المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : @***محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم***@


عطر
05-10-2009, 04:12 PM
محاضرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للشيخ صالح المغامسي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشه أن سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ......
فإن مما صح خبره من السيرة العطرة الأيام النظرة ، ممن طابت حياته ومماته صلوات الله وسلامه عليه ، حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال :" إن زاهرا كان رجلا من البادية ، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من البادية هدية ، وكان النبي يعطيه قبل أن يذهب إلى البادية ويقول: "إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه " وكان زاهرا رجلا ذميما وكان صلى الله عليه وسلم يحبه ، فأتاه ذات يوم وزاهر يبيع متاعه في السوق ، فجاء صلى الله عليه وسلم إلى زاهر من خلفه ، وأخذ يضمه ويلصق ظهر زاهر بصدره صلوات الله وسلامه عليه ، وزاهر يقول : من هذا أرسلني أرسلني ، فالتفت فإذا نبي الأمة فعرفه صلوات الله وسلامه عليه ، فجعل زاهر لا يألو أن يلصق ظهره بصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : " من يشتري مني هذا ؟؟" فقال زاهر : يا نبي الله ستجدني كاسدا " -أي لا يشتريني أحد- ، فقال صلى الله عليه وسلم : "بل لست بكاسد أنت عند الله غال".
أيها المؤمنون : هذه منزلة رجل من بادية أمة محمد فكيف بمنزلة محمد صلى الله عليه وسلم عند ربه ؟؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) جعلني الله وإياكم ممن يقتدي بهديهم .
أيهاالمؤمنون: هذه قبسات وجوانب مضيئة وكل حياته صلوات الله وسلامه عليه مضيئة ، لكن من عظمة سيرته صلوات الله وسلامه عليه أنه يمكن أن تتناول بمختلف الطرق :
·يمكن أن تلقى كأخبار وكقصص.
·ويمكن أن تدرس كاستنباط لما في طيات السنن من عظيم الآثار .
·ويمكن أن تتناول وتدرس بغير ذلك ، وهذا كله يدل على عظيم تلك الحياة ، التي عاشها نبينا صلى الله
عليه وسلم ، وخير ما يقدمه طالب العلم للناس أن يقدم إليهم محاولة جديدة في فهم سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم على غير ما يألفوه ، وإن كان لن يستطيع أن يحلق بعيدا عن ما ذكره الأخيار وسطره الأبرار من العلماء والمشايخ من طلبة العلم في الماضي والحاضر نفعني الله بنا وبهم الإسلام المسلمين .
أيها المؤمنون : أولى القبسات: أن القلوب هي الأوعية التي يحب فيها الله ويعظم ويجل ومن عظيم محبة الله جل وعلا: ومن خلال جليل محبة الله في قلوب أي عبد ينجم عنها العمل والقرب من الطاعات والازدلاف إلى الله بالحسنات وينجم عن ذلك البعد عن الحسنات ، والفرار من الذنوب والإحجام عن الموبقات ، ونبيكم صلى الله عليه وسلم جعل الله جل وعلا قلبه له تبارك وتعالى ، فولد عليه الصلاة والسلام دون أن تكتحل عيناه برؤية أبيه فنشأ يتيم الأب منذ ولادته ، فتعلق بقلب أمه وشفقتها وحنانها ورقتها عليه ، فما أن أتم ست سنوات إلا وحجبت عنه رحمة الأم بأن ماتت أمه ، فأخذ ذلك الصبي صلوات الله وسلم عليه يوم ذاك يدب نحو جده ويتشبث به فما هي إلا سنتان ويموت ذلك الجد ، فيصبح ذلك النبي المنتظر الذي سيختم الله به النبوات ، وسيتم به الرسالات لا أب ولا أم ولا جد له ، لأن الله جل وعلا وحده تكفل به (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) ولما بعث صلوات الله وسلامه عليه جعل الله له نصيرين: عمه أبا طالب ، وزوجته خديجة ، فلما تفاقمت عليه مصائب أعدائه ورموه عن قوس واحدة توفي العم وتوفيت الزوجة في أوقات متقاربة ، بل في شهر واحد حتى يطمئن صلى الله عليه وسلم أن الله وحده هو الذي سينجيه ويظهره ويعلي شأنه صلوات الله وسلامه عليه .
يهاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وكان قد مات ولداه القاسم وعبد الله قبل أن ينبأ ، فما بقي له إلا البنات فتعلق بهن صلوات الله وسلامه عليه مثله مثل أي أب.
ثم ما إن تعلق بعائشة رضي الله عنها وأرضاها وأحبها حتى ُرميت في عرضها رضي الله عنها وأرضاها .
