجات فقول الرسول علية الصلاة والسلام في الحديث السابق [ فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي ما عليه خطيئة .]. خير برهان على ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عنه أبو هريرة [ ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة .( التاج الجامع للأصول ج 5، ص 198.)].

وكما يكون الإبتلاء سواء بالآلام أو بالنعيم تثبيتا ورفعة وتطهيرا من الذنوب للمؤمنين يكون لسواهم علاجا وتوجيها وأعذارا وإنذارا [ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. ( سورة الأنعام : آية 44.)]. فبين أن الله يصيبهم بالبأس ليعودوا إليه [ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قسمت قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون.( سورة الأنعام : آية 43. ) ]. [ ما أرسلنا في قرية من نبي الا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون.( سورة الأعراف : آية 64. ) ]. فإذا لم يستجيبوا ولم يتضرعوا بالبأساء والضراء ابتلاهم الله بالمتع والنعيم لعلهم يشكرون أو يرجعون [ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون .( سورة الأنعام : آية 44. ) ]. ذلك أن فشلهم في ابتلائهم بالسراء بعد الضراء لعلاجهم يستوجب عليهم عذاب الاستئصال.

فالنعمة من الله سبحانه وتعالى للناس ابتلاء.

والنقمة أيضا إذا أصابتهم ابتلاء.

[ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول : ربي أكرمن ,أما إذا ما ابتلاه فقدرعليه رزقه فيقول: ربي أهانن.( سورة الفجر: آية 15، 16. ) ].

ومن ثم فحياة الإنسان من أولها إلى اخرها مواقف متعددة مطردة من الابتلاءات لا يكاد المرء يفرغ من الابتلاء من مواقف أو تجربة حتى يدخل أخرى وهي تختلف شدة وليناً وعسراً ويسراً وقوة وضعفاً، حتى تصيح كل كلمة وكل حركة وكل خلجة نفس ، وكل تصرف وسلوك صغر أم كبر تجربة ابتلائية يحصيها الله على العبد ويحاسبه عليها [ ان نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وأثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين .( سورة يس : آية 12. ) ]. فمن أمثلة الابتلاء بالسلوك قوله تعالى [ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى.( سورة الحجر آت: آية 3. ) ].

وتختلف التجربة الإبتلائية من حيث الشدة واليسر ـ سواء كانت ابتلاء بالسراء أم ابتلاء بالضراء ـ فيقول الله عز وجل للمؤمنين منبهاً فيها إياهم عن ابتلائهم بالنعيم والسراء ابتلاء يسيراً [ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم.( سورة المائدة : آية 94. ) ].

كما يمكن النظر إلى التكاليف الشرعية ـ سواء أكانت شعائر تعبدية كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من السنن والنوافل أم كانت شرائع تنظيمية للحياة والمجتمع ـ على أنها اختبارات وبلاءات متعددة ومتنوعة ومختلفة بل هي السلوك الواجب على الإنسان اتباعه حيال تجاربه الإبتلائية في حياته اليومية.

وباختصار فإن الله سبحانه وتعالى يبتلي بالآلام كما يبتلي بالنعيم، وكما أن المطلوب من العبد حيال الابتلاء بالآلام الصبر والرضى بالقضاء، فالمطلوب منه حيال الابتلاء بالنعيم الشكر لله ، والاعتراف بفضله عليه . فالصبر والشكر حالتان أو وجهان لحقيقة الإيمان حيث أن الإيمان هو دخول العبد اختيارياً في عبوديته لله و تحقيق ذلك بتنفيذه كل ما يطلبه منه الشرع من أوامر والامتناع عن كل ما ينهاه عنه من نواهي سواء كانت هذه التكاليف ممتعة له أو مضنية.

فالمؤمن يصبر على المعصية كما يصبر على الطاعة ويصابر على الجهاد ومشقته وعنائه شاكراً لله توفيقه في ذك كله حامدا إياه على الضراء كما يحمده على السراء حيث لايحمد على مكروه سواه . وهو أيضا يحمده ويشكره على ما رزقه من أسباب العز والساطان والجاه والرفاهية صابرا على ذلك كله باعتباره مدعاة للانزلاق إلى هاوية الغرور والكبر والظلم. فهما إذا وجهان للإيمان ولذلك جاء في الأثر أن [ الصبر نصف الإيمان ] على أن الشكر هو النصف الآخر كما جاء في الحديث الشريف [ عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن( رواه مسلم في كتاب الزهد]. فالصبر والشكر هما السلوكيان الإختياريان المطلوبان من العبد حيال ما يعترضه من مواقف وتجارب ابتلائية أو بتعبير آخر القيام بما كلفه الله به إزاء هذه المواقف.

    رد مع اقتباس مشاركة محذوفة