ثم بشر صلى الله عليه وسلم بقدوم جعفر فقال : " والله لا أدري بأيهما أسر ، بفتح خيبر م بقدوم جعفر " فما هي أعوام أو شهور معدودات ويموت جعفر ويبقى صلى الله عليه وسلم مع غير حبيبه جعفر .
ثم يملي الله وحشته بأن يرزق صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم فما أن يظهر الود في قلبه عليه الصلاة والسلام ويتردد إلى عوالي المدينة كي يرى إبراهيم كل يوم ويقبله ويرفعه ويشمه ثمانية عشر شهر فقط ويموت إبراهيم ، حتى لا يبقى في قلبه صلى الله عليه أحد إلا الله ، ولهذا ما قضى صلى الله عليه وسلم عمره إلا في ما قضاه الأنبياء من قلبه إلا وهو التعريف بربهم جل وعلا .
وإن أعظم نصرة له صلوات الله وسلامه عليه:
أن يؤخذ عنه الدين أو أن يأخذ عنه في المقام الأول عظيم توحيده لربه تبارك وتعالى ، فإن القلوب لا يستحق أن يملأ على عرشها أحد تحبه وتوالي وتبغض فيه إلا الرب تبارك وتعالى ، ولهذا كانت أعظم آيات القرآن تترى في أمكنة متعددة ، وأزمنة متباينة كلها تبين هذا المنهج العظيم الذي بعث من أجله الرسل وأنزل الله جل وعلا من أجله الكتب .
جاءه العاص ابن وائل وهو بمكة صلوات الله وسلامه عليه وفي يد العاص عظام قد أرمت فنفخ فيها ، وقال : " يا محمد أتزعم أن ربك يحي هذه بعد موتها ." فأنزل الله جل وعلا قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) الخُضرة لا تكون إلا من ماء ، والماء لا يتفق مع النار ، إذ هما خصمان ومع ذلك فإن الله جل وعلا يجعل من الشجر الأخضر نارا ولا يقدر على هذا إلا الله .
والمقصود:أن قلبه صلى الله عليه وسلم ملأ محبة وتوحيدا وإجلالا لله فنشأت دعوته كلها على هذا المبدأ العظيم الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب ، وهذا أعظم ما يمكن أن ينصر به العبد نبيه صلى الله عليه وسلم .
من القبسات المضيئة في سيرته العظيمة صلوات الله وسلامه عليه:
عظيم شفقته ، ورحمته بأمته ، ولهذا حق على كل مسلم أن يعرف لهذا النبي قدره، وعظيم حقه لعظيم ما كان صلى الله عليه وسلم يحمله من المحبة والشفقة والرأفة بأمته ، في رحلة الإسراء والمعراج ، فرض الله عليه في السموات السبع الصلوات الخمس، خمسون صلاة في اليوم والليلة ،فلما عاد صلى الله عليه وسلم لقي أخاه موسى فقال له موسى ارجع إلى ربك فسأله التخفيف فإني قد بلوت الناس قبلك ، وإن أمتك لن تطيق ذلك .
ومن هنا أخذ العلماء إلى أن العلم ينقسم إلى قسمين :
·علم عار عن التجربة .
·وعلم مقرون بالتجربة .
والعلم المقرون بالتجربة مقدم على العلم العاري منها ، فإن موسى عليه السلام ليس بأفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم ، لكن التجربة علمته أن الأمم لا تطيق مثل هذا فرجع صلى الله عليه وسلم إلى ربه يسأله التخفيف ، وما زال يتردد صلوات الله وسلامه عليه بين ربه حتى عاد إلى موسى وأخبره ، أن الله جعلها خمس صلوات ، فقال له موسى كذلك : ارجع إلى ر بك ، فسأله التخفيف ، فقال صلى الله عليه وسلم يعتذر إلى موسى إنني استحييت من كثرت مراجعتي إلى ربي . فلما حفظ صلى الله عليه وسلم مقام الله ، حفظ الله له جل وعلا مقام أمته التي أوكل إليه أن ينافح عنها فسمع مناديا يقول : "أن قد أمضيت فريضتي وأبقيت أجري" ، وأبقاها الله جل وعلا خمس صلوات بأجر خمسين صلاة ، في اليوم والليلة .
ومن هنا أخذ العلماء فائدة : أن من قدم حق الله على حق الغير أكرمه الله وأكرم الغير .
فإن نبينا صلى الله عليه وسلم في المرة الأخيرة ازدحم عنده أمران :
·حق أمته .
· وحق الله .
أدبه مع ربه ، وحق أمته بأن ينفح عنها ويخفف عنها كما طلب منه كليم الله موسى فاختار إلى أن يعتذر إلى موسى ويبقي حق الله تأدبا مع ربه ، فلما تأدب مع ربه صلوات الله وسلامه عليه أكرمه الله بأن جعلها خمس صلوات وجعل تجري على هذه الأمة أجر خمسين صلاة ، الحسنة بعشرة أمثلها ، وهذا من مقامه الرفيع صلوات الله وسلامه عليه ، في أدبه مع ربه تبارك وتعالى .
والمقصود منه : إخبار ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أدب تام ، وحرص عظيم على الشقة والرحمة بأمته في آن واحد .
من شفقته بأمته صلى الله عليه وسلم في الدنيا: أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين وسمى الله وكبر ، وقال في الأول "اللهم عن محمد وآل محمد" ، ثم قال في الآخر : "اللهم وهذا عمن لم يضحي من أمة محمد " شفقة بمن يأتي بعده صلوات الله وسلامه عليه .
ومن شفقته بأمته : أمة إجابة عليه الصلاة والسلام أنه زار المقبرة فقال :" وددت لو أني رأيت إخواني ، قالوا :
يا رسول الله ألسنا إخوانك؟؟ قال: " بل أنتم أصحابي ، ولكن إخواني لم يأتوا بعد وأنا سابقهم إلى الحوض" ،
قالوا : يا رسول الله وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟، قال :" أريتم لو أن لأحدكم خيل غرا محجلة في خيل دهم بهم ، أفكان يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : "فإن إخواني يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض " جعلني الله وإياكم منهم .
هذا كله نماذج من شفقته وحدبه صلوات الله وسلامه على أمته .
كان يقوم الليل وهو عليه الصلاة والسلام ما قام الليل أحد أكرم على الله منه ، فلما تأسى به الناس ، وصلوا بصلاته في رمضان ، وهي قربة وفضيلة إلى الله ، ورفع درجات وتكفير خطايا لغيره ، اعتزلها وتركها وقال: " لقد علمت الذي صنعتم لكن خشيت أن تفرض عليكم"، فخوفه على الأمة أن يفرض عليها ما لا تطيق له حملا جعله صلى الله عليه وسلم يمتنع عن القيام جهرة في تلك الليالي ، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام من عظيم قرباته وجليل مناقبه عند ربه عظم قيامه لليل بين يدي الله جل وعلا .
ومن أعظم أسباب التوفيق وأجل العطايا ، وأعظم المنح ، أن يختار الله عبدا من عباده يقف بين يديه ، في ظلمات الأسحار يسأل الله ويرجوه ، ويدعوه ويناجيه .
لما أتتك قم الليل استجبت لها
تنام عينك أما القلب لم ينمِ
الليل تسهره بالوحي تعمره
وشيـبتك بهود آيـة استقم

صلوات الله وسلامه عليه .
تفقده عائشة ، تقول ظننته ذهب لبعض نسائه ، ووجدته في المسجد قد انتصبت قدماه، يقول في سجوده : " الهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك "
هذه الثلاث النماذج من دلائل شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته في الدنيا .
من شفقته على أمته في الآخرة : أن النار يحشرون عراه أحوج ما يكونون إلى الكسوة ، ويحشرون عطشى أحوج ما يكونون إلى الماء ، ويحشرون ترجمهم الشمس أحوج ما يكونون إلى الظل وهناك يموج الخلق بعضهم في بعض يأتون أباهم آدم فيعتذر ، ويقول: " نفسي إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله ولا بعده مثله "، ثم يأتون إلى نوح يثنون عليه ، رجاء أن يستجيب لهم ، أنت أفضل رسل الله إلى أهل الأرض سماك الله في القرآن عبد شكورا ، فيقول : "نفسي نفسي" ويحيلهم إلى إبراهيم ، ويثنون على إبراهيم فيقول نفسي نفسي ، ثم يأتون موسى ، يثنون عليه يقول:" نفسي نفسي" ، يأتون عيسى ولا يذكرون ذنبا ، ولا يذكر ذنبا ، فيقول:" نفسي نفسي" فإذا أتوا إليه صلوات الله وسلامه عليه ، ماذا يقول ؟ والأنبياء كلهم يقولون:" نفسي نفسي "، هو يقول صلوات الله وسلامه عليه : "أمتي أمتي" ، جعلنا الله من من ينتفع بشفاعته يوم العرض الأكبر .
هذه نماذج من حدبه صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته ، أليس نبيا هذه صفاته ومحبته لنا وشفقته علينا ورحمته بنا جديرا بأن يحب وأن نتقرب إلى الله جل وعلا بحبه واتباع هديه ، واتباع أثره ، صلوات الله وسلامه عليه .
من الجوانب العطر والنضرة في سيرته صلى الله عليه وسلم:
ما أكرمه الله جل وعلا به من الدعوة إلى الله جل وعلا بالأسلوب الأمثل ، وكمال الحسن والرفق في الخطاب ، حتى يبين دين الله جل وعلا على الوجه الأمثل والطريق الأقوم ، ولا تبقى لأحد حجة على الله بعد بعثته ، صلوات الله وسلامه عليه .
وضع على ظهره سلى الجزور ، على كتفيه ، وهو يوم ذاك وإلى الآن ومازال صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق كرامة عند الله .

والاستنباط في القضية- والدرس علمي في المقام الأول:
أن تعلم أن مقام العبد لا يعرف بوضعه عند الناس ، الناس لا يرون منك إلا الظاهر ، لكن الأمر العظيم مقامك عند ربك جل وعلا ، فهذا ساجد عند الكعبة ، وسلا الجزور على كتفيه ، وزعماء قريش ينظرون ، يسخرون ويتضاحكون ، وهو صلى الله عليه وسلم عند ربه في أعلا المقامات وأرفع الدرجات ، والدنيا لم يجعلها الله جل وعلا دار مكافئة ، ومن أعظم ما يدلك على حقارة الدنيا أن الله جل وعلا أذن قدرا أن يعصى فيها ،مما يدل على حقارة الدنيا أن الله جل وعلا أذن قدرا أن يعصى فيها ، وإلا لو كانت للدنيا كرامة عند الله لما أذن الله قدرا لأحد أن يعصيه فيها ، والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة ، ومقامه عند ربه في أرفع الدرجات وأعلى المنازل وأرفع المقامات صلوات الله وسلامه عليه .
وهذا أمر ينبغي لكل من يحيى في هذه الحياة الدنيا أن يستصحبها في مكل شأن ، لأن الإنسان إذا كان ينتظر من الناس مدحا أو ثناءا أو رفيع قدر ، فسيتعب تعبا كبيرا ، لكن أول طرائق العظمة:
أن تبدأ من نفسك ، ولن تكون عظيما حتى تكون عظيم العبودية لله جل وعلا .
واعلم يا أخي:
·أن لله جل وعلا صفات وكلما ازددت عنها بعدا كنت من الله أقرب .
·ولله جل وعلا صفات كلما التصقت بها كنت من الله أقرب .
وهذه الصفات لا تعرف برابط أو قاعدة وإنما تعرف بحيثيات الشرع ، فلا يوجد وضع يضعه ابن آدم فيه ذلة له أعظم من أن يضع جبهته على الأرض ، فهذا موضع ذلة بلا شك ولما كان هذا أعظم موضع ذلة يفعله بنو آدم ، وجب أن لا يصرف هذا الموضع إلا للرب تبارك وتعالى ، قال الله لنيه : (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فلما سجد صلى الله عليه وسلم حيث أمره الله ، كان أقرب إلى ربه جل وعلا ، فكلما ازددت عبودية للرب تبارك وتعالى وانكسارا بين يديه ، كنت إلى الله جل وعلا أقرب ، فإن العظمة من شأنه وحده جل وعلا ، لا ينازعه فيها .
والأمرالآخر: الكِْبر، فإن العظمة والكبرياء رداءان من راء الحق تبارك وتعالى ، فكلما تلبس الإنسان عياذا بالله من رداء الكبر كان من الله جل وعلا أبعد ، لأنه ينازع الرب تبارك وتعالى فيما هو من صفاته وخصائصه التي لا ينبغي أن ينازعه فيها أحد جل جلاله .
على العكس من ذلك فإن من صفات الله جل وعلا الرحمة ، فمن كان رحيما بالخلق طمعا في أن يرحمه الله كان قريبا من رحمة الله جل وعلا قال الله جل وعلا : (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) وقال صلوات الله وسلامه عليه ، ( والشاة إن رحمتها يرحمك الله ) يقول لأحد أصحابه : ( والشاة إن رحمتها يرحمك الله ) ويقول : ( من لا يَرحملا يُرحم ) وكلما كان الإنسان عفوا غفورا عمن حوله ممن يخطؤن عليه كان أدنى من عفو الله جل وعلا ورحمته وغفرانه ، وهذا الذي ينبغي أن تفهم فيه آيات الكتاب المبين ، وأخبار سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .
وعظيم القدر هذا كلما جحده الناس بينه الله جل وعلا بجلاء من حيث لا تشعر ، فنبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية جرى الصلح بينه وبين القرشيين فأخذت الوفود تتفاوت بينه وبين قريش ، كل مرة تبعث قريش رجل منها حتى بعثت سهيل ابن عمرو فقال صلى الله عليه وسلم : ( لقد سهل أمركم ، لقد أراد القوم صلحا منذ أن بعثوا هذا الرجل ) فلما وضع الكتاب ليكتب واتفق الطرفان على الصلح وكان علي رضي الله عنه كاتب نبيا صلى الله عليه وسلم ، قال له صلى الله عليه وسلم : "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فاعترض سهيل وقال : " لا نعرف الرحمن ، ولا الرحيم ) اكتب كما نكتب باسمك اللهم ، صلى الله عليه وسلم ، وكتب باسمك اللهم ، ثم قال لعلي : " اكتب هذا ما قضى عليه محمد رسول الله سهيل ابن عمرو " فقال له سهيل : "لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، لكن اكتب اسمك واسم أبيك "، فرض علي رضي الله عنه أن يمحو ما قد كتب ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أين موضع الكتابة ، أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة وعلم الله به الجن والإنس ، فبين له علي موضعها فمحاها صلى الله عليه وسلم بيده ، ثم أمر عليا أن يكتب هذا ما قاضى عليه محمد ابن عبد الله سهيل ابن عمرو ، من الذي جحد الرسالة هنا ؟ سهيل ابن عمرو فأنزل الله جل وعلا خاتمة سورة الفتح : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) ثم قال : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) ولهذا حذاق القراء من يريد أن يربط ما بين تدبر القرآن والآيات فليقرأ(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) لوحدها ، ثم يأتي بالواو استأنافية ويقرأ: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ) لأن في قول الله جل وعلا: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) رد على من أنكر رسالته ، بعثته صلوات الله وسلامه عليه . وفي الثانية: إخبار بأنصاره في الرسالة ، والمؤمنين الذين آووه ونصروه ، وجاهدوا معه وهاجروا ، من المهاجرين والأنصار ، وثناء الله جل وعلا عليهم من قبل في التوراة والإنجيل ، والغاية من هذا كله أن تعلم : أن الله جل وعلا لا يضيع عنده عمل عامل كائنا من كان ، وأن العبارة بمقامك عند الله جل وعلا وأنت ترى في طيات حياة نبيك صلى الله عليه وسلم ما يدلك على أن العبرة التامة برفيع مقامك عند الله ، ألا ترى أن الخضر وموسى عليهما السلام استطعما أهل قرية فقال الله : (فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا) فامتنع أهل القرية اللئام عن إطعام عبدين صالحين من عباد الله، لكن هذين العبدين لم يغير من ذلك من منزلتهما شيء عند ربهم جل وعلا ، وكيف تعرف قربك من ربك وعلو منزتك عنده ؟؟هذا اعرض نفسك على كتاب الله يقول الله " (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وكل امرئ حسيب نفسه .
من القبسات المضيئة في حياته صلى الله عليه وسلم : ما أجمله الصديق رضي الله عنه في خبر الوفاة ، فإن الأمة لم تفجع بأعظم من فجيعتها بوفاتها بنبيها صلوات الله وسلامه عليه ، وكان أبوبكر في السُنَح وهو عوالي المدينة ، والذي دفع أبا بكر أن يخرج إلى السنح رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد المرض ، أن النبي عليه الصلاة والسلام أطل عليهم في ذلك اليوم ، لما أطل عليهم استبشر الناس خيرا ، فعمد أبو بكر إلى أن يذهب إلى أهله في السنح ، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وشاع ذلك في الناس ما بين مصدق ومكذب قدم أبوبكرمن بيته في السنح دخل على بيت عائشة بوصفها ابنته لا يحتاج إلى إذن ، فلما دخل على حجرة عائشة إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم مسجا على فراشة ، فلما كشف الفراش ، عرف أنه مت ، فقبله بين عينيه واغرورقت عيناه بالدموع رضي الله عنه وأرضاه وقال كلمة تختصر الكثير من العبارات ، قال " طبت حيا وميتا يا رسول الله " فهو عليه الصلاة والسلام طابت حياته وطابت مماته ، لأن حياته وصلاته ونسكه ومماته كان لله رب العالمين ، كما أمره الله جل وعلا في آية الأنعام : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) صلوات الله وسلامه عليه .
أما طيب حياته عليه الصلاة والسلام فقد طاب خُلُقَاً ، وطابا خَلْقاً، طاب خَلْقا: بأن الله جعله في أتم هيئة في خلقه وقد كررنا مرارا وصفه الخَلقي ، فهو عليه الصلاة والسلام : كان سبط الشعر ، لا بالمسترسل ولا بالملتوي ، في جبهته عرق يدره الغضب إذا غضب في ذات الله ، أزج الحواجب أي دقيق الحواجب في غير قرن أي غير مقترنين ، أشم الأنف ، طويل أشفار العينين ، أبيض مشربا بحمرة ، كث اللحية ، الشيب فيه ندرة متفرق ، شيب في صدغه الأيمن ، شيب في صدغه الأيسر ،و شيب في شعره ، وأكثر شيبه أسفل علفقته السفلى ، وجملة ما فيه من الشيب لا يكاد يتجاوز عشرين شعرة ، كأن عنقه إبريق فضة ، من لبته الثغرة التي في النحر إلى أسفل سرته خيط ممتد شعر ممتد على هيئة خيط دقيق، عبر عنه الرواة بأنه دقيق المشربه ، ما بين كتفيه من الخلف شعيرات سود ، اجتمع بعضهن إلى بعض ناتئة عن الجسد قليلا كأنها بيضة حمام ، عريض ما بين المنكبين ، سواء الصدر والبطن ، إذا أشار أشار بيده كله ، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال:" سبحان الله "، وعند البخاري في الأدب المفرد أنه إذا تعجب من شيء عض على شفتيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، إذا مشى مشى يتكفأ تكفأ كأنما ينحدر من مكان عال ، من رآه من بعيد أهابه ، ومن رآه من قريب أحبه ، يقول جابر ابن سمرة : صليت مع النبي صلى الله عليه مسلم صلاته الأولى -أي صلاة الظهر- ، فطفق ولدان المدينة يسلمون عليه ، فصافحته فوجدت لكفه بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤمة عطار " صلوات الله وسلامه عليه ، وقال محمد ابن عمار لرُبَيِّع ابن معوذ : "يا أماه صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: يا بني لو رأيت لرأيت الشمس طالعا "، فقال جابر ابن سمرة خرجت في ليلة ادحيان-أي الليلة البدر فيها مكتمل- فرأيت القمر ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء ، فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فله عندي أجمل من القمر صلوات الله وسلامه عليه وطيبه صلوات الله وسلامه عليه .
وطيبه صلوات الله وسلامه عليه الخَلقي كان مقرونا بطيبه الخُلقي فلم يكن لعانا ولم يكن فحاشا ولا متفحشا ولا سبابا ، قال الله جل وعلا يزكي لسانه : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) وزكى الله بصره (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) وزكى الله جل وعلا قلبه (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) وزكاه الله جل وعلا جملة (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) منّ الله جل وعلا عليه بأن جعله خاتم الأنبياء ، وسيد المرسلين ، وأخذ الله جل وعلا العهد والميثاق على الأنبياء من قبله أنه إذا بعث فيهم وهم حياء أن يتبعوه (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) وكما طابت حياته وطاب خَلقه وطاب خُلُقه طابت مماته صلوات الله وسلامه عليه ، فكان آخر عهد بالدنيا أن استاك ، حتى طيب فاه قبل أن يلقاه ربه جل وعلا ، وبقدر الله يدخل عبد الرحمن ابن أبي بكر إلى بيت عائشة ، وبقدر الله ينظر صلى الله عليه وسلم إلى السواك ، ولا يستطيع وهو نبي الأمة ورسول الملة وسيد الفصحاء أن يقول أعطوني المسواك، ثم تأخذ عائشة السواك من أخيها فتقضمه وتطيبه فيتطيب عليه الصلاة والسلام ، ثم يجري عليه ما يجري على الأنبياء قبله.

وجميع الأنبياء تجري عليهم أحكام خمس :
1.أنهم يرعون الغنم.
2. وأنهم يخيرون عند الموت .
3.وأنهم يدفنون في الموضع الذي مات فيه.
4.وأن الأرض لا تأكل أجسادهم .
5.وأنه تنام أعيونهم ولا تنام قلوبهم .
، فجرى عليه الثالثة من هذه الأمور وهو أن الملك أخذ يخيره ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة ، وما بين لقاء الله ثم الجنة ،و قلب كقلب محمد صلى الله عليه وسلم لا يشتاق إلى شيء أعظم من شوقه إلى لقاء الله فلما خيره الملك ، سمعته عائشة وهو يقول : "مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن ألئك رفيقا، اللهم اغفر لي ، بل الرفيق الأعلى" قالها ثلاثا ، فمالت يده وفاضت روحه صلى الله عليه وسلم إلى أعلا عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى .
متى دفن ؟ توفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين ، ودفن ليلة الأربعاء ، بعد مغرب يوم الثلاثاء ومع ذلك لم يزدد بعد موته صلى الله وسلم بعد موته إلا طيبا ، عليه الصلاة والسلام ، ينظر إلى أصحابه قبيل وفاته في يوم مرضه يقولون تهلل وجهه كأنه ورقة مصحف وهذا ما عناه أبو بكر:" طبت حيا وميتا يا رسول الله " ، يغسلونه مراعاة لحرمته عليه الصلاة والسلام ، لا يحسرون عنه ثيابه ولا تكشف له عورة وإنما يباشر الغسل من فوق الثياب عليه الصلاة والسلام ،ثم لعظيم حرمته عند الله ولطيب مماته عليه الصلاة والسلام ، يلهم الله ألئك الأخيار أن لا يقدمون إماما يصلي بهم على نبيهم ، إنما حتى تصل صلاة كل أحد إليه مباشرة يشعر كل فرد أنه باشر الصلاة إلي النبي صلى الله عليه وسلم ، صلوا عليه أرسالا، فلا يقول أحدهم : صليت خلف أبا بكر على رسول الله ، وإنما يقول : صليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، ثم يكرمه الله بأن يدفن وهذا من خصائص الأنبياء في الموضع الذي مات فيه ، فدفن عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة في الجهة الجنوبية الغربية من الحجرة مكان فراشه ، صلوات الله وسلامه عليه ، في تلك الحجرة كان يناجي ربه ، في تلك الحجرة كان يقوم الليل ، في تلك الحجرة كان يتنزل عليه الوحي ، في تلك الحجرة كان جيب السائلين ، في تلك الحجرة كان يطعم الأضياف ، وفي تلك الروح أسلم الروح وفي تلك الحجرة دفن ، ومن تلك الحجرة يبعث ، صلوات الله وسلامه عليه ، وبقدرالله ترى عائشة قبل مماته أن ثلاثة أقمار تسقط في حجرها ، فتذهب إلى أبيها وهو من المعبرين تخبره بالرؤيا لكن ذهبت إلى الصديق أعلم الناس بنبينا صلى الله عليه وسلم وأكملهم أدبا فاستحيى أن يعبرها حتى لا يخبرها بقرب موت نبينا صلى الله عليه وسلم ، مع أن الموت حق ، فلما وقع ما وقع ومات رسول الله ودفن في الحجرة ، جاء الصديق رضي الله عنه إلى ابنته وقال : ( يا بنية هذا أول أقمارك ) والاثنان الآخران كان الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه وأرضاه ، وعمر رضي الله عنه وأرضاه في يوم موته كانت عائشة رضي الله عنها أحق الناس بالحجرة ، لأنها حجرتها ، وكان الناس يعلمون أنه لم يبقى إلا موطن قبر واحد ، فلما طعن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان لا يهمه إلا أمران : قال لابن عباس : " اذهب فانظر من طعنني ؟؟ فذهب ابن عباس أو ابنه عبد الله ، فعرف أن الطاعن أبو لؤلؤة المجوسي ، فقال : "يا أمير المؤمنين أبشر بالذي يسرك الطاعن أبو لؤلؤة المجوسي" ، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه " الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على رجل ممن سجد لله سجدة" .
إن المؤمن الذي يخشى الله حقا لا يحب أن يأثم أحد بسببه ، ولو كان ذلك الآثم فعلها عدوانا وظلما ، كما فعل عثمان رضي الله عنه ، لما منع الناس أن يحموه حتى لا يراق دم بسببه ، فعمر رضي الله عنه استبشر خيرا أن الذي طعنه لم يكن مؤمنا ، ثم قال لابنه عبد الله : اذهب إلى عائشة وقل لها : "أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه" . فذهب عبد الله واستأذن على عائشة فقالت وهي تبكي : " والله لقد كنت أدخره لنفسي -أي المكان- ولأثرن اليوم على نفسي " فذهب عبد الله فدخل على أبيه قائلا : يا أبتاه ابشر بالذي يسرك ، فخاف عمر أن تكون عائشة قد فعلت ذلك حياءًا لأنه حي ، فأوصى ابنه قائلا :" يا بني إذا أنا مت وغسلتني وكفنتني فاحملني وقل: عمر ابن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه ولا تقل أمير المؤمنين ، يستأذن أن يدفن مع صاحبيه فإني يوم ذاك لست بأمير ، وحتى إذا أرادت عائشة أن تعتذر تعتذر حتى يكون فعلها عن طيب نفس منها ، فحُمل بعد غسله ودفنه ، على أعناق الرجال ثم نودي أن عمر ابن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه ، فأذنت ودفن ، ويقول بعض الرواة والعلم عند الله : أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها بعد أن دفن عمر في حجرتها بنت جدارا ، بينها وبين القبور ، حياءًا من عمر وهو ميت ، قالت : في الأول لم يكن إلا زوجي ووالدي ، أما الآن فزوجي ووالدي ورجل آخر ، تقصد عمر رضي الله عنه وأرضاه ، فإن صحت هذه الرواية وليست ببعيدة أن تصح وأيا كان الأمرفإن المرأة لا ترزق شيئا أعظم من أن ترزق الحياء مع غيرها من الرجال ، لا يمكن أن ترزق المرأة بخصيصة أعظم من خصيصة الحياء مع الرجال ، قال الله جل وعلا عن احدي ابنتي العبد الصالح : (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) .
والمقصود أيها المؤمنون في هذه الأخبار كلها رغم تشعب الحديث بيان كيف مات مماته صلوات الله وسلامه عليه ، ومن هذه الحجرة يخرج صلى الله عليه وسلم وهو أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ، فيجد أخاه موسى آخذ بقوائم العرش فيجد أخاه موسى آخذا بقوائم العرش وانظر لعظيم تمسكه صلى الله عليه وسلم بالقرآن يقول له :
(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فيطبقها عمليا يقول : "إذا بموسى آخذ بقوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" ، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وبدين الله وبالأخبار الشرعية كلها ،ويقول:" لا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" ، صلوات الله وسلامه عليه .
مما يمكن أن يدرس في سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه :
أنه بيّن لأمته بلسان حاله ومقاله على أن يكون التراحم بينهم، وهذا قرره القرآن في الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا : (رحماء بينهم )، والتراحم بين المؤمنين من أعظم الغايات ، وأجل المطالب والمقاصد الشرعية التي جاء بها الدين ونزل بها القرآن ونطق بها رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وهذا المبدأ العظيم كان صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يغرسه في أمته بطرائق متعدد :
يدخل عليّ رضي الله عنه وأرضاه في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجلس ممتلئ بمن فيه ، فيتنحى الصديق قليلا وينادي علي ويقول:" هاهنا يا أبا الحسن" ، ويجلسه بجواره ، فيقول عليه الصلاة والسلام ليقرر مبدأ التراحم ومعرفة قدر الناس بينهم يقول : " إنما يعرف الفضل لألي الفضل ولوا الفضل " وهو ثناء على الصديق وثناء على علي ، وتعليم للأمة صلوات الله وسلامه عليه .
وهذه الرحمة تكون فيك أيها المحب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إن علمت قواعد شرعية :
·أعظمها أن الله جل وعلا يحب من عباده الرحماء .
·والأمر الثاني أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأنبياء قبله ، ثم قال : " وإني لأرجوا الله أن أكون
أكثرهم تابعا " فهو عليه الصلاة والسلام يحب أن يكثر سواد أمته ، وحتى يكثر سواد أمته ينبغي أن نحرص
على الدعوة في سبيل دينه صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا من أعظم أسسه وأجل مقومات أن نتراحم فيما بيننا ، إن الإنسان إذا كان شفيقا رحيما بزوجته ، وأولاده وأبويه في المقام الأول ، وسائر المؤمنين ، كان قريبا من الله محققا لما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته ولما نشر فيها من الفضائل ، ولما دعاهم إليه صلوات الله وسلامه عليه ، من كريم الطباع وجميل الأخلاق أن يتراحم الناس بينهم ، فيما بعضهم البعض .
من الجوانب التي نحاول أن تأملها في هذا اللقاء المبارك : أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على أن يبين لأمته عظيم الموقف بين يدي الله جل وعلا، ومن أعظم ما يعين على الطاعة أن يستحضر العبد وقوفه بين يدي الله قال الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ).
ذكر صلى الله عليه وسلم ذات يوم الميزان وأنه لا يغادر مثقال حبة من خردل إلا توزن فجاءه رجل فقال : " يا نبي الله إن لي أجراء يظلمونني وأظلمهم " فقال صلى الله عليه وسلم بين له أن الأمر يوم القيامة قصاص ، يؤخذ ما عليك وتعطى ما لك ، فقال الرجل بعد أن قرر أن يتخلص من هؤلاء الأجراء تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) بين صلوات الله وسلامه عليه أن الأمر يوم القيامة عظيم جليل الخطب ، يحتاج كل امرئ أن يتقي الله جل وعلا فيه .
هذا أيها الإخوة المؤمنون ما تيسر إيراده وتهيئ إعداده، وإن جاء على عجالة نسأل الله لنا ولكم من فضله العظيم